السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية الـ 14:

 

الإحسان عنوان مهم وأساسي في القرآن الكريم وفي التربية الإيمانية وهو يطيب نفسية الإنسان ويزكيها

هناك خصوصية في مستوى الإحسان بالوالدين وينبغي أن يكون أعلى مراتب الإحسان في العلاقات البشرية

عندما يسود الإحسان المجتمع فإن الخير سيسوده والتعاون والمحبة والألفة وغيابه يعني اضطراب المجتمع وتفككه

 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.

اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..

السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

في سِيَاقِ الآيةِ المباركةِ من سُورةِ الأنعام يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام: من الآية151]، بعدَ قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الأنعام: من الآية151]، في سياق قائمةٍ من المحرَّمات التي حرَّمها اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وفي أولها، وعلى رأسها، وأهمها: الشركُ بالله، فهو أَوَّلُ المحرمات، {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، وتحدثنا عن هذا، وأتى بعد ذلك قوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، نجدُ أنه في هذه الفقرة من النص القرآني، في هذه الفقرة لم يأتِ ليقولَ: [ولا تسيئوا إلى الوالدين]؛ لأَنَّه لا يكفي في علاقتك بوالديك عدم الإساءة، فتكون غير محسن، وغير مسيء، لا بدَّ من أن تكون محسناً، وَإذَا لم تكن محسناً؛ فهذا ذنب، من المحرَّم عليك أن تكون غير محسنٍ إليهما، فلا بدَّ من الإحسان، لا يمكن أن تقولَ: [لن أحسن ولا أسيء، وستكونُ علاقتي بوالديَّ علاقة عادية، كعلاقتي بأيِّ إنسان عادي، فلا أحسن إليه، ولا أسيء إليه]، لا بدَّ من الإحسان، هو العنوان الذي يضبط طبيعة هذه العلاقة مع الوالدَين.

ثم بالنسبة للترتيب، بعدَ حَقِّ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهو رَبُّنا العظيم، المنعِمُ الكريم، الخالقُ الملك، يأتي الحديث في هذا الترتيبِ نفسِه عن الوالدين، والعلاقة مع الوالدين، والإحسان إلى الوالدين؛ لعظيم حقهما عليك، ففي الواقع البشري يأتي حق الوالدين كحقٍّ عظيم، ويأتي ترتيبه في الآيات القرآنية منها في هذه الآية المباركة، ومنها في سورة الإسراء، عندما قال الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء: من الآية23]، وهكذا في موارد أُخرى من القرآن الكريم، فالترتيب هذا بحد ذاته يبين لنا أهميّة المسألة في موقعها من الدين، في موقعها في التزاماتنا الإيمانية، في موقعها في التوجيهات الإلهية، فليكن عندنا هذه النظرة تجاه هذه المسألة بحسب أهميتها الإيمانية والدينية والإنسانية.

الإحسانُ هو عنوانٌ مُـهِـمٌّ وأَسَاسيٌّ في القرآن الكريم، وفي التربية الإيمانية، وفي توجيهات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وبشكلٍ عام، إنما هناك خصوصيةٌ في مستوى الإحسان فيما يتعلق بالوالدين، فالإحسانُ إليهما ينبغي أن يكونَ أعلى مراتب الإحسان في العلاقات البشرية، وفي التعامُلِ مع الناس، فلهما خصوصيةٌ في مزيدٍ من الاحترام، والتوقير، والاهتمام بأمرهما، والإحسان إليهما في التعامل، وفي الاهتمام بأمرهما.

