الهُويَّـةُ الإسْلَامية المتأصّلة.. قراءةٌ في جُزئياتٍ من خطابِ السيّد بمناسبة الذكرى الرجبية

* صدى المسيرة| عبدالحفيظ حسن الخزان



عموماً تمتازُ خطاباتُ السيّد/ عبدالملك بن بدرالدين الحوثي، ببناءٍ ذهنيٍّ تسلسُلي للمحاور الرئيسة، ثم الشرح الارتجالي الدقيق الذي يعتمدُ المفردةَ المناسبةَ لبناء الجُملة المؤثرة التي يتصاعَدُ سياقُها مع إشاعة جَـوٍّ نفسي جاذبٍ عند المستمع، ليصلَ إلى محورٍ متكامِلِ الفكرة مدعومٍ بالأمثلة والاستشهادات المختلفة أَوْ التبريرات العقلية التي تكونُ بمثابة الثمرةِ المرجوّة، مع حُضُورٍ ذهنيٍّ وتركيز متناسق مع كُلّ ما تحتاجُه “لُغة الجسد” ليصلَ إلى مرحلة اكتمال الخطاب الواضح، الجلي الذي يحملُ مضامينَ ورسائلَ لا بد أن تصل أَهْـدَافها وتبلغ غاياتها.

كما يمتازُ الخطابُ السياسيُّ عند السيّدِ بسلامة اللُّغة والوعي العميق والثقافة القرآنية، وبالشمولية لكل شرائح الأمة وقضاياها، كما يمتازُ بالصراحة والشفافية العالية التي تتطلبُها المرحلة، عدا ما يقتضي التحليل لما يمل من رسائلَ للأعداء ضمن الحرب النفسية ذات الحيثيات الصادقة.

في خطابه الأخير الذي تناول فيه محاورَ عدة كان أبرزها “الهُويَّـة الإسْلَامية المتأصلة” عند الشعب اليمني، متخذاً من جُمُعة رجب مناسبةً هامةً ومتميزة لشرح ذلك المحور شرحاً تفصيلياً، متناولاً أهميّتَه وأبعادَه ومخاطرَ استهدافه، فقد عَنَّ لي أن أقومَ بقراءة لجزئيات من ذلك الخطاب.

* يولي السيّد/ عبدالملك بن بدرالدين الحوثي حفظه الله “معركة الوعي” أهميّةً كبيرةً وأولويةً مطردةً وتوصيفاً وتحليلاً بشكل دائم ومستمر، فلا يكاد يخلو له خطابٌ إلا وفيه حيِّزٌ لا بأسَ به من الحديث عن الوعي.

فلماذا كُلُّ هذا الاهتمام والتركيز؟.

إن استهدافَ الشعوب في وعيها من قبل أعدائها يعني استخدامَ أشد الأسلحة فتكاً بالشعوب؛ لأن نتيجة ذلك هو القضاء على الإنْسَـان بتهيئته تهيئةً تامة للإجهاز على إنْسَـانيته تماماً وتسخيرها لصالح الأعداء، وذلك من خلال القضاء على طاقته الرُّوحية المفعمة بكل مواضع القوة والعزة والمنعة والكرامة والحضارة والتأريخ والقيم والأَخْـلَاق؛ ليسهُلَ احتلالُه، وبذلك تسقُطُ أرضُه ويُهانُ شعبُه ويُدنَّسُ دينُه ومقدساته من قِبَل مسوخ البشرية، ورُوّاد القتل والرذيلة والفوضى والدّمار.

ومن هنا فإن استهدافَ الهُويَّـة اليمنية الأصيلة بمواصفاتها الإلهية النبوية الإنْسَـانية هو أصعبُ ما يواجهه اليمنيون، فالقضاء عليها وتزييفها يعني القضاءَ على كُلّ مواضع العزة والكرامة والقوة، الأمر الذي يجعل أحلامَ المعتدي المحتل وأذنابه قاب قوسين أَوْ أدنى من تحقيقها.

يبدأ السيّد بالتعبير عن ابتهاجه بهذه المناسبة “في الجمعة الأولى…”، فيبدو ذلك من خلال استخدامه ألفاظاً معبِّرةً وموحية وذات دلالة تليقُ بأهميّة وعظم المناسبة “ذكرى عزيزة، مميزة، أعز، أقدس، …”، حيث يذكر الكثير من اليمنيين أن هذه المناسبة كانت لا تختلفُ عن مناسبة العيدَين الإسْلَاميين الكبيرين، ففيهما يلبس الناسُ الجديدَ ويتزاورون، ويتبادلون التهانيَ “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ”، كما يولون الجزء الأكبر من ذلك العيد لصلة الأرحام.

