السيد عبدالملك الحوثي في المحاضرة الرمضانية الثالثة والعشرين: من الدروس المهمة في قصة نبي الله نوح “عليه السلام” درس النجاة وخطورة الذنوب على المجتمعات

 

 

الارتباط الذي فيه اتِّباعٌ أعمى وعصبيةٌ على الباطل يمثل خطورةً على الكثير من الناس

نبي الله نوح “عليه السلام” كان رحمةً عظيمةً، ونعمةً كبيرةً من الله “سبحانه وتعالى” على قومه ولو اتبعوه لكان ذلك خيراً لهم

من الدروس المهمة في قصة نوح “عليه السلام” أن الروابط الأسرية لا تجدي نفعاً بدون الإيمان والتقوى وأن الطغيان لا يستمر إلى ما لا نهاية

المجتمع البشري من بعد الطوفان العظيم بدأ مرحلة جديدة مبنية على الإيمان وعلى التوحيد لله، ثم بدأ الانحراف يتعاظم وصولاً إلى الشرك بالله

 

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أصحابهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنت السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.

في محاضرةِ اليوم، نؤكّـدُ على بعض الدروس والعِبَرِ المهمَّة من قصة نبي الله نوحٍ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” وقومه، ونتحدث أَيْـضاً عن القصة التي تليها.

كان نبيُّ الله نوحٌ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” نعمةً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورحمةً عظيمةً على قومه، على المجتمع البشري في عصره، يسعى لهدايتهم، لنجاتهم، لفوزهم، لفلاحهم، يسعى بما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، ولكن أكثرهم كذبوه، وعاندوه، وحاربوا رسالته، ولم يصغوا له، ولم يقبلوا به، ولم يلتفتوا إليه، لماذا؟؛ بسَببِ ارتباطاتهم بملئهم المستكبر، المنحرف، الذي يعتمد في نفوذه على الطغيان، على الظلم، على الضلال والباطل، ولا يريد أن تتغير تلك الوضعية؛ ولذلك:

  • من أهم الدروس في قصة نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هو: خطورة الارتباط بالمستكبرين:

لأن الكثير من عامة الناس، هم لا يجدون تعارضاً مع رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيما يتعلق بواقعهم من حَيثُ المصالح، التي -مثلاً- بُنِيَت على أَسَاس غير صحيح، على ظلم، على فساد… على غير ذلك، ولكن أكبر عائقٍ لهم عن الهداية، هو نفس ارتباطهم بأُولئك الملأ المستكبرين، بأُولئك الزعماء المستكبرين، فهم ارتبطوا في موقفهم بهم، إن آمنوا؛ يؤمنون معهم، وإن لم يؤمنوا؛ لا يؤمنون معهم كذلك، ليكونوا معهم في كُـلّ حال.

فهذا درسٌ مهمٌّ جِـدًّا، ويبيِّن لنا الخطورة لهذا النوع من الارتباط: الارتباط الذي فيه اتِّباعٌ أعمى، فيه عصبيةٌ على الباطل، هذا يمثل خطورةً على الكثير من الناس، سواءً في ارتباطاتهم مع زعماء بلدانهم، زعماء دولهم، زعماء عشائرهم، زعماء مذاهبهم، كُـلّ الحالة التي يرتبط فيها الإنسان ارتباطاً أعمى، ويتعصَّب للباطل، ويتَّجه حذوَ مستكبرين فيما هم عليه، دون نظرٍ لما هم عليه، فإذا كانوا على باطل، لا يتَّبعهم في الباطل، فهذا درسٌ مهمٌّ جِـدًّا.

كان نبيُّ الله نوحٌ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” رحمةً عظيمةً، ونعمةً كبيرةً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عليهم، لو اتَّبعوه، لفازوا باتِّباعه، الكل (الملاء، وغيرهم)؛ لكان ذلك خيراً لهم، ولم يكن يطلب لنفسه مكاسبَ ومصالحَ مادية أَو شخصية منهم، هدفُه مقدَّس، يتحَرّك وفق رسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يقول لهم: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}[هود: من الآية29]، ليس لديه أهداف ومطامح شخصية ومكاسب يحاول أن يتاجر بالرسالة الإلهية، أَو يتاجر بالدين؛ مِن أجل أهداف وأطماع وأهواء شخصية، كان بعيدًا عن كُـلّ ذلك، ومنزهاً عنه.

