الإمام زيد بن علي.. قدوةُ الثائرين (1-2)

إعداد: عبدالرحمن محمد حميد الدين

 

ما أحوجَنا اليومَ لإحياء ذكرى استشهاد الإمام زيد (عليه السلام) لنستلهمَ منه روحيته الجهادية، فنحن اليمنيون معنيون بهذه الثورة المقدسة أكثر من أي شعب آخر؛ بحكم انتمائنا الواضح للإمام زيد ولآبائه الطاهرين. فاليوم نحن في مواجهة من هم أسوأ من هشام بن عبد الملك ومن هم أبطش من بني أمية، فـ[أمريكا وإسرائيل والنظامان السعودي والإماراتي] يمثلون [الشر المطلق] وهم اليوم [أولياء الشيطان] الذين أمرنا الله بقتالهم في قوله تعالى: {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}. وخَاصَّة وهم من يعتدون علينا وعلى ووجودنا وهويتنا.

فالإمام زيد (عليه السلام) عندما حرك الأمة ونهض بثورته كان ذلك في مواجهة [فئة ظالمة] محسوبة على المسلمين هم [بنو أمية]، فما بالك لو كان الإمام زيد في العصر الأمريكي والصهيوني؟! كيف ستكون نهضته في مواجهتهم؟ وكيف سيكون موقفه من التخاذل والتفريط والحياد، وحالة اللا موقف في مواجهة أمريكا وإسرائيل وأذيالهم؟!

فعندما تولى يزيد بن معاوية (عليه لعنة الله) لم يكن أقل سوءًا من أبيه في طغيانه وفسقه وفجوره، وكانت [مأساة كربلاء] وقتل ابن رسول الله [الحسين بن علي] أول عملية لتدشين حكمه الفرعوني وتعزيز نفوذه الشيطاني، وهي رسالة لبقية الأمة أنكم لستم أعظم حرمةً من الحسين بن علي، ولا من الكعبة المشرفة التي ضربها بالمنجنيق، ولا من المدينة المنورة التي استباحها لثلاثة أيام، ولا من عشرات الصحابة والتابعين الذي قتلهم في وقعة الحرّة، هذا فضلًا عن ممارسة الفجور بحق المئات من بناتهم في تلك الثلاثة أيام!!

ثم أتت مرحلة بني مروان الذين كانوا لا يتعاملون مع الأمة إلا بضرب الرقاب، ومصادرة الأموال، والتي كانت لغتهم الوحيدة في التعاطي مع مخالفيهم.. حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم كانوا يرفضون إسلام أهل الذمة حتى يستمر ما كانوا يعطونه من الجزية المفروضة عليهم!!

ويكفينا نموذجًا سيئًا لأولئك الممسوخين [هشام بن عبد الملك بن مروان] الذي اختزل سياسته