ولهذا يأتي في القرآنِ الكريمِ التركيزُ على موضوع الإحسان في كثيرٍ من التوجيهات الإلهية، في عرضٍ للمواصفات التي يتَّصف بها ويتحلى بها المحسنون، وكذلك في الوعد بالأجر، والثواب، والخير، والمنزلة عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

يقولُ اللهُ “جَـلَّ شَأْنُــهُ” في القرآنِ الكريمِ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: من الآية195]، أمرٌ بالإحسان، وهذا أمرٌ عام: أن تكون محسناً في علاقاتك بشكلٍ عام، في تعاملك بشكلٍ عام، وكذلك في اهتمامك بأمر الآخرين، وهذا يبدأ من واقعك النفسي، من مشاعرك، من وجدانك، من ثقافتك، من فهمك للدين، ولدورك الإنساني، ومسألة الإحسان سواءً على مستوى التعامل، أَو على مستوى الاهتمام بأمر الآخرين، وبالذات من هم من الفئات المُعانية، عندما تهتم بالفقراء، عندما تهتم بالمساكين، عندما تهتم بالمظلومين، عندما تهتم بأمر المستضعفين، ثم -بشكلٍ عام- عندما تهتم بالمنكوبين، بالمتضررين، وهكذا بشكلٍ عام، الإحسان هو فطرة لدى الإنسان، والإنسان يستشعر أنَّ الإحسان هو قيمة إنسانية وأخلاقية، في نفس الوقت نرى أنه قيمة دينية ذات أهميّة كبيرة في الدين، والتوجيهات القرآنية تعطيه أهميّة كبيرة.

والإنسانُ يستشعرُ بفطرته جمالَ هذه القيمة، كم لها من بُعدٍ إنساني، وأثرٍ إنساني، وإيجابية في مشاعر الإنسان، هي تعبِّر عن فضيلة، وعن خُلُقٍ حسن، وعن نفسٍ طيِّبة، فالإنسان المحسن هو في نفسه غير أناني، هو يحب الخير للآخرين، يحمل إرادَة الخير للآخرين، يفكِّر بالآخرين، يهتم بأمرهم، ليس أنانياً لا يفكر إلَّا بنفسه، ولا يبالي بغيره، ليس من النوع الحريص الجشع الطامع، الذي يتجه كُـلّ همه في إطار شخصيته ونفسه فحسب.

ولذلك انعدامُ حالة الإحسان لدى الإنسانِ تعبِّر عن خللٍ تربوي، عن خلل في نفسيته، في قيمه الإنسانية والإيمانية؛ لأَنَّها تعبِّر عن حالةٍ من الأنانية، إلى درجة أنه لا يفكِّر بأمر الناس، ولا يستشعر معاناتهم، وقد يكون الإنسان في مجتمع فيه الكثير ممن يعاني، يعاني من الظروف الصعبة، من الفقر، من المرض، من…، ويرى مجتمعه أَيْـضاً إمَّا مجتمعاً مظلوماً مضطهداً، إمَّا مجتمعاً فيه المنكوبون، وفيه المعانون بمختلف أنواع المعاناة، فإذا وصل في قسوة قلبه، وتبلد مشاعره الإنسانية، ألَّا يأسى لحالهم، وألَّا يتألم لآلامهم، وألَّا يبالي بهم، وألَّا يكترث بحالهم، فالحالة هذه حالة خطيرة جِـدًّا، تدل على إفلاس في مشاعره الإنسانية، في قيمه الإنسانية، وتدل على ضعفٍ كبير في إيمانه؛ لأَنَّ للإيمان الأثر التربوي في نفسية الإنسان وفي مشاعره، تكون مشاعر خَيِّرة، معطاءة، رحيمة، الإنسان يتربى على أَسَاسِ الرحمة حتى في مشاعره، تتجذر الرحمةُ بالآخرين حتى في وجدانه، وحتى في شعوره، فيتألم عندما يرى حالاتٍ مأساويةً، على مستوى المظلومية، أَو على مستوى الفقر، أَو على مستوى النكبة، أَو على أي مستوى من المستويات التي تجمعها كلها عبارة المعاناة.