  • من الدروس المهمة هو: خطورةُ التمادي في الباطل:

إصرارُ الإنسان على الاستمرار في الباطل، وعدم الإقلاع عنه، يواصل ذلك الحال، ويستمر في تلك الطريق الخاطئة؛ في الأخير يُخذل الإنسان.

وهذا ما حصل لأغلبية قوم نوح، تماديهم في الباطل، وإصرارهم على ما هم عليه، من المعاصي، والذنوب، والإجرام، والفساد، والطغيان، والظلم؛ في الأخير خُذِلوا، خُذِلُوا فلم يتوفَّقوا؛ فقال الله له في الأخير: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود: من الآية36].

  • من الدروس المهمة هو: أنَّ الروابط الأسرية لا تُجدي نفعاً بدون الإيمان والتقوى:

وهذا درسٌ مهمٌّ من قصة ابن نوحٍ، ابن نبي الله نوح، الذي لم يؤمن إيماناً صادقاً، ويتَّجه مع نبي الله الاتّجاه الصادق، واعتزل عنه ليحايد، كما أشرنا في محاضرةٍ سابقة أنه: لا حياد بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، لا حياد، الانحراف عن الحق هو ميلٌ إلى الباطل بشكلٍ تلقائي، بشكلٍ تلقائي، وعندما خضع لتأثير قرناء السوء، وما أخطر قرناء السوء، ما أخطرهم على الإنسان! وتأثر بذلك الجو الضاغط من قوم والده، فيما هم عليه من تكذيب، واستهزاء، وسخريَّة، وضجيج، وحملات دعائية، وإرجاف، وتهويل، فتأثر بذلك؛ في الأخير لم ينفعه ارتباطه بالنسب، عندما أتى الهلاك هلك مع قومه، وخسر، ولم يمكن لوالده أن يفعل له شيئاً؛ لأن الله قال له: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود: من الآية37]، وقال له: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود: من الآية40]، وعده الله بنجاة أهله مع هذا الاستثناء: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}، ثم قال له بشأن ابنه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود: الآية46]؛ فالروابط الأسرية لا تجدي الإنسان نفعاً.

  • ثم كذلك الدرس الآخر من نفس قصة ابن نوح: عندما يتهيأ للإنسان ظروفٌ مناسبةٌ في حياته للصلاح والاستقامة:

هو في أسرة مؤمنة، صالحة، أَو في مجتمعٍ الغالب على اتّجاهه هو الاتّجاه في الحق، وطريق الحق، والإيمان، والتقوى؛ فهذه نعمةٌ عظيمة، نعمةٌ كبيرةٌ جِـدًّا؛ لأنه يتهيأ للإنسان أن يتَّجه في اتّجاه الصلاح والاستقامة والتقوى بسهولة، أكثر من بيئة مختلفة، تُحاربه على إيمانه، تحاربه على تقواه، تحاربه على استقامته، البعض من الناس قد يعاني في داخل أسرته، أسرته لها اتّجاه آخر، فهي تؤذيه، تزعجه، تضغط عليه باستمرار، ويعتبر الثبات في ظل وضعٍ كذلك أمراً عظيماً، وتوفيقاً إلهياً كَبيراً، لكن عندما تتهيأ للإنسان الظروف، فالمسؤولية عليه أكبر، هي نعمةٌ كبيرة، والحجّـة عليه أكبر، والمسؤولية عليه أكبر.

لذلك ينبغي أن يحرص الإنسان على اغتنام الفرص، إذَا كان في مجتمع يتَّجه في طريق الحق، يتَّجه في طريق الإيمان والتقوى؛ فليدرك أنها نعمة، نعمةٌ كبيرة لِيُقدِّرها، وليسعَ للاستفادة من فرصٍ كهذه.

  • من الدروس المهمة في قصة قوم نبي الله نوحٍ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: أنَّ الطغيان لا يستمر إلى ما لا نهاية:

هم كانوا كما قال الله عنهم: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم: الآية52]، طغيان، ظلم، إجرام، فساد، منكر، تَنَكُّر للحق، عصيان لرسالة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وانحراف عن نهجه، وتكذيب برسالته، واستمروا على ذلك لمئات السنين، فأصبحت الحالة حالة خطيرة، يُوَرِّثُونها للجيل اللاحق؛ وحينها أتت العقوبة الحاسمة، العقوبة المُنَكِّلة، العقوبة الرهيبة: الطوفان العظيم، المدمّـر، المهلك.

