الفساد.. مخاطر وتحديات .. بقلم/ أحمد الحبيشي

قبلَ بضعة أيّام طلب مني الأستاذُ صبري الدرواني رئيسُ تحرير صحيفة (المسيرة) كتابةَ مقالٍ حول قرار الأخ مهدي المشّاط رئيس المجلس السياسيّ الأعلى بإحالة 74 مسؤولاً إلى القضاء، من بينهم وزراء ونواب وزراء.

وبعد تأمُّل حيثيات هذا القرار، وتحذير المحامي محمد المحاقري في منشور له على الفيسبوك من أن هذا القرارَ سوف يصطدمُ بالقانون رقم 6 لعام 1995 الذي صدر متزامناً مع تعديل الدستور بعد حرب 1994، عادت بي الذاكرةُ إلى الأزماتِ السياسيّة التي شهدتها البلادُ قبل تلك الحرب التي فجّرها تحالُفُ المؤتمر الشعبي العام وحزب التجمع اليمني للإصلاح؛ بهدفِ إقصاء الشريك الجنوبي من الوحدة واختطافها، بدعم من الأوليغارشيات العسكريّة والمشايخية والعائلية والدينية التي كانت تسيطر على الدولة والسلطة والثروة منذ عقود طويلة قبل الوحدة، تميزت بالاستبداد والفساد ونهب المال العام.

كان مجلسُ النواب يستعدُّ خلال المرحلة الانتقالية التي سبقت انتخاباتِ 27 إبريل 1993 لمناقشة مشروعَي قانونين مدرجين في جدول أعماله، وهما مشروعا قانون التعليم وقانون محاسبة شاغلي وظائف السلطة العليا بتُهَمِ الخيانة العظمى والفساد ونهب المال العام.. وقد تم تمريرُ وإقرار قانون التعليم الذي كان يحظى بتأييد الكُتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي اليمني ومعظم أعضاء الكتلة البرلمانية للمؤتمر الشعبي العام، ومعارَضة التجمع اليمني للإصلاح الذين انسحبوا من قاعة البرلمان أثناء التصويت عليه، فيما كان قانون محاسبة شاغلي وظائف السلطة العليا لا يحظى بموافقة مؤسّسة الرئاسة والمؤتمر الشعبي العام وحزب التجمع اليمني للإصلاح وعائلة الشيخ عبدالله الأحمر وكبار جنرالات القُــوَّات المسلحة وعلى رأسهم علي محسن الأحمر، الأمر الذي أدّى إلى اتّفاق الحزبين الحاكمين آنذاك على تأجيل مناقشة هذا القانون وترحيل المشاورات حولَ تعديل الدستور النافذ إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية.

ذات يوم في تلك الفترة اتصلَ بي المفكِّرُ الإسْلَاميُّ الكبير إبراهيم بن علي الوزير رحمه الله من مقرِّ إقامته في واشنطن، وسألني بصفتي عضواً في مجلس النواب آنذاك، عن مصير مشروع قانون محاسَبة شاغلي وظائف السلطة العليا بتهم الخيانة ونهب المال العام، وقد طلبت منه تعريفاً للفَرْق بين الخيانة ونهب المال العام، فكان رَدُّه رائعاً ومتماسكاً، ما دفعني إلى نشره في الصفحة الأولى من صحيفة (الوحدة) التي كنت أرأس تحريرَها قبل حرب 1994.

كان تعريفُ الأستاذ إبراهيم بن علي الوزير رحمه الله للخيانة العظمى ونهب المال العام ينُصُّ على أنهما وجهان لعُملة واحدة هي (البُطلان) الذي يتخذ أشكالاً متنوعةً، وفي مقدمتها إساءة استخدام السلطة العامة من قبل النخب الحاكمة لأَهْـدَاف غير مشروعة، ومن بينها الحصول على رشاوى من دول أجنبية والاغتناء غير المشروع من خلال نهب المال العام.

ولم يستبعد الأستاذ إبراهيم الوزير من الأعمال القائمة على (البُطلان) جرائم الشركات التجارية وَالجرائم الاقتصادية والمالية التي ترتكبها كيانات تجارية متزاوجة مع السلطة، وتتمتع بشخصية قانونية مستقلّة ويديرها أشخاص طبيعيون يقومون بإدَارَة أنشطتها، أَوْ من قبل أفراد بالإنابة، بما يخالفُ القواعد والأحكام المالية التي تنظّـم سير العمل الإداري والمالي في الدولة.

من نافل القول أن المنتصرين في حرب 1994 الظالمة نجحوا في تعديل الدستور بالتزامن مع إقرار القانون رقم 6 لعام 1995 بما يحقق مصالح المنتصرين في تلك الحرب الظالمة.