ثم ينتقل السيّدُ إلى بيت القصيد ومربط الفرس في هذا الخطاب:

“لذلك هي مناسبةٌ مهمةٌ في الحفاظ على هُويَّـة شعبنا المسلم، وفي تجذير وترسيخ هذه الهُويَّـة لكل الأجيال الحاضرة والمستقبلية التي يمتازُ بها شعبنا اليمني، الهُويَّـة الإسْلَامية المتأصلة”.

وَيبدأ بمناقشة الموضوع الرئيسي الحَرِيّ بالمناقشة في هذه المناسبة، وهو موضوع “الهُويَّـة” التي هي الإسْلَامُ اعتناقاً وتميزاً في الاعتناق من قبَل اليمنيين، فهم الأصولُ العريقة والأرض الطيبة والتأريخ الحضاري، وهم أهل المكارم والحكمة والسجايا الكريمة التي جاء الإسْلَام؛ ليكون هو السلسلة الذهبية الجامعة لكل تلك المكارم والملخِّص لها والمعبر عنها جميعاً إذا غاب بعضها، نعم فاليمنيون المميزون في مكارمهم وأَخْـلَاقهم ورجولتهم كان اعتناقهم للإسْلَام متميزاً بكل ما تعني كلمة التميز في ميزان الدين والإنْسَـانية والموقف والمسئولية على سبيل الاعتناق والاقبال والارتباط.

ثم يستطرد السيّد في التأصيل لمواقف نُصرة اليمنيين للإسْلَام المحمدي الأصيل بما يحمل، والأصيل بمن يحملونه من اليمنيين، ابتداء من الرعيل الأول، وبالتحديد في المرحلة “المكية”، سواءٌ أكانوا قبائل (الأوس والخزرج) أَوْ أفراداً يمثلون مختلف القبائل بما حملوا من استجابة للحق ودَاعِيه وتلبيةَ داعي الله والاستسلام له والخضوع والتعبُّد بما أنزل في كتابه .. نعم التعبد والخضوع الخالصَين لوجهه الكريم إخلاصاً لا يداخله من الخلق أحدٌ، فذكر “عمار بن ياسر، المقداد بن الأسود، معاذ بن جبل، الأشتر النخعي”، ولا يخفى على القارئ اللبيب ما بين “المرحلة المكية” وبين المبدأ الذي يوحيه “لا إله إلا الله” من العلاقَة والسياق التأريخي والقرآني والربط اللطيف المنسجِم العميق الدلالة.

“هذا الشعب المسلم، من أهم ما في إسْلَامه تلك المبادئ والقيم العظيمة، أن يرفُضَ الاستعباد لكل قوى الطاغوت ألّا يقبل بأن يركع ولا أن ينحني ولا أن يخضع ولا أن يستعبد إلا لله الواحد القهار، هذا هو مبدأ رئيسي ومبدأ أساسي هذا هو المبدأ الذي يوحيه (لا إله إلا الله) ومبدأ (لا إله إلا الله)”.

كما لا ينسى السيّد أن يقارن ذلك الحال الكريم للمتمسكين “بالهُويَّـة” بحال المرتزِقة الذين تمكن الأعداء من ضرب هُويتهم، “فقد عبّدوا أنفسهم بالمطلق لأولئك، بحيث يطيعونهم في كُلّ أمرٍ حتى في الظلم والطغيان والإجرام، أي الطاعة المطلقة التي لا تحدها ضوابطُ شرعية”.

فهل يحتاج هذا الكلام إلى تعليق؟!!

كما يؤكد السيّد في نفس الخطاب الرجبي أن العدوانَ على شعبنا لا يمُـــتُّ للسياسة بشيء، لكن القصد من ذلك هو “استعباد شعبنا”.

وهذا التوصيف لا يخالِطُه شك، فقد وصف السيّد “الهُويَّـة” توصيفاً مهماً دقيقاً أهميّة حاجة الجماهير اليمنية إلى معرفة وتشخيص دائها لتعرفَ دواءَها.

فهُويَّـةُ الإسْلَام عند اليمنيين بمفهوم وطرح السيّد يجعلُه أغلى ما يملك اليمني من المجد والعزة والكرامة ومواضع القوة.. لماذا؟.