فالطغيان لا يستمر إلى ما لا نهاية، تأتي العقوبة الإلهية، هذه مسألة حتمية في سُنَّة الله تعالى: أنها تأتي عقوبات، ويأتي من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” العذاب للناس، عندما يتمادون في الباطل، في الظلم، في الطغيان، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر: الآية14]، كما عَقَّب (في سورة الفجر) على قصة عاد، على قصة ثمود، على قصة فرعون، كذلك سُنَّتُه مع غيرهم من الأمم.

  • من الدروس المهمة هي: درس النجاة:

كانت وسيلة النجاة من عذاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن ذلك الهلاك، هي:

  • الإيمان، الإيمان؛ لينال الإنسان رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
  • والاتِّباع لنبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ”.
  • والركوب معه في السفينة.

فكانت السفينة وسيلة نجاة مع الإيمان والاتِّباع لنبي الله، لم يكن هناك من طريقٍ للنجاة أُخرى، وهكذا هي سُنَّة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الله هو الذي يرسم لعباده طريق النجاة، النجاة من عذابه، من سخطه في الدنيا والآخرة، ولا يمكن للإنسان أن يوجد لنفسه هو، ويرسم لنفسه طريقاً أُخرى للنجاة، غير الطريق التي رسمها الله للنجاة.

ولذلك عندما توهَّم ابن نوح -كما كان غيره يتوهَّم عندما بدأ الغرق، وبدأ الماء يغمر كُـلّ أنحاء الأرض- توهَّم أن الجبال الشاهقة، الرفيعة، الكبيرة، ستنجيه عندما يلجأ إليها، وأنه ليس بحاجة إلى أن يركب في السفينة، بل تصوَّر أن الجبل أنجا من الركوب في السفينة، أن يصعد إلى جبل شاهق، وجبل مرتفع جِـدًّا، وأنه لن يغمره الماء، ولن يصل في ارتفاعه إلى درجة أن يرتفع فوق الجبال؛ فهو رأى في الجبل شيئاً كَبيراً، عظيماً، مُنجياً، واتجه على هذا الأَسَاس: {قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، فأجاب عليه نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” (والده): {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}[هود: من الآية43].

فالطريق التي يرشدنا الله إليها أنَّها طريقٌ للنجاة، وأنَّ رحمته ستنزل على من يتَّجه في تلك الطريق، هي وحدها طريق النجاة؛ ولذلك ضُرب بسفينة نوح المثل في الحديث النبوي (في حديث السفينة)؛ لأن الطريق التي يرسمها الله للنجاة لا نجاة للناس إلا بها، لا يمكن أن يرسموا هم لأنفسهم طريقاً أُخرى، أَو وسيلةً أُخرى للنجاة؛ فهذا شيءٌ مهم.

وأمام أمواج الفتن، أمواج الفتن التي هي أخطر من أمواج الماء الغامر، أمواج الفتن، نحن بحاجة إلى أن نسلك سبيل النجاة، وأن نَشُقَّ أمواجَ الفتن بسفن النجاة، (شُقُّوا أَموَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاة).

  • أيضاً في درسٍ من الدروس المهمة: خطورة الذنوب على المجتمعات:

الذنوب هي سبب هلاك المجتمعات، وسبب شقاء المجتمعات، والأمة التي تنبذ رسالة الله، وتتنكر لتعاليم الله، تكثر فيها الجرائم، الذنوب هي جرائم، جرائم بأشكالها وأنواعها: جرائم الظلم من سفكٍ للدماء، إزهاق للأرواح، تعدٍ على الناس، انتهاك للأعراض، سطو ونهب وسرقة للممتلكات… غير ذلك من الجرائم الكثيرة جِـدًّا، التي تنتشر في المجتمعات التي تتنكر لرسالة الله، تبتعد عن تعاليم الله، تنأى عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وترفضه وتنبذه.

وهذا ما هو حالٌ قائمٌ في المجتمعات الغربية، حَيثُ معدل الجرائم في أمريكا، في أُورُوبا، على مستوى الدقيقة الواحدة، يقولون مثلاً: في الدقيقة الواحدة يحصل عدد كبير جِـدًّا من الجرائم، مئات الجرائم في الدقيقة الواحدة، فتكون المحصلة في الأربعة والعشرين ساعة عدد رهيب جِـدًّا من الجرائم المختلفة في مجتمعاتهم: جرائم قتل، جرائم اغتصاب، جرائم سطو، جرائم سرقة… أنواع الجرائم والعياذ بالله.

فالجرائم خطيرة على الناس، تُقلق حياتهم، والاستقامة والصلاح يساعد على استقرار حياة الناس، وصلاح حياتهم، واستقرار حياتهم.