عندما يكون الإحسانُ موجوداً في مجتمعٍ من المجتمعات كسلوكٍ عام، وكغريزةٍ حافظ عليها الناس، وفطرةٍ نمت في مشاعرهم ووجدانهم وإحساسهم، وتجسَّدت كسلوكٍ في معاملاتهم واهتماماتهم، فَـإنَّ هذا المجتمع سيسوده الخير، والمحبة، والألفة، والتعاون، وَأَيْـضاً سيكون من الواضح فيه مستوى التكافل الإنساني، والتراحم فيما بين الناس، وهذا فيما هو ذو قيمة إنسانية عظيمة جِـدًّا يعبِّرُ عن أنَّ هذا مجتمع فيه الخير، فيه الإنسانية، فيه القيم العظيمة، فهو أَيْـضاً له أهميّة كبيرة على مستوى الاستقرار، على مستوى القوة في وحدة ذلك المجتمع، الانسجام فيما بين أبناء المجتمع، ترسيخ العلاقات الإيجابية فيما بين أبناء المجتمع، هذا له أهميّة كبيرة في أمنهم واستقرارهم، وصلاح حياتهم.

أمَّا كلما غابت، إذَا غابت مثلُ هذه القيم من أوساط المجتمع، وسادت حالة القسوة، وانعدام التراحم، واللامبالاة بأمر الآخرين، وعدم الاكتراث لحال من يعاني، فهذا المجتمع بقدر ما يتجلى فيه الخواء الإنساني، والإفلاس القيمي، وضعف الإيمانِ، فهو أَيْـضاً سيفقدُ الاستقرارَ في داخله، ستزدادُ الفجوةُ والتبايُنُ فيما بين أبنائه، ستنتشرُ البغضاءُ والكراهيةُ بين أفراد مجتمعه، سينتج عن ذلك إشكالات كثيرة، سيكون مجتمعاً بعيدًا عن أن يتوحدَ في القضايا الكبيرة والجامعة التي تهمه، والتي ينبغي أن يتوحد، وأن تجتمع كلمته للتصدي لها؛ لأَنَّ هناك القضايا الجامعة، القضايا الهامة، التحديات الكبيرة، المسؤوليات الجماعية، هذه كلها تحتاج إلى أن يكون أبناء المجتمع فيما بينهم في حالةٍ من الأُلفة، والأُخوة، والتعاون، والتراحم، والتقارب، والعلاقات الإيجابية، والمشاعر الإيجابية، فإذا سادت حالةُ الفُرقة، والتباين، والبغضاء، والكراهية، والتنافر، وعدم الاكتراث، كُلٌّ لا يكترث بالآخر، فهذه الحالة السلبية جِـدًّا ستكون عائقاً عن وحدة الكلمة، وعن الاعتصام بحبل الله جميعاً، عن الاجتماع في القضايا المهمة، في القضايا الكبيرة جِـدًّا، ولهذا نجد أنَّ الإحسان بقدر ما هو ذو قيمة إيمانية وأخلاقية وإنسانية، له أهميّة كبيرة في أمور المجتمع، في قضايا المجتمع، في أن يكون المجتمع مجتمعاً قوياً في مواجهة التحديات التي عليه أن يتعاون في التصدي لها، وفي النهوض أَيْـضاً بالمسؤوليات الجماعية التي عليه أن يتحَرّك فيها كأمةٍ واحدة.

يأتي الحديثُ عن الإحسانِ في القرآن الكريم بهذا الترغيب الكبير، وبهذا التشجيع العظيم جداً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فالمجتمع على مستوى المجتمع بشكلٍ عام، والإنسان بمفرده أَيْـضاً بشكلٍ شخصي، إذَا كان محسناً، فهو يحظى بمحبة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وأكرم بهذا من شرفٍ عظيم، هذا مفتاحٌ لكل خير، أنت عندما تحظى بمحبة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فهذا بحد ذاته شرفٌ كبير، أعظمُ وسام شرف يمكن أن ينالَه الإنسانُ: أن يحظى بمحبةِ الله رَبِّ العالمين، ملكِ السماوات والأرض، وأن يكونَ بذلك في مصاف أوليائه وأحبائه، هذا شرف، شرف عظيم جِـدًّا.