وقد أثار قرارُ الرئيس مهدي المشّاط إحالةَ 74 مسؤولاً إلى القضاء لمحاكمتهم بتهمة الفساد، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسيّة والاجتماعية، لجهة سبق المؤسّسة الرئاسية في إحالة مسؤولين كبار إلى القضاء بناءً على تقارير رفعها الجهاز المركزي للرقابة والمراجعة، وهو إحْدَى الهيئات المختصة بحماية المال العام، وضبط المخالفات التي ترقَى إلى شُبهة الفساد ونهب المال العام، وإحالتها إلى نيابة الأموال العامة وفق القانون.

تأسيساً على ما تقدم، يمكن القولُ إن هذه الإجراءاتِ التي تجسّدُ توجّهاتٍ وطنيةً جديّةً لحماية المال العام ومكافحة الفساد ومحاسبة العابثين بالوظيفة العامة، ما كانت لتحدث لولا البيئة السياسيّة الجديدة التي أوجدتها ثورةُ 21 سبتمبر المجيدة 2014، ونجاحها في القضاء على مراكز القوى والأوليغارشيات العسكريّة والدينية والعائلية التي استولت على السلطة والثروة خلال عقود طويلة باسم الجمهورية والوحدة.

يزيد من أهميّة هذه التوجّهات أنها تتم تحت نَيْرِ العدوان والاحتلال والحصار وسياسات الإفقار والتجويع وجرائم الحرب والجرائم المعادية للإنْسَانية التي يمارسُها تحالف العدوان السعوديّ الإماراتي الأميركي على اليمن أرضاً وشعباً، منذ أربع سنوات.

والثابتُ أن اللجنةَ الثوريةَ العليا برئاسة المناضل محمد على الحوثي تولّت مسؤوليةَ إدَارَة الدولة ومؤسّساتها في أصعب وأخطر الظروف التي مرت بها البلاد، بهدي مبادئ وأَهْـدَاف وقيم ثورة 21 سبتمبر المجيدة، ولقد أسهم أَدَاء اللجنة الثورية العليا في حماية مؤسّسات الدولة من الانهيار، ودعم صمود الجيش واللجان الشعبيّة وكافة الجبهات السياسيّة والاقتصادية والإعْلَامية والثقافية والاجتماعية المدافعة عن السيادة والاستقلال.

وبوسعي القول: إن حرصَ أنصار الله وشركائهم على تجسيد الشراكة الوطنية، كان من محدّدات التوقيع مع المؤتمر الشعبي العام وحلفائه في اغسطس 2016م، على وثيقة إعادة العمل بالدستور وإحياء مجلس النواب وإنشاء المجلس السياسيّ الأعلى وتشكيل حكومة وطنية ضمّت 44 وزيراً بحكم مقتضيات الشراكة السياسيّة.

الثابتُ أن السعوديّة بما هي القائدُ المحوري لتحالف العدوان على اليمن استهدفت بدرجة أساسية القضاء على ثورة 21 سبتمبر 2014 المجيدة، وتعويض استثماراتها السياسيّة في هياكل الدولة والنخب المشايخية والدينية والحزبية القديمة.

من نافل القول: إن تحالُفَ العدوان السعوديّ لم يُعوِّل ــ فقط ــ على العمليات العسكريّة والحرب النفسية والدعاية السوداء لتحقيق أَهْـدَاف العدوان على اليمن، بل إنه راهَنَ على تفريغ الشراكة الوطنية من محتواها الحقيقي، والسعي لتقويض مؤسّسات الدولة من داخلها، وكان الفساد هو أحد أهمّ الأسلحة التي تم استخدامها من أجل خدمة أَهْـدَاف العدوان السياسيّة والعسكريّة.

لا ريبَ في أن ثمة تحدياتٍ خطيرةً واجهت الشراكة الوطنية خلال سنوات العدوان، من خلال عدم الجدية في مواجهة الطابور الخامس وإعلان حالة الطوارئ وحماية المال العام في إطار مشروع النقاط الاثنتي عشرة التي وجّهها قائدُ الثورة السيد عبدالملك الحوثي إلى السلطة التنفيذية بعد تشكيل حكومة الإنقاذ الوطني.

صحيحٌ أن هذه التحدياتِ وصلت ذروتَها بعد انفتاح قيادات عسكريّة وسياسيّة في اللوبي السعوديّ داخل المؤتمر الشعبي العام على دول العدوان، منذ التحضير للمؤامرة التي استهدفت إسقاط العاصمة صنعاء من داخلها تحت ستار الاحتفال بالذكرى 35 لتأسيس المؤتمر الشعبي العام في 24 أغسطس 2017، مروراً بأحداث جولة المصباحي يوم 26 أغسطس 2017، وصولاً إلى فتنة 2 ديسمبر 2017، لكن القوى المعادية واصلت رهانَها على تقويض مؤسّسات الدولة من داخلها، بالإضَافَـة إلى تصعيد جرائم الحرب العسكريّة والاقتصادية وسياسات الإفقار والتجويع التي ترتكبها يومياً في كُـلّ أنحاء البلاد!!