  1. القصة التي تلي قصة قوم نوح هي: قصةُ نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ” مع قومه:

قوم نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هم (عاد إرم)، (عاد إرم) هكذا سمَّاهم الله في القرآن الكريم: {عَادًا الأولى}[النجم: الآية50]؛ لأن هناك عاداً الأولى، وبعدها -بعد زمن آخر طويل- عاد الثانية؛ فالهالكون، والذين ذكر الله قصتهم في القرآن الكريم وهلاكهم، وتجربتهم في هذه الحياة، وكيف كانت نتيجة خياراتهم، وقراراتهم، وتوجّـهاتهم، هم: (عاد الأولى)، كما قال في القرآن الكريم: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى}[النجم: الآية50]، وكما قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}[الفجر: 6-8].

وهم أول أُمَّـة قويةٍ نشأت من بعد قوم نوح، فذرية نبي الله نوح “عَلَيْهِ السَّلَامُ” انتشروا، وتناسلوا، وتكاثروا، وتفرَّعوا في مناطق متعددة، وتفرَّع عنهم مجتمعات في مناطقَ متعددة ومتفرقة، من تلك المجتمعات التي نمت وتكاثرت واستقوت هم: (عاد)، وكانت مساكنهم ومستقرهم في الأحقاف، والأحقاف هي: اسم للكثبان الرملية المتعرجة والمستطيلة، ويقال: أنَّ مساكنهم ومناطقهم التي انتشروا فيها: كانت من جهة حضرموت، إلى جزءٍ من سلطنة عُمان، من جهة حضرموت، وكذلك بالامتداد إلى مناطق أُخرى من سلطنة عُمان، كانوا ينتشرون هناك، ومع أنهم قريبون من تلك المناطق التي هي مناطق رملية، فلم تكن حالتهم متأثرةً بذلك؛ لأنه كان لهم امتداد إلى مناطق فيها كذلك أماكن صالحة للزراعة، أماكن صالحة للعمران، فيها جبال أَيْـضاً؛ إنما كان امتدادهم من تلك المناطق التي فيها وديان، فيها أماكنُ صالحة للزراعة، فيها جبال، وُصُـولاً إلى المناطق الرملية في تلك الجهات، أَو أن الرمال فيما بعد أتت واستقرت هناك وطغت على واقعهم بعد الهلاك، والله أعلم!

هم استخلفهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في الأرض، في سُنَّته في عباده: تنشأ في الواقع البشري أُمَّـة قوية في كُـلّ مرحلة، أَو أكثر من أُمَّـة، في مجتمعات تتهيأ لها الظروف بنعمة الله عليها، وما يُمِدُّهَا الله به، وما يُمَكِّنها فيه، فتتظافر فيها الجهود والأنشطة، التي تساعد على ازدهار حياتهم؛ فيكونون في وضعية اقتصادية ضخمة، وكذلك تتحول حالتهم إلى أُمَّـة متمكّنة قوية. يقال أيضاً: إنهم العرب العاربة الأولى، يعني: الجذور الأولى للعرب في تلك المنطقة.

مما منحهم الله تعالى به، وأنعم به عليهم: القوة البدنية؛ فكانوا متميزين عن غيرهم، فيما منحهم الله من قوة بدنية، وذكَّرهم بهذه النعمة نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، بقوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}[الأعراف: من الآية69]، فكان لهم بنية بدنية قوية، كانوا كباراً، جساماً، طوالاً، ذي قوة بدنية وعضلات ضخمة، أقوياء، وهذه القوة البدنية والجسدية كانت مفيدةً لهم في أنشطتهم وأعمالهم الزراعية والعمرانية، يمتلكون النشاط، الطاقة، القدرة البدنية على العمل، في مختلف مجالات العمل، عندما يتجهون للبناء فهم يعملون وهم أهل قوة بدنية، ونشاط وطاقة، في الزراعة كذلك… وفي غير ذلك، لكنهم كفروا النعمة، ولم يشكروا نعمة الله عليهم.

منَّ الله عليهم بنعمه الواسعة:

  • هيَّأ لهم الزراعة:

فكان لهم مزارع ضخمة، فيها مختلف الثمار والفواكه، والإنتاج الزراعي الوفير، والمحاصيل الزراعية الوفيرة.

  • ومَنَّ عليهم بالعيون:

المياه المتوفرة، التي يروون بها مزارعهم؛ فازدهر نشاطهم الزراعي، وأصبحت لهم وفرة ضخمة من المحاصيل الزراعية المتنوعة، فكانوا مرتاحين بذلك، ولهذا ذكَّرهم نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ” بهذه النعمة.

