في رحاب الشهداء

 

جهاد اليماني

(أمَّا الآن فإلى رحابِ الشهداء).. هكذا يستهلُّ مذيعُ نشرةِ أخبار الثامنة والنصف مساءً على قناة المسيرة استعراضَ مواكب الإباء وقوافل العطاء لشهدائنا الأبرار..

وهنا عند هذه الرحاب غالبًا ما أقترح على والدتي تغييرَ القناة أَو إغلاقَ التلفاز، فقلبي لا يحتملُ ومشاعري لا تطيقُ مشاهدَ الأبطال وهم يُزفون إلى روضاتهم وهم لا زالوا في عمر الورد..

لكن والدَتي لا تسمحُ بتغيير القناة رغم وجعها الكبير وألمها الشديد وقوافل الدموع التي تعبر خَدَّيها كلما مرت قافلة لأُولئك العظماء..

وكالمعتاد تكرّر طلبي، مساء الأمس، فكان هذا الرد من والدتي الكريمة:

ابنتي العزيزة إن هذه اللحظات التي تجمعنا بالشهداء رغم وقعها الشديد على النفوس ورغم الألم، إلا أنها تجعلنا نستشعر عطائهم وعظيم بذلهم..

إن لكل واحدٍ من هؤلاء الشهداء عوائلَ تحترق ألماً وتنزف دموعها دماً ونحن نستكثر على أنفسنا مشاركةَ هذه القلوب لحظات من الوجع الذي لا ينفك عنها ولن ينفك أبد الدهر وقد فارقت أعزاءَها وفلذات أكبادها..

نعم يا ابنتي شاهدي بعيون القلب والواجدان لتصفوَ روحك وتزكوَ نفسَك ويستيقظَ ضميرُك وتعلوَ همتُك في الجهاد ولو بالكلمة الصادقة والموقف المشرف.

وحين تشاهدين هذه المواكب عليك أن تتخيلي أن ذلك المحمول على الأكتاف أخوك أَو والدُك أَو أحد أقاربك..

ضعي نفسك وكل من يشاهد في هذا الشعور حتى لا تصبح تلك المشاهد روتينيةً ويصبح عطاءُ الدم شيئاً عادياً ومألوفاً بالنسبة لنا..

كان لكلمات أمي صدىً بالغٌ في النفس جعلني أتابعُ قوافلَ العظماء حتى آخر مراسل وآخر محافظة وآخر روح حلقت في فضاء الشهادة..

وأقول هنا إكمالاً لما بدأته والدتي العزيزة:

حَــرِيٌّ بالمسؤولين والساسة أن يشاهدوا تلك القوافل، وأن تكون مشاهدتهم باستشعار ووعي؛ ليكونوا أكثرَ نزاهةً وأمانة ومسؤولية ووفاءً وخدمةً للشعب والقضية التي نزف الشهداءُ لأجلها دماءهم وأن يحفظوا أمانةَ الشعب وأمانة الشهيد..

فهم لم يتبوأوا تلك المناصبَ والرُّتَبَ إلا بفضل تلك الدماء..

حَــرِيٌّ بجميع التجار وأصحاب رؤوس الأموال أن يشاهدوا باستشعارٍ ومسؤوليةٍ قوافلَ العطاء لتهونَ الدنيا في أعينهم وَليرفدوا جبهات البذل والتضحية، فلولا الشهداء لما أَمِنُوا على أموالهم وأداروا تجارتهم في سكينة واطمئنان.. عليهم أن يغدقوا على الفقراء والمحتاجين والبائسين من كُـلّ فئات الشعب، وأن يقاطعوا بضائع دول العدوان ومنتجاتهم، فليس من الوفاء للشهداء أن نرفدَ اليد التي امتدت بطغيانها وفجورها لتريق الدماء وتزهق الأرواح..

حريٌّ بجميع الناس في حفلاتهم ومناسباتهم وأعراسهم أن يشاهدوا المواكبَ أثناء بثها ليدركوا أن تلك الزهور التي يتهادونها وتلك التهاني التي يتبادلونها ليست إلا قطوف لتلك الدماء الزاكية الطاهرة.

حَرِيٌّ بجميعِ النساء والفتيات في المحافظات الحرة اللاتي يعشن العزة والكرامة أن يشاهدن مواكب الأولياء ليزددن وعياً وحياءً وحِشمةً وعَفافاً، فالشهيد لم ينزف دمَه إلا صوناً للعرض وحفظاً للكرامة، فلا تهدر الفتاة كرامتَها وتقتل حياءَها بابتعادها عن القيم والفضيلة والأخلاق..

