رهاناتٌ خاسرة..بقلم/ عفاف البعداني

 

كان نطفةً ومن ثم علقة، أصبح مضغةً ونفخ فيه الروح، ليكون طفلاً بريئًا متحولاً لإنسان يافع مجملاً بأحسن تقويم، مكتسب مهارات متعددة تمكّنه من العيش بسلاسةٍ أكثر، فمضى وكان فرداً واحداً في هذا العالم بين الآلاف وعشرات من البشرية، في داخله صورة مصغرة لحياةٍ انعكاسية مكبرة عاشها منذ طفولته، مراحل نموه على سطح هذه الأرض متعددة وكل مرحلة لها وقعٌ خاص في تنشئته، هناك من تنعم في الحياة بين والديه وهناك من فقدهم منذ صغره، هناك من توفرت له سبل العيش وتجملت له الحياة بالحظ والتوفيق والقبول والرزق السهل، وهناك من منعت عنه أبسط ما يحتاجه، وكان متنقلاً بين البؤس والعناء والهم والكفاح، هناك الغني والفقير المريض والمتعافي، مراتب مختلفة، وكلها لحكمةٍ تتجلى في تقدير حدّده الله لخلقه وبعضها كان نتاجاً لبعض مساعيه الخاطئة.

وهنا في نفسي وهناك في أنفسكم قد تكونت طرائق شتى للعيش على وجه هذه الأرض مع اختلاف مهول في كيفية العيش، نختلف في شكلنا لوننا حجمنا، أسماءنا، أعرافنا، أسلافنا أجدادنا، مدننا شوارعنا طقسنا، وظائفنا، أصدقاءنا أطفالنا، جيراننا، نختلف كَثيراً لدرجة أن لكل منا بصمة خَاصَّة في الرسم والتكوين، إعجاز كامل وضعه الله في هذا الكائن الحي، ومن ثم نأتي لباقي المعجزات التي تحيط بنا في هذا الكون الفسيح، كعظمة الجبال وسعة السماء وعمق البحر، ووجه القمر وبريق النجوم وحمرة الفجر، وشفق المغيب، كلها وجدت بمشيئة إلهية، ولهدف معين، حتى دودة القز التي تعتبر من أصغر مخلوقات الله لها دوراً ورسالةً تؤديها.

وأغلب الخلق الذين يعيشون على هذه الأرض مسلمون ومؤمنون ومحسنون، والبعض القليل ما زال تائهاً عن وجود الله، مع هذا هو يعيش ويتنفس نفس الهواء الذي نتنفسه ويأكل بنفس الطريقة التي نأكل بها، وَنعطى الرزق والعافية سوياً ونتحَرّك بكل حرية وبكل أحقية ودون أي منع، وعلى نفس الكرة الأرضية جميعنا نمارس الحياة، عدالة تيسير للجميع في أن يتعرفوا على الله من خلال أصغر مخلوقاته، هيأت الحياة وهيأ الإنسان على مبدأ التخيير فبوسع كُلٍّ منا أن يختار الطريقة التي يعيش بها والدين الذي يعتنقه، والمكان الذي يعيش فيه، مع وضع قوانين ثابتة ليس لنا أية حرية في اختيارها، كأن نختار أُمهاتنا وآباءنا… إلخ.

رحمته -عز وجل- تجسدت في كُـلّ من مخلوقاته، وجميعها تساعدنا ومعنا جنباً إلى جنب تدعونا أن نقاوم ونجازف ونواجه، تدعونا، لنتعرف على الله ونلجأ إليه ونهتدي بنوره عند كُـلّ نازلة وحادثة، كلها تدعونا إلى أن نكون أقوياء، لنتجاوز مراحل العمر بفوز وفلاح ونعد منزلة أبدية في الآخرة، ومع ترادف هذه الرؤية والنظرة العميقة للحياة وتكوين الإنسان لا زلنا ننظر للحياة بنظرة قاصرة، نريد أن نحيا سعداء لأطول وقتٍ ممكن، نريد أن نرتاح وأن لا نفقد أياً من أشيائنا العزيزة، نريد أن نهدأ لفترة طويلة ونستلذ بكل النعم التي وجدت، نريد أن نصادف أشخاص لا يخطؤون ولا يجرحون ولا تطالهم شائبة وعبثاً تلك المثالية المفرطة التي نحن حثيثو البحث عنها في كُلٍّ منا.

نريد أن نمكث أكثر وقتٍ ممكن، ونتذوق النعيم الذي لن يكون حقيقة إلا بعد البعث، لكني محتارة ولا أدري لماذا على قدر إيمَـاننا بالآخرة واشتياقنا لها ويقيننا بكل ما أخبر عنها القرآن والسنة، يكون إيمَـاننا راسخ بهذه الحياة نريد أن نحيا ونصر على البقاء في كُـلّ مرةٍ مع أن سيد الخلق لم يبقَ فيها ولم يعش يوماً هانئاً يستحق أن نحب هذه الحياة وبهذا القدر، لو قرأنا حياة رسولنا الأعظم سنجد أنه عانى وجاهد وشج رأسه وكسرت رباعيته، أوذي من أقرب الناس إليه، وجاءته حمى لا يقاومها إلا رجلين، مع هذا نقاوم ونخاف أن نموت وفي داخلنا أمنية، نخاف أن نتأذى ونجوع ونفقد من نحب.

نعلم أننا سنتعب ونهلك ونخذل ونهون ونشقى ويغدو الواحد منا جثة ليس الفرح فيها إلا وهو عالق ومهدّد بالسقوط بأية لحظة، مع هذا ما زلنا نحب هذه الحياة ونحب كُـلّ شيء فيها وكأنها وجهتنا الأبدية، نستأمن ونهدأ وَلا شيء يدعو للأمان، تخوننا الأماكن والمشاعر والجهات والمواقف وغالبًا الأشخاص ولا زلنا نهب مزيداً من الثقة والحب والاتصال والتفقد، أي إصرار هذا لم أعد أعرف؟!، نُصفع من أقرب جهة ولا زلنا نلتفت لها كُـلّ مرة، تنتهي آمالنا ونظل ننتظر منها بداية جميلة بأية طريقة، نؤمن أن ثمة حياة سعيدة تنتظرنا في نهاية النفق ويجب أن نعيشها، والحقيقة أن الشقاء هو الوحيد الذي ينتظرنا لا أحد غيره، ندفع رهانات خاسرة لكل درس جديد وأمل مشرق ونضج مكتسب، ونعلم أننا سنذهب ولن يبقى إلا وجه الله، مع هذا نخاف الموت بسرعة، وكم نحب البقاء لأطول فترة ممكنة، أليس هذا فعلاً ما يدعونا للغرابة!.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com