  • ومعها نعمة الثروة الحيوانية:

مع المزارع الضخمة التي كانوا يمتلكونها، ومعها العيون التي تتوفر لهم بها المياه، كان أَيْـضاً معهم وأنعم الله عليهم بنعمة الثروة الحيوانية (الأنعام)، الأنعام المتوفرة: الإبل، البقر، الغنم، بشكلٍ متوفر.

وهذه من أهم متطلبات حياة الناس ومعيشتهم، توفر لهم الغذاء، توفر لهم متطلبات حياتهم وقوتهم، بوفرة، بارتياح، بشكلٍ راقٍ جِـدًّا، يعني: أحسن وأطيب الأغذية توفرت لهم.

ذكَّرهم نبي الله هود بهذه النعمة: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ}[الشعراء: 132-133]، الثروة الحيوانية المتوفرة لديكم.

  • {وَبَنِينَ}[الشعراء: من الآية133]، كذلك أمدَّهم الله بالثروة البشرية:

فكثروا، أصبح لديهم قوة عاملة، أعداد ضخمة، يستطيعون أن يعملوا، وأن ينشطوا في مختلف المجالات، فأصبحوا أُمَّـة كثيرة العدد، وضخمة الإمْكَانات.

{وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء: الآية134]، فكان لديهم الجنات: المزارع الرائعة، الضخمة، الكبيرة، التي فيها مختلف أنواع الثمار، وأنواع الفواكه، والعيون: المياه المتوفرة التي يروون بها مزارعهم من دون عناء.

  • منَّ الله عليهم أَيْـضاً ومكَّنهم من النشاط العمراني الضخم:

فاتَّجهوا للبناء والعمران، وعمروا مدنهم، عمروا لهم المساكن، المدن؛ ولهذا وصلوا في هذه الدرجة -فيما يتعلق بالجانب العمراني، بما منحهم الله من ثروات، وأموال، وعائد مالي من الزراعة، من الأنعام… من غير ذلك- وصلوا إلى حَــدّ العبث فيما يتعلق بالعمران، يعني: لم يكتفوا أن يبنوا لهم ما يحتاجون إلى بنائه، مساكن لاستقرار حياتهم، بل وصل بهم الحال إلى العبث والتطاول، يعني: بناء مبانٍ استعراضية؛ للتباهي، للتفاخر، للتطاول، من غير مسألة مباني السكن، مباني الاستقرار؛ إنما للعبث، والتطاول، والافتخار، وإظهار مدى إمْكَانياتهم وثروتهم.

ولهذا انتقدهم نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ” على ذلك العبث: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء: 128-129]، فهم وصل بهم الحال إلى أن يهدروا من تلك الأموال، وتلك النعمة التي أعطاهم الله، في مبانٍ يبنونها في أماكن مرتفعات، في مرتفعات معينة، فقط؛ بهَدفِ التطاول، والتفاخر، والتبجح على الآخرين.

وقال عنهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}[الفجر: 6-8]، حتى أنَّه بقيت هناك أساطير لأجيال طويلة عن مدنهم، عن عمرانهم، أساطير بعضها خرافية؛ لشهرتها، لما كانت عليه من القوة، والإحكام، والإتقان، والتطاول، والتفاخر.

  • مع ذلك أَيْـضاً، مع كُـلّ تلك النعم، امتلكوا القدرة العسكرية:

كانوا أهل قوة على المستوى العسكري، يمتلكون قوة عسكرية جبَّارة، ومقاتلين أشداء، ولديهم الإمْكَانات العسكرية في زمنهم -وبحسب إمْكَانات عصرهم- التي يمتازون بها عن غيرهم، ولديهم القدرة على شن الحروب والهجمات على الآخرين؛ فاستغلوا تلك الإمْكَانات والقدرات العسكرية في البغي على غيرهم، في الظلم لبقية المجتمعات، في الاعتداء على المجتمعات الضعيفة، والبطش بها، والتعدِّي عليها، وارتكاب الجرائم بحقها.

ولهذا يقول الله عنهم، فيما وصلوا إليه من تكبر، وظلم، وتباهٍ بالقوة والقدرة؛ لأنهم امتلكوا القدرة العسكرية، القدرة الاقتصادية، القوة في ذلك كله، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}[فصلت: من الآية15]، كانوا يتباهون أنهم أصبحوا هم القوة الأولى في المجتمعات البشرية، أضخم وأقوى أُمَّـة بين بقية المجتمعات البشرية، فأصبحوا يفتخرون بذلك، يتباهون بذلك، وتكبَّروا على بقية المجتمعات، وظلموها، واضطهدوها.

