الصومُ تحت القصف.. الدرسُ الكبيرُ في الصبر!

المسيرة – أحمد داوود

ابتلى اللهُ اليمنيين بعدوانٍ غاشمٍ لا يفرِّقُ بين صغير أَو كبير، ولا يُعطِي حُرمةً لشهرٍ مقدَّسٍ أَو أَيَّـامٍ مباركة، فسفكُ الدم اليمني لديه مقدَّمٌ على كُـلِّ شيء.

أزيزُ الطيران لا يزالُ يشكِّلُ هاجساً مُخيفاً بالنسبة لي، والولوج إلى شهر رمضان يعني الدخول إلى عالم الأحزان، أتحدث هنا من واقع تجربتي الشخصية، ولا سيما بعد واقعة الحادي عشر من شهر رمضان سنة 2019، والتي حدث فيها القصف المريع لحي “الرقَّـاص” بأمانة العاصمة، واستشهد على إثرها “والدتي” ونجلا أخي، حين استهداف طيران العدوان منزل أخي الإعلامي الكبير وسفير اليمن حَـاليًّا في سوريا الأُستاذ عبد الله علي صبري داوود.

كانت الفاجعة في ذلك اليوم بالنسبة لي تعني تعلم دورسٍ جديدة في الصوم، وأن الصبر على الجوع والعطش لا يقارن أمام الصبر على الابتلاءات الكبرى، كأن ترى “أمك” مضرجة بالدماء وتنتشل من بين الأنقاض ليتم نقلها إلى المستشفى وهي في حالة احتضار، ثم تعيش بعد ذلك تفاصيل متعددة مع الصبر وتحمل المصاعب، وتنسى في ذلك اليوم الجوع والعطش، ولا تشعر بأنك صائم إلا بعد صلاة العشاء.

تعلمت في تلك الأيّام ونحن في المستشفى طيلة عشرين يوماً في شهر رمضان أشياء كثيرة، فأدركت أن الطبيب الصائم المخلص في هذا الشهر، الحريص على الدوام والعناية بالمرضى والجرحى والمصابين قد يكون أجره عند الله أفضل بكثير من ذلك الطبيب الذي يفضل البقاء في المنزل والمداومة على صلاة الجماعة في المسجد والاعتكاف لقراءة القرآن تاركاً مهمته الإنسانية لأشهر أُخرى، وهو يعتقد أن الخير والفلاح والأجر الكبير خلال هذا الشهر يكون في الانزواء في المسجد فقط.

كما أدركت يومها عظمة ما يقدمه رجال الرجال في ميدان المواجهة وهم يتصدون لجحافل الغزاة ويدافعون عن بلد يريد أعداؤه إعادته من جديد إلى مربع الوصاية الأجنبية.

الصوم يعد من أفضل الطاعات وأقربها موافقة لمرضاة الله عز وجل، لكن العدوان الأمريكي السعوديّ حوله إلى مناسبة لتعميق جراح اليمنيين ومضاعفة آلامهم وأحزانهم، فلا يستقيم الصوم عند هذا العدوّ إلا مع استمرار الغارات وسفك الدماء، وقد ألفنا منه تنفيذ غارات بالتوازي مع أذان صلاتَي المغرب والفجر، وعند أداء خطبة الجمعة.

ومن دروس الصبر الكبير لليمنيين أنهم يستقبلون شهر رمضان للعام السادس على التوالي في ظل حصار غاشم، فقوى العدوان ترفض السماح بدخول المشتقات النفطية، متعمدةً في ذلك مضاعفة الآلام للشعب والمرضى، ولا سيما أُولئك الذين يشكون من أمراض مزمنة كالفشل الكلوي والسرطان والسكر، وهنا يتضح لنا مدى قبح هذا العدوان ونزوته حين لا يضع قدسية لشهر رمضان ولا قدسية لآدمية وكرامة الإنسان اليمني.

 

محطات تاريخية

وخلال سنوات ما قبل العدوان، كنا نتأقلم كَثيراً مع شهر رمضان المبارك؛ باعتبَاره شهرَ عبادة وصوم وقراءة للقرآن الكريم، ومع ذلك كان للشهر الكريم طقوسُه المميزة وعاداته الجميلة، وكنا نعتقد أن الصبرَ في هذا الشهر الفضيل يتركز على الجوع والعطش فقط، حتى أدركنا في ظل سنوات العدوان أن لشهر رمضان الكثيرَ من المعاني والدروس.

إن واقعَ اليمنيين اليوم شبيهٌ بواقع الرسول -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- وبواقع آل بيته الكرام، فالجهاد في سبيل الله والمعارك الكبرى التي غيرت وجه التاريخ كانت في هذا الشهر الفضيل مثل غزوة بدر الكبرى، والتي مثلت نقلة نوعية في انتقال المسلمين من مرحلة الاستضعاف وتلقي الضربات المتوالية من قبل قوى الكفر والاستكبار إلى مرحلة المواجهة، ولهذا فَـإنَّنا نتعلم من هذه الغزوة الكثير من الدروس والعبر، ومنها أن الفئة المؤمنة قليلة العدد والعدة، قد تهزم الفئة الكبيرة المزودة بأحدث الأسلحة والإمْكَانيات المتطورة، حين تستمد العون والتأييد من الله عز وجل.