في هذا السياق يأتي الإعلانُ عن تحويلِ 74 مسؤولاً إلى القضاء بِتُهَمِ الفساد وسوء استخدام الوظيفة العامة، حيثُ برزت مجموعةٌ جديدةٌ من التساؤلات المشروعة على النحو التالي:

1 / تم نشر الخبر رسمياً بعد أن استقبل الأخ مهدي المشّاط رئيسُ المجلس السياسيّ الأعلى الأخ علي العماد رئيس الجهاز المركزي للمراجعة والمحاسبة.

2/ تردّد أن من بين المحالين إلى القضاء بعضَ الوزراء ونوابَ الوزراء وشاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا في الدولة، دون ذكر أسمائهم، وما يترتب على ذلك من احتمال شطب بعض الأسماء وتخفيض قائمة المحالين إلى القضاء!!

3/ في حال اتّهام شاغلي الوظائف غير العليا بالفساد، كان يُفترَضُ أن يحال المشتبه بارتكابهم جرائم الفساد إلى نيابة الأموال العامة؛ باعتبارها جزءاً من السلطة القضائية، وتقع عليها مسؤوليةُ جَمْعِ الاستدلالات واستجواب المتهمين وإصدار قرار الاتّهام، ثم إحالتهم إلى المحكمة المختصة وهي محكمة الأموال العامة.

4/ والأهم من كُـلّ ما تقدّم تجبُ مراعاة بعض التعقيدات التي تنُصُّ عليها أحكام القانون رقم 6 لعام 1995 بشأن الإجراءات الواجب اتّخاذها عند إحالة بعض شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا من الوزراء ونواب الوزراء إلى القضاء بتهمة الفساد وسوء استخدام المال العام، حتى لا يتم الطعن في صحة إجراءات الاتّهام الموجهة إليهم عبر وسائل الإعْلَام، استناداً إلى القانون المشار إليه آنفاً والذي كان المحامي محمد المحاقري أولَ من حذّر ــ في منشور له عبر مواقع التواصل الاجتماعي ــ من تأثيراته السلبية على قرار الأخ رئيس المجلس السياسيّ الأعلى مهدي المشّاط!!

اللافتُ للنظر أن المنتصرين في حرب 1994 حرصوا على عدم المساس بمعظم مواد الدستور عند تعديله، كما فعلوا الشيءَ نفسَه في قانون محاسبة شاغلي وظائف السلطة العليا رقم 6 لعام 1995، باستثناءِ إضَافَـةِ بعض المواد التي تجعل محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء ونواب الوزراء من اختصاص مجلس النواب وبشروط تعجيزية ومعقدة.

والملاحظُ أن المنتصرين في حرب 1994 حرصوا على إبعاد نهب المال العام من مشروع القانون السابق الذي كان يصر عليه الحزب الاشتراكي وحلفاؤه، واستبداله بكلمة (الكفر)، حيث انطوى القانون رقم 6 لعام 1995 على تعريف لجريمة الخيانة يشمل (الكفر) بالقول إنها تعني القيامَ بعمل مجمع على أنه كُفر أَوْ المساس بوَحدة الوطن أَوْ التنازل عن جزء منه أَوْ تغيير النظام الجمهوري ومبــادئ الثورة اليمنية أَوْ القيام بأي عمل من أعمال التجسس أَوْ إفشاء الأسرار لصالح قوى أجنبية أَوْ معادية لليمن أَوْ خرق الدستـــــــــــــــور والمساس بسيادة واستقلال الوطن، أو ارتكاب أي عمل يؤدي إلى تدخل الغير أَوْ سيطرته على اليمن أَوْ على جزء منه أَوْ ثرواته.

لا يعني ذلك أن القانون رقم 6 لعام 1995 سيء جداً، ولكن المنتصرين في حرب 1994 دسّوا فيه ألغاماً ناسفة لمنع محاكمة الخَوَنة وناهبي المال العام، بإصرارهم على نقل سلطة توجيه الاتّهام في هذه القضية من السلطة القضائية التي تمثلها النيابة العامة، إلى ثلاثة من أعضاء مجلس النواب، حيث تنُصُّ المادة (21) من هذا القانون على أن يقومَ بوظيفة الاتّهام أمام المحكمة ثلاثةٌ من أعضاء مجلس النواب من ذوي التخصصات الشرعية والقانونية، ينتخبُهم المجلسُ بالاقتراع السري المباشر بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس، ويجوزُ أن يعاونَهم أحدُ أعضاء النيابة العامة لا يقل مستواه الوظيفي عن محامٍ عام، وذلك بناءً على طلب المجلس.

وبما أن تعديلَ هذا القانون من خلال مجلس النواب غيرُ ممكن في الظروف الحالية، كما أن ضمانَ تنفيذ الإجراء الذي اتّخذه رئيسُ المجلس السياسيّ الأعلى سيصطدمُ بهذا القانون، فمن الضروري أولاً، إعفاء شاغلي وظائف السلطة العليا المتهمين بخيانة المسؤولية ونهب المال العام من مناصبهم وتفليص الحقائب الوزارية ثم إحالتهم إلى القضاء.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com