لأنها تعطي الخلوصَ التامَّ لله وتعطي السيادة والحرية في الحياة الدنيا، ومن هنا فإن سلبَ تلك الهُويَّـة من اليمنيين أَوْ سلب اليمنيين من تلك الهُويَّـة يعني تحوُّل اليمني إلى عبدٍ ذليل خانع لقوى الطاغوت والشر والرذيلة.

وَفي خِضَمِ حديث السيّد في خطابه بالمناسبة أكّد أن “الدخول الكبير والواسع والشعبي بشكل عام بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً اختصه لهذه المهمة، وهو الإمام علي عليه السلام، وكان ابتعاثه له إلى اليمن له دلالةٌ على الأهميّة والمكانة العالية لأهل اليمن لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، علي عليه السلام بمكانته العظيمة في الإسْلَام”.

وهنا يؤكد السيّد في سياق حديثه التأريخي عن الهُويَّـة الأصلية لأهل اليمن على دلالة اختيار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي ومعرفة الرسول لمؤهلات الإمام علي العالية، فهو تلميذُه صلى الله عليه وآله وعلى يديه نشأ وترعرع وهو تاج الموحّدين وأول السابقين وفارس الإسْلَام وقاضيه وعالمه وهو أخو رسول صلى الله وآله وسلم الذي قال فيه “عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي”.

فقد آثر النبيُّ أهلَ اليمن بإرسال هذا المبعوث الذي أشبعت وطابقت مؤهلاته العالية مؤهلات أهل اليمن التي أشار النبي إلى الكثير منها في أحاديثه التي وردت عنه في فضائل أهل اليمن وصفاتهم، ومناقبهم التي عجز عن بلوغها أشرفُ القبائل العربية الأصيلة، فالإمام علي ذو خبرة عالية بأهل اليمن وبعلو هممهم وصفاء نفسياتهم وأصالتهم وسؤددهم وبحضارتهم وثقافتهم وحكمتهم، فمن هنا أصبح الإمام عليُّ الذي لا يحبه إلا مؤمن – معشوقاً عند اليمنيين وجزءاً أصيلاً من الذاكرة الشعبية والتأريخ الرسمي، فقد أحبه أنصارُ رسول الله اليمنيون وتغنى شعراؤهم فيه، وكان اسم (علي) عند اليمنيين في الدرجة الثانية بعد (محمد)، بل وتحول في وعيهم إلى بطل أسطوري، ففي ذلك الجبل ضربة علي وفي الآخر آثار أقدام علي وذلك البئر حارب فيه الإمام علي الجن! وفي ذلك الوادي خيّم الإمام علي..

ومن هذه المكانة العالية له في صميم الهُويَّـة اليمنية كان مقدارُ التركيز العالي من الأعداء لاستهدافه من الوعي التأريخي والثقافي ومحاولة تسطيحه وتهميشه في المنابر وفي المنهج المدرسي وفي الإعلام، ولكن هيهات هيهات لذلك أن يكون.

ثم مما قال السيّد من الخلاصات بعد هذا المحور “فإذن هويتنا يا أَبْنَــاء شعبنا اليوم تشكّل ضمانة رئيسية لتماسُكِنا كيف سنبقى أحراراً وكيف سنبقى صامدين”.

ثم استقصى أنواع الغزو الذي يهدد هُويتَنا الأصيلة ويعملُ على التهيئة لإذلالنا، وبما أن مضمونَ هذا الخطاب يأتي ضمن معركة الوعي فقد أكد السيّد في ختامه بهذه العبارة:

“ولكن حينما يكون هناك وعي ما الذي يريده العدو من وراء كُلّ هذا حينما يستهدفنا في هُويتنا بنموذجه التكفيري والقاعدي والداعشي، حينما يستهدفنا في هويتنا بنشاطه الإفسادي ولإيقاع الناس في الرذيلة والجريمة”

وقد زخر خطاب السيّد بتكرار مفردة (الهُويَّـة) مطلقة ومضافة (هويتنا) ما يزيد على ثلاثين مرة.

وإن قراءتي لجزئياتٍ من خطاب السيّد عبدالملك في المناسبة الرجبية ما هي إلا دعوةٌ لنفسي – وأنا قليلُ البضاعة – وللآخرين من ذوي التمرُّسِ الصحفي والتحليل لمتابعة الاهتمام بخطابات السيّد وإخراجها في برامج عمل ما أمكن وتناولها بالتحليل الصحفي والإذاعي والتلفازي وفي شتى الوسائل، ويكفيني من هذه التناولة السريعة شَرَفُ المشاركة والتماسُ البركات، واللهُ من وراء القصد، وهو نعم المولى ونعم النصير.

 

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com