الحَقُّ وأكنافُ بيت المقدس

 

عبدالرحمن مراد

لم يكن فتح بيت المقدس في زمن الخلافة الراشدة حدثاً عابراً، بل حمل الكثير من الإشارات، حَيثُ أحجم جيش المسلمين عن اقتحام مدينة بيت المقدس واكتفى بحصارها حتى استسلمت، وتسلم مفاتيحها رأس الدولة الإسلامية يومذاك، وقد أقر المسلمون الحرية الثقافية في ممارسة الطقوس دون انتقاص من قيمة الأديان الأُخرى، بل قالوا لسكان المدينة لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وقد كان المسلمون يضربون مثلاً رائعاً وبديعًا في التعايش مع الآخر، وفي المدنية التي عرفوها قبل أن ينظر لها الغرب في الزمن المتأخر.

وفي المرجعيات الثقافية والعقائدية العربية والإسلامية يجد المرء أن ثمة تلازمًا بين المسجد الأقصى بكل رمزياته وحمولاته الثقافية والدينية وبين المسجد الحرام ببكة، فالقضية بينهما قضية تكاملية، فالمسجد الحرام يمثل ذروة الاكتمال في الشرائع السماوية بالرسالة الخاتمة للرسول الأكرم محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- والأقصى يمثل حالة جامعة لكل الشرائع التي تعاضدت وتواترت لغرض إصلاح أحوال البشر في الأرض.

ولعل حادثة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى توحي بمثل ذلك دون ريب ومراء، وثمة حوارات ثقافية بين الأديان والإسلام روتها كتب الأخبار والتاريخ تتحدث عن الجدل المعرفي وذروة اكتماله في الإسلام، وإقرار أصحاب الديانات ورهبانهم وقساوستهم بمثل ذلك؛ فالإسلام لم يكن منفصلاً عن السياق العام للشرائع الربانية بل كان متصلَ الحلقات إلا ما حرف منها، ولذلك حين سمع نجاشي الحبشة ببعض آيات القرآن قال قولته المشهورة: “إن هذا القرآن والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة”.

ظلت القدس تمثل حالة نادرة من التعايش، ومن السلم، حتى تداعت أركان الدولة الإسلامية وطمع في المسلمين من طمع وفق سياقات التاريخ التي مرت في العصور التي شهدت تضعضع وشتات المسلمين، وتغير حال القدس من السلام والتعايش إلى الصراعات والحقد، وقد لحق المسلمين أذى كَثيراً في الماضي وظل الحال على ذلك إلى أن بسط المستعمر البريطاني يده على الشام وعلى القدس ثم سلّمها إلى الحركة الصهيونية العالمية مطلع القرن العشرين وفق معاهدة عُرفت بوعد بلفور.

حاول اليهود طمس الهُــوِيَّة العربية والإسلامية عن القدس وعن بيت المقدس، وقاموا بتهجير العرب والمسلمين، وعملوا جاهدين على التغيير الديمغرافي وجلبوا اليهود من كُـلّ بقاع الأرض وحاولوا تدجينهم في المكان الذي لا يمثلهم، وعملوا المستوطنات واحتلوا الأرض احتلالاً كليًّا في 1948م، وتعاملوا مع المسلمين بحقد لم يشهد له التاريخ مثيلاً.

وظلت القضية الفلسطينية وقضية بيت المقدس هي قضية العرب والمسلمين الأولى على مدى أكثر من نصف قرن وما تزال.

لم يكن لليهود في حقب التاريخ المختلفة حضور في بيت المقدس، وجل الصراع الذي شهده التاريخ كان بين المسلمين والمسحيين، ومن هنا فالعامل التاريخي لم يُثبِتْ لليهود حضوراً في فلسطين ولا في بيت المقدس؛ ولذلك شاعت عبارة: “أن المستعمر البريطاني وهب ما لا يملك لمن لا يستحق” وهي عبارة اشتغل عليها المثقفون ردحاً من الزمن.

ولعل الثورة الإسلامية الإيرانية كانت تدرك أن الصراع مع اليهود سوف يطول أمده ولذلك كانت فكرة “يوم القدس العالمي” حتى لا تنسى الأجيال الجديدة القدس وتظل حاضرة في الوجدان العام للمسلمين كقضية جوهرية وحيوية ذات تواشج وبعد تكاملي وذات خصوصية في العلاقة الجدلية بين الديانات، ولذلك لن يندثر أثر القدس من الوجدان العام تحقيقاً لقول الرسول الأكرم -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- الذي يقول: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيَهم أمرُ الله وهم كذلك.

– قالوا: يا رسول الله وأين هم؟

– قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.

هذا الأثر يرد في كتب أهل السنة وفي مراجعهم، وقد سارع الكثير منهم إلى التطبيع وجرفتهم موجته دون وعي منهم وأكثرهم بوعي، إلا أن ظِلال الحديث اليوم دال على الطائفة التي على الحق، والتي تجهد على قهر العدوّ، وتحمل همّ القدس وفلسطين، وهموم بيت المقدس، هذه الأُمَّــة تتمثل في تيار المقاومة الإسلامية، وهو تيار كلما حاول العدوّ النيل منه لم يضره شيء رغم ضراوة الاستهداف، ولعل في التأمل في نص الحديث ما يغني الكثير عن الجدل العقيم الذي ينساقون إليه بدون وعي، أَو بغباء مفرط، أَو يسوقهم إليه عمه الطغيان الذي وصلوا إليه وهم يقارعون الحق بالباطل الذي هم عليه.

إذن الصراع بيننا وبين اليهود اليوم هو صراع بين الحق والباطل، وهو مُستمرّ حتى يأتي أمر الله، وهو آت لا محالة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

واليمن رغم الجرح النازف ورغم المعاناة إلا أنها تضع قضية القدس في أولوياتها وقد ثبت للعالم أنها تحمل همّ القدس في وجدانها العام، ولذلك تتوالى السنون ويظل القدس حاضراً في الوجدان العام اليمني، فالقدس تظل قضية مشتعلة الأوار مهما طبع المطبِّعون، طالما وهناك من يحمل همها في اليمن وفي غير اليمن.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com