البعضُ من الناس لو عرف أنه يحظى بمحبةِ ملكٍ من ملوك الدنيا، رئيس، زعيم، مسؤول في مرتبة معينة، شخص له نفوذ معين، شخص له أهميّةٌ معينة، وأنه أصبح يحظى بمحبته، وله منزلةٌ عنده؛ لرأى في ذلك شرفاً كَبيراً، ولاسْتَشْعَرَ من خلال ذلك بالراحة النفسية، والاعتزاز، أصبح يحس أنه شخص له أهميّة وله قيمة، وإلَّا لما حظي بمحبة عند ملك، أَو رئيس، أَو وزير، أَو مسؤول، أَو شخص له أهميّة وقيمة اعتبارية.

أما عندما يكونُ من تحظى بمحبته، بالمنزلة عنده، بالمرتبة الرفيعة لديه، هو الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ملك السماوات والأرض، رب العالمين، ذو الفضل العظيم، فهذا هو الشرف الكبير، ولكن لسوء حظنا، ولحقارة أنفسنا، ولضعف تربيتنا الإيمانية، قد لا ندرك قيمة هذه المسألة، أهميتها، قد لا نستشعر مدى عظمتها، ولكن لنسعى من خلال التربية الإيمانية أن نستشعرَ مثلَ هذه القيمة العظيمة، والأهميّة الكبيرة، هذا أمرٌ تتوق إليه نفوس أولياء الله، يتسابقون، ويتنافسون، ويسارعون، في كُـلّ ما يعرفون أن فيه محبةَ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وأنهم سيحظَون من خلاله بمحبة الله “جَـلَّ شَأْنُــهُ”، شرف عظيم، منزلة رفيعة جِـدًّا.

وأيضاً ما يترتب على ذلك من رعاية الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ورعاية خَاصَّة، بأكثر من رعايته الشاملة لكل عباده، فضل الله ورحمته عمَّت كُـلَّ خلائقه، وكُلَّ عبادِه، ولكن الرعايةَ التي هي بمحبة هي رعايةٌ خَاصَّةٌ بأوليائه، يمنحُهم فيها ما لا يمنح سائرَ عباده في رعايته الشاملة، ورحمته الواسعة.

عندما نتأمل مثلاً في واقعنا كصورةٍ تقريبيةٍ للذهن، كيف تتعامل مع من تحبه، وماذا يمكن أن تخصه به نتيجةً لمحبتك الكبيرة له، فعلاقتنا بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، عندما نحظى فيها بمحبة الله، ستأتي فيها الرعاية الخَاصَّة، المزيد من الهداية، والتوفيق، والعزة، ورعاية خَاصَّة في أشياءَ كثيرةٍ، كما أنها ضمانةٌ للسلامة من عذاب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فهي ترغيبٌ كبيرٌ جِـدًّا، عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195]، وتكرّر هذا في القرآن، أَيْـضاً من مثل قوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في أوصاف المتقين، هو يعرضها في سورة آل عمران، عندما قال “جَـلَّ شَأْنُــهُ”: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: الآية134]؛ لأَنَّ هذه كلها مواصفات هي مواصفات للمتقين، وهي إحسان، فالإحسان ملازمٌ للتقوى، فالإنفاق في السراء والضراء هو لصالح من؟ لصالح المظلومين، لصالح الفقراء، لصالح المحتاجين، لما يخدم عباد الله، لما فيه المصلحة لعباد الله بشكلٍ، أَو بآخر.

وكذلك كظم الغيظ والعفو عن الناس، هذا سلوك إحساني رفيع جِـدًّا، هذا من السلوك والتعامل بالإحسان، عندما تكظم غيظك تجاه من استفزك، تجاه من زل نحوك من أبناء مجتمعك المؤمن، عندما تعفو، فأنت تمارس هذا السلوك، الذي هو إحسان، وفي نفس الوقت لهذا أهميته الكبيرة في تقليص المشاكل في داخل المجتمع، والحفاظ على وحدة كلمته، للنهوض بمسؤولياته الكبيرة، ولتحَرّكه في المواقف المهمة.