وعلى أُولئك الذين لا يزالون خلفَ أسوار الجمود وخارج نطاق تغطية الجهاد والصمود أن يشاهدوا عنفوانَ الرجال وعطاءَ الأبطال؛ ليستيقظوا من سباتهم، ويتنبهوا من غفلتهم، فتلك المشاهد كفيلةٌ بإيقاظ الضمائر ونفخ روح الإباء والعزة والكرامة..

نعم إن عطاءَ الدم يفوقُ كُـلَّ عطاءٍ وبذل، ونحن مدينون للشهداء وأسرهم بما نحن عليه اليوم من عزة وكرامة وانتصار..

فلولا تحمُّلُهم المسؤوليةَ وانطلاقُهم لجبهات القتال بعزم لا يلين، لَكان المحتلّ الأجنبي والمرتزِقة الأنذال قد تمكّنوا من احتلال البلاد وعاثوا فيها هتكاً وقتلاً وسحلاً وتنكيلاً..

لقد وقف هؤلاءِ الرجالُ الرجالُ سداً منيعاً وصخرةً فولاذيةً تحطمت عليها أحلامُ الغزاة وانكسر عليها جبروتهم، لم يتراجعوا حتى نزفت دماؤهم وانطفأت أعينهم وسكن نبض قلوبهم؛ ليسلّموا مواقعهم وثكناتهم لمن يتحمل الأمانة بعدهم ويسد الفجوة ويفي بالعهد لهذه الدماء النازفة ولهذا الوطن الجريح وتلك القضية العادلة التي بذلوا في سبيلها المُهَجَ والأرواح، وما أعزها من مهج وما أغلاها من أرواح!.

لقد كان لهؤلاء الشهداء كغيرهم من بني البشر طموحاتٌ وأحلامٌ، كان لديهم أباءٌ وأُمهات وإخوةٌ وأخواتٌ وأبناء وزوجات، وكل تلك المغريات الدنيوية.. التي تجعل المرء يتشبث بالحياة، لكن الوطن الذي يناديهم والأنفة والغيرة والحمية والعزة والكرامة التي تغلي في دمائهم، وحرارة الإيمان ووهج اليقين وعظمة المسؤولية وتوقد العزيمة وصلابة الإرادَة وسمو الهدف ونبل المقصد وعدالة القضية جعلتهم ينطلقون في ميدان المواجهة، تاركين حياةَ الهدوء والاستقرار إلى حيث الشظايا والنار؛ لأَنَّهم يدركون أن عاقبةَ التهاون أشدُّ وأمرُّ..

إن هؤلاء المحمولين على الأكتاف هم من حملوا هَمَّ الأُمَّــة، هم الراسخون في الإيمان، الراسخون في اليقين، الراسخون في الثقة، الراسخون في حب الله والثقة بوعده ووعيده، فركنوا إليه وثبتوا في ميدان المواجهة، وقد تعمق في وجدانهم أنهم إن ارتقوا شُهداءَ سيحفظون بهذا العطاء للوطن كرامتَه، وسينالون كرامةَ الحياة الأبدية الخالدة التي لا موتَ فيها ولا فناءَ جوار الله الكريم..

إنها الشهادة في سبيلِ الله والقضية!!

ذلك المعنى العظيم الذي أخذ ألبابَهم وتملّك وجدانَهم.. والذي جعل المرأة أماً وأختاً وبنتاً وزوجةً تدفع بعزيز روحها لميدان المواجهة، بل وتستبشر إن عاد مقلداً بذلك الوسام الرباني، بل وترسل بعده من يسد الثغرة التي تركها.. وقد كانت قبل ذاك تشفق عليه من نسمة الهواء ووخز الشوكة!!

إن على جميعِ أفراد الشعب -مواطنين ومسؤولين- مسؤوليةً عظيمةً تجاه الشهداء وتلك المسؤولية هي المُضِيُّ في طريقهم والسيرُ على خُطَاهم، وعليهم أَيْـضاً مسؤولية كبيرة ومستمرة تجاه أسرهم، فهم أمانة ذلك الشهيد الكريم الذي أنفق دمَه، وَحَرِيُّ بالأمة أن تنفقَ ما يوازي ذلك الدم، ومهما قدمت فليس بمقدورها أن تفيَ الشهيدَ حقَّه، فكنوز الدنيا لا توازي قطرةً من ذلك العطاء.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com