وقد ذكَّرهم نبي الله هود بسوء مسلكهم العدواني، في سلوكهم سلوك البطش، والجبروت، والظلم، والتعدي للآخرين، وذكَّرهم بذلك قال: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء: الآية130]، بالجبروت، بالظلم، والتنكيل بالآخرين ظلماً وتعدياً؛ فـ {طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأكثروا فِيهَا الْفَسَادَ}[الفجر: 11-12].

مع كُـلّ ذلك انحرفوا عقائدياً: عبدوا غير الله، تنكَّروا لدين الله. كانت البشرية، وكان المجتمع البشري قد بدأ مرحلةً جديدة، من بعد الطوفان العظيم، وهلاك قوم نوح، إلَّا الذين آمنوا معه، وبدأ المجتمع البشري بدايةً جديدة، ومرحلة تاريخيةً جديدة، مبنيةً على الإيمان، على التوحيد لله، على الاتِّباع لرسله، والتَّمَسُّك برسالته، والالتزام بتعاليمه، ثم بدأ الانحراف من جديد، يبدأ عمليًّا، سلوكياً، أخلاقياً، ويتعاظم حتى يتحول إلى انحراف في العقيدة، إلى الشرك بالله، وعبادة غيره؛ فهم انحرفوا، انحرفوا عقائدياً، وتنكَّروا لرسالة الله ودينه، واتخذوا آلهةً من الأصنام، يعبدونها من دون الله، وانحرفوا بالطغيان، والظلم، والفساد، وارتكاب الجرائم، وبَطِرُوا بالنعمة التي هم فيها، النعمة العظيمة.

أرسل الله إليهم نبيه هوداً “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وهو منهم في النسب، ينتمي إلى تلك الأُمَّــة والارتباط الاجتماعي؛ ولهذا يسميه في القرآن: {أَخَا عَادٍ}، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ}[الأحقاف: من الآية21]؛ لأنه منهم، فبلَّغهم رسالات الله، وسعى لهدايتهم؛ لإنقاذهم مما قد وصلوا إليه، من الانحراف، والبطر بالنعمة، والتكبر، والظلم، وارتكاب الجرائم، وانتشار الفساد، وذكَّرهم بنعم الله عليهم، وحذَّرهم وأنذرهم من العواقب الخطيرة للكفران لنعم الله، قال لهم: {وَاذْكُرُوا، إذ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}[الأعراف: من الآية69]، أنتم الأُمَّــة التي استخلفكم الله من بعد قوم نوح، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ}[الأعراف: من الآية69]: نعمه العظيمة عليكم، {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأعراف: من الآية69]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[الأعراف: الآية65]، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، بالتوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والخضوع لرسالته ونهجه، والتمسك بدينه، والتزام التقوى.

تصدَّر الملأ منهم، الذين استكبروا (زعماؤهم، كبارهم، قادتهم، الجبابرة، العنيدون) تصدَّروا الموقف في التكذيب بالرسالة الإلهية، ومعارضة نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وتوجيه الاتّهامات له، وإطلاق الدعايات عليه، {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}[الأعراف: الآية66]، هكذا واجهوه بهذا الاتّهام السخيف جِـدًّا، قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، يعني: خِفَّة عقل، وغياب للرشد، وانعدام للفهم، هم يوجِّهون إليه هذه التهمة الغريبة جِـدًّا، ويتخاطبون معه بذلك الأُسلُـوب، {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[الأعراف: من الآية66]، مع أنه دعاهم دعوة حقٍ واضحة، حقٍ واضح، نورٍ واضح، هدىً واضح، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يؤيِّد رسله أَيْـضاً بالمعجزات الدالة على أنهم رسل من عند الله.

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمين (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ}[الأعراف: 67-69]، هكذا كان يتخاطب معهم بنصح، وحرص، لم يستفزوه بكلامهم المسيء، المستفز، الجارح؛ لأنه حريصٌ على هدايتهم، على إنقاذهم، صبر على تكذيبهم، على إساءتهم، على استفزازهم، وكان همه أن يبيِّن لهم الحق، أن يقيم عليهم الحجّـة، أن يوضِّح لهم الحقيقة، فنصحهم بنصحٍ وأمانة، وذكَّرهم أنه لا مبرّر أبداً لتنكرهم للرسالة، واستغرابهم من أن الله أرسله إليهم؛ لأنه بشر، {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ}[الأعراف: من الآية69]: هُدىً من الله لهدايتكم، {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ}[الأعراف: من الآية69]: هذه نعمة عليهم أصلاً، {لِيُنْذِرَكُمْ}[الأعراف: من الآية69]؛ لأنهم بحاجة إلى إنذار.