فيختم هذه المواصفات التي عرضها في الآية المباركة بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ لأَنَّها كلها إحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهو من أعظم ما قدمه الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” من المرغبات في الإحسان، مما يشجِّعُ عليه، ومما يساعد على اندفاع الإنسان إليه.

يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أَيْـضاً في القرآن الكريم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: من الآية56]، رحمةُ الله واسعة، ورحمتُه في الآخرة، ورحمته في الدنيا، هي أقرب ما تكون إلى المحسنين من غيرهم، يعني: هم من يحظون برحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أكثر من غيرهم، وهم من هم أقرب إلى رحمة الله في كُـلّ المواقف، في كُـلّ الظروف، في كُـلّ المراحل، عند كُـلّ التحديات، هم الأقرب دائماً إلى أن يحظوا برحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

يقولُ “جَلَّ شأنُه”: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة: من الآية120]، فإحسانك لن يضيع منه شيءٌ أبداً، ولا يخفى على الله منه شيءٌ أبداً، قد لا تلحظ تفاعل مع إحسانك من جانب الناس، أَو من جانب بعضهم، أَو قد تتصور في بعض الحالات أنه ما قيمة إحساني هذا؟ ما هي ثمرته، ما هي جدواه، قد تتخيل هذا التخيل تجاه ما قد تلاقيه من جفاء من البعض، وإساءة من البعض، واستفزاز من البعض الآخر، ونكران من البعض الآخر، ولكنك لأَنَّك مخلصٌ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وتتجه بآمالك نحوه “جَـلَّ شَأْنُــهُ”، فهو لن يضيع من أجرك شيء، كُـلّ ما تقدمه في إحسانك، في التعامل، والعطاء، والاهتمام بأمر الآخرين بكل أشكاله، فهو مكتوبٌ لك عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، لك عليه الأجر، لك عليه المقابل الكبير، عندما تكظم غيظك، عندما تعفو، عندما تقدم المال، عندما تحسن بكل أشكال الإحسان، فهذا له أهميته عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أثره في الواقع، قيمته، والله لن يضيع شيئاً من أجرك، كله محسوب، وكله لن يضيع منه مثقال ذرة.

يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أَيْـضاً عن جانبٍ من جوانب الإحسان الكبيرة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: الآية6]، يُعتبَرُ الجهادُ في سبيل الله وفق مفهومه القرآني الصحيح من أعظم الإحسان، من أعظم مراتب الإحسان، ومن أكبر ما تحسن فيه إلى الناس؛ لأَنَّ الجهاد في سبيل الله -كما كرّرنا هذا كثيراً- ليس وسيلةً لحماية الله والدفاع عنه، هو القوي العزيز، والغني الحميد، الجهاد في سبيل الله هو وسيلة لحماية الناس، لدفع الشر عنهم، لدفع الخطر عنهم، لدفع العدوان عنهم، لدفع المجرمين والأشرار عنهم، فهو وسيلة حماية للناس أنفسهم، ووسيلة دفاع عنهم وهو دفع للخطر والشر والإجرام عنهم، منعٌ للمجرمين والأشرار المتسلطين من السيطرة عليهم، والاستعباد لهم، والإذلال لهم، والامتهان لكرامتهم، فهو إحسانٌ كبيرٌ إلى الناس، عندما تجاهد في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فأنت تحمي مجتمعَك من أن يستعبد من المتسلطين الطغاة، من أن يقهرَ ويُذَلَّ ويهانَ من خلال سيطرة الأشرار والمجرمين، أنت تدفع شر العدوّ عنه، أنت تتصدى لذلك العدوّ الذي يستهدف مجتمعك، يظلم أمتك، يقهر شعبك، وهكذا يعتبر هذا من أكبر الإحسان إلى الناس، وأنت قد تقدم حياتك في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وأنت تدفع عن شعبك هذا الشر، وعن أمتك هذا الخطر، فيعتبر هذا من أعلى مراتب الإحسان، ولهذا ختمت هذه الآية المباركة بقوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