إن درس معركة بدر يتكرّر في كُـلّ زمان ومكان، وفي واقع حالنا اليوم فَـإنَّ معركتَنا مع قوى العدوان والاستكبار كواقعة بدر، فاليمنيون على الرغم من قلة عددهم وعتادهم إلا أنهم ينتصرون اليوم أمام قوى الاستكبار ويصنعون تاريخاً جديدًا ومحطة فارقة في تاريخ اليمن ستظهر نتائجها في السنوات القادمة.

لقد تعلم المجاهدون اليمنيون أبطال الجيش واللجان الشعبيّة من معركة بدر درسَ “الثبات وعدم الفرار من المواجهة”، مستمدين العزم من قوله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ-: “لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابراً أَو محتسباً مقبِلاً غير مدبِر إلا أدخله الله الجنة”، وهنا في معركة اليمنيين الأحرار مع قوى العدوان كم شاهدنا الكثير من المقاطع التي توثق ثبات واستبسال الجيش واللجان الشعبيّة في جبهات الوغى، وهروب المرتزِقة في كُـلّ معركة، ونسمع المجاهد اليمني يقول بلهجته اليمنية المعبرة (شردوا، شردوا).

إن درس الثبات وعدم الفرار من المعركة استمده اليمنيون الأحرار من معركة بدر الكبرى، ولولا ذلك الثبات والإخلاص والإيمان الكبير بالله عز وجل والانتصار للمظلومية لما تحقّق لنا الانتصار خلال السنوات الست الماضية، ولا سيما أننا نواجه أقوى جيوش العالم وأكثرها تسليحاً وتطوراً.

ونستلهم من بدر ومن سيرة الرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ- أن الأرضية لتأسيس رسالة التغيير لم تكن مفروشة بالورود، وإنما كانت محفوفة بالأشواك والمخاطر، وأبرز ما فيها الأذى والقتل والتعذيب والتنكيل والطرد والتهجير لحامل لواء الرسالة وكل أتباعه، كما أن رسول الله وأصحابه لم يسلموا من الأذى والاتّهام والحصار كما حدث في حصار شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات، غير أن العدوان والحصار الكفري لصناديد مكة، كان يقابله الرسول وأصحابه بعزيمة وصبر وجلد، وقد زادتهم يقيناً بضرورة التضحية بالأنفس والأموال وفلذات الأكباد، حتى وصفهم الله عز وجل بأنهم (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، ولهذا فقد انتصروا وغيروا وجه التاريخ.

وخلال شهر رمضان أَيْـضاً صعق المسلمون باستشهاد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في جريمة قصمت ظهر الحق والعدالة في التاسع عشر من شهر رمضان الفضيل.

لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل زُمرة قريش الذين كانوا يعلنون كُفرَهم الصريحَ والواضح، فكانت المعركة حينها بين إيمان صريح وكفر صريح، وحين هزم الكفار بعد دخول مكة، اضطر صناديدُ قريش لإشهار إسلامهم، والانتقال إلى خطة جديدة للمواجهة مع المسلمين، وهي الانغماس في صفوفهم وتخريبهم من الداخل، لتظهر نتائج هذا المخطّط في قتال الإمام علي عليه السلام مع معاوية بن أبي سفيان، وليدّعي البعض قولاً وبهتاناً بأن ما يحدث في صفين هو قتالٌ بين مسلمين، كُـلُّ واحد يدعي بأن الله ربه، ولهذا انعزل كثيرون عن هذه المواجهة كعبد الله بن عمر بن الخطاب، ورأوا أن دخولَ الجنة يكون في الصلاة والتعبد وقراءة القرآن دون الحاجة للجهاد في سبيل الله في حين أن الحق كان واضحًا وضح الشمس، وأن علياً يدورُ مع الحق والحق يدور مع علي.

في هذا الظرف وخلال العدوان على بلادنا، شاهدنا هؤلاء “الاعتزاليين” يدعون الله بأن ينصر “الحق” وهم بعيدون عن مناصرة الحق، ويسمون أنفسهم “محايدين” ويقولون بأن مسلماً يقتل مسلماً، في حين أن ما يحدث هو عدوان أمريكي سعوديّ إسرائيلي غاشم على بلد رأى أن الحرية والانعتاق لا تكون إلا في التحكم بالقرار السياسي ورفض الوصاية الخارجية بكل أشكالها وألوانها.

وينبغي ونحن نستقبل الشهر الفضيل أن نلتفتَ إلى مسألة التكافل الاجتماعي والنظر إلى الفقراء ومعاناتهم والنازحين وبؤسهم والجرحى والمعاقين وأن نمسح دموعهم ونواسيهم ونجبر خواطرهم، وأن نسأل الله في هذا الشهر المبارك أن يمنحنا النصر الكبير على أعداء هذا الوطن وأن يخلص الأسرى من ويلات السجن ووحشته وقسوة الجلادين وأن يمن بالشفاء على كُـلّ الجرحى.. وشهر كريم للجميع.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com