كان من الدعايات التي أطلقوها عليه: الاتّهام له بالاختلال العقلي، عقوبةً -حسب زعمهم- من أصنامهم، قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}[هود: من الآية54]، قالوا: [لقد عاقبتك الأصنام، وأصابتك في عقلك، عقوبةً لك؛ لأنك لا تؤمن بها، وأنت كافرٌ بها]، وهو قال لهم: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جميعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}[هود: 54-55]، افعلوا أنتم وأصنامكم ما بدا لكم، كيدوا بكل كيدكم، كيدكم باطل، لا تأثير لها، لا قوة لها، ليس منها ضرٌ ولا لها تأثير.

طرحوا من جديد ما سبق أن طرحه الملأ من قوم نوح، قالوا: [لا يمكن أن تكون رسولاً وأنت بشر، أنت بشرٌ مثلنا]، وأثاروا هذه العقدة، عقدة وحساسية الكبر، الكبر: [كيف نتَّبع هذا، وهو ليس إلَّا بشراً مثلنا، كيف ذلك؟!]، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إذَا لَخَاسِرُونَ}[المؤمنون: 33-34]، والشيء العجيب -كما قلنا- أنهم رضوا بالألوهية بكلها لحجر، ولم يرضوا بالنّبوَّة لبشر، ثم ماذا؟ ثم هم يتَّبعون بشراً آخرين، هل هم في واقعهم لا يتبعون بشراً من غير اتِّباع لأحد؟ لا، هم يتَّبعون بشراً ضالين، مستكبرين، سيئين، مجرمين، بدلاً من اتِّباع البشر الأنبياء، الرسل، الذين إن اتَّبعوهم؛ فإنما يتحَرّكون بهم وفق تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأن الرسول بنفسه هو يتَّبع ما أوحى الله إليه، هو بنفسه متَّبع، متَّبعٌ لما أوحى الله إليه، لا تصل المسألة إلى عنده فحسب، فيكونون متَّبعين له لآرائه الشخصية، لمزاجه الشخصي، لأهوائه الشخصية، ليس كذلك، هو بنفسه كما كان رسول الله “صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ” يقول بما علَّمه الله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام: الآية50].

أثَّرت على جماهيرهم وأغلبيتهم تلك الارتباطات بالمستكبرين الجبابرة، كان لهم قادة وزعماء جبابرة، ظلمة، متكبرين، بطَّاشين، يبطشون، يرتكبون الجرائم، من أهل العناد، والشدة، والقسوة، والفظاظة، والغلظة؛ فلم يستجيبوا للرسالة الإلهية، كما قال الله عنهم: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُـلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[هود: الآية59]، كانوا يتَّبعون أوامر قادتهم الجبابرة، الذين ضلُّوا بالعناد الشديد، وسخروا منه، وطال تكذيبهم، وأظهروا له السُّخريَّة، إلى درجة أنهم كانوا عندما يذكِّرهم، عندما يعظهم، عندما يبلِّغهم رسالات الله، حينما يكمل، يقولون له: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أم لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}[الشعراء: من الآية136]، لا قيمة لكلامك، لا نتقبل منك، لا نصغي لك، والمسألة سواء، {أَوَعَظْتَ أم لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}، ليس لكلامك عندنا أي قيمة، ولا أي تأثير، وليس بمقبول نهائيًّا.

أصبحوا يطالبونه بالعذاب، كلما حذَّرهم وأنذرهم بخطورة التمادي، يطالبون: [هات العذاب، فأتِ به]، ويستعجلونه بالعذاب، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأعراف: الآية70].

بعد إقامة الحجّـة، والتذكير لهم، ولزمن، عُوقِبوا أولاً بالجَدْبِ، ونَزْعِ البركات؛ عسى أن يتذكَّروا، ليكون عاملاً مساعداً على تذكُّرهم، وذكَّرهم نبي الله هود “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ونصحهم بالرجوع إلى الله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}[هود: الأية52]، لكنهم استمروا على إصرارهم، وجحودهم، وعنادهم، وطال بهم الزمن وهم على ذلك، فانتهت المهلة، وأتى موعد العذاب، أصبح من آمنوا منهم هناك، فئة قليلة مؤمنة، والبقية أصرُّوا على ما هم عليه، وانتهى الفرز، وتمايزت الصفوف.