فنجد من مثل قوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، كُـلّ هذه المرغبات الكبيرة في الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: من الآية148]، وهنا: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، المحسنون وهم يجاهدون في سبيل الله، وهم يقدمون في سبيل حماية أمتهم الغالي والنفيس، حتى أرواحهم في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” والمستضعفين من عباده، هم يحظون بمعية الله، أن يكون الله معهم، وهذه عبارة مهمة جِـدًّا؛ لأَنَّها جامعة لكل خير، إذَا كان معهم، فهم الأقوى، هم المنتصرون، هم الذين سيفلحون، هم سيحظون برعايته القوية والعجيبة والشاملة والواسعة… إلخ.

فأيضاً نجدُ من مثل قوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وهو يحكي عن نبيه يوسف “عليه السلام”{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، نبي الله يوسف، وأنبياء الله بشكلٍ عام، من أعظم الصفات البارزة فيهم هي الإحسان، وكان من يعرفه يقول عنه إنَّا نراك من المحسنين.

هنا يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أن نبيَّه يوسفَ “عليه السلامُ”، وحكى نفسَ الشيء عن نبيه موسى “عليه السلامُ” {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} في مرحلة شبابه، {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} آتاه الله حكماً، وآتاه علماً؛ فكان حكيماً، وكان عالماً، ثم يختم هذه الفقرة بقولة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: الآية22]، ليبيين أنها سُنَّةٌ من سننه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وأنه يعطي عبادَه المحسنين حكماً وعلماً، هذا ترغيب كبير جِـدًّا، فهي وسيلة من الوسائل التي تحصل بها على العلم والحكمة، الإحسان، الإحسان، هذا ترغيب كبير، ويدلنا على أهميّة الإحسان، وما ينال المحسنون من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

فالإحسانُ هو قاعدةٌ أَسَاسيةٌ للتعامل، وروحية مهمة جِـدًّا ملازمة للتقوى والإيمان، ويبدأ التعامل على أَسَاس الإحسان والعلاقة على أَسَاس الإحسان، ابتداءً من محيطك الأسري، من والديك أولاً، ولهما خصوصية في هذا التعامل، بالمزيد من الاحترام والتوقير، ألَّا تسيء إليهما، وفي نفس الوقت أن يتجلى إحسانك إليهما في التعامل، والتخاطب، والاهتمام بأمرهما، مثلما قال في سورة الإسراء: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: من الآية23]، حتى في طريقة التخاطب والقول، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، وتصلُ أهميّة هذه المسألة إلى درجة أن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” نهى عن الإساءة إلى الوالدين حتى المشركين، حتى ولو كانا مشركين، قال “جَـلَّ شَأْنُــهُ”: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}[العنكبوت: من الآية8]؛ لأَنَّه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله، حتى لو كان الأب، ولو كانت الأُم، من يأمرك بما هو معصية لله، لا يجوزُ أن تطيعَه فيما هو معصيةٌ لله، ولكن مع ذلك يقولُ: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لُقمان: من الآية15]، تبقى الصُّحبةُ بالمعروف، تبقى مسألةُ الإحسان، في الاهتمام بأمرهما، في العنايةِ بهما، في طريقة التعامل المحترمة معهما دون طاعةٍ فيما هو معصيةٌ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، سواءً تجاه ما أمر، أَو تجاه ما نهى.

فنكتفي بهذا المقدار..

وَنَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكم لما يرضيه عنا، وَأَنْ يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم الصيامَ، والقيامَ، وصالحَ الأعمال، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com