فأتاهم العذاب، أتى موعد العذاب الإلهي، العقوبة الإلهية المدمّـرة، المهلكة، حَيثُ أرسل الله عليهم الريح العقيم: ريح شديدة جِـدًّا، مدمّـرة، ليست رياح المطر، أَو رياح النباتات، أَو رياح الموسم، ريح عقيم، مدمّـرة، مهلكة؛ لتدميرهم، وإهلاكهم، عندما أقبلت كانت كثيفةً جِـدًّا، لدرجة أنهم تصوروا أنها السحب المحملة بالأمطار، وأنها قادمة، ففرحوا، وخرجوا لاستقبالها فرحين، مستبشرين؛ لأنهم كانوا في جدب قد أتعبهم، وأرهقهم، وأضرَّ بهم، فاستبشروا وخرجوا لاستقبال تلك التي ظنوّها السحب الكثيفة المقبلة المحملة بالأمطار، فإذا هو ماذا؟

{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدمّـر كُـلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الأحقاف: 24-25]، ريح مُدمّـرة {تُدمّـر} -كما قال الله- {كُلَّ شَيْءٍ}، دمّـرت كُـلّ شيء، {فَأصبحوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف: من الآية25]، {كَذَلِكَ} يعني: سُنَّة من سنن الله تعالى في معاقبة القوم المجرمين، أنه في الأخير يأتيهم العذاب، لا يتركهم الله بدون عذاب، لا بُـدَّ من العذاب، والعذاب أنواع كثيرة.

واستمرت الرياح عليهم لأيام، وكانت قويةً جِـدًّا، ومدمّـرةً، ومهلكة، قال عنها الله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات: الآية42]، قال أيضاً: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّـام حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى}[الحاقة: من الآية7]، أُولئك ذوو الأجساد الضخمة، البنية القوية، الذين امتلكوا القوة البدنية، والقوة العسكرية، أصبحوا صرعى، متناثرين في كُـلّ مكان، قد هلكوا بأجمعهم، وماتوا بكلهم، وهم في ضخامة أجسامهم، وقد تبعثروا وتناثروا في كُـلّ مكان، هالكين، ميتين، كما قال الله عنهم: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة: من الآية7]، لضخامة أبدانهم، لكنهم قد هلكوا، {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة: الآية8].

وطوى الله صفحتَهم، أُمَّـة، أُمَّـة بأكملها، بما كانت تمتلكه من إمْكَانات ضخمة، أُمَّـة كثيرة العدد، أمدها الله بالثروة البشرية، بالبنين، وتكاثرت، كان لهم نشاطهم الزراعي، عمرانهم، مدنهم، قوتهم العسكرية، نشاطهم على الأرض، كانوا فيما هم فيه من بغي، وتجبر، وهجوم على بقية المجتمعات، واضطهاد لها، والبطش بجبروت، كُـلُّ ذلك انتهى، وطوت صفحتَهم تلك الرياحُ في غضون أسبوع، ثمانية أَيَّـام، كان غضب الله عليهم شديداً؛ لأنه أنعم عليهم، مكَّنهم بالنعم العظيمة الوافرة؛ لكنهم كفروا نعمته، وكذَّبوا برسالته، وتنكَّروا لتعاليمه، لعنهم الله، وطردهم من رحمته، وأصبح مصيرهم إلى النار، وخسروا كُـلّ شيء، قال الله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً}[هود: من الآية60]: لم يكن هناك من يأسفُ عليهم، أَو يحزن لمصيرهم، {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}[هود: الآية60]، بعداً لهم، وهلاكاً لهم.

وَنَجَّى الله نَبيَّهُ هوداً والذين آمنوا معه، نَجَّاهم من الهلاك، وذهبوا قبل أن يبدأ الهلاك، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}[هود: الآية58].

وتبيَّن وتجلَّى من هو الخاسر؟ كانوا يقولون: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إذَا لَخَاسِرُونَ}[المؤمنون: الآية34]؛ فكان الخاسرون هم من ارتبطوا بأُولئك الجبابرة، {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُـلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[هود: من الآية59]، وخسروا كُـلَّ شيء في الدنيا وفي مستقبلهم في الآخرة، وأصبحوا درساً لغيرهم من الأمم والأقوام والمجتمعات، وعبرةً لهم.

نكتفي بهذا المقدار…

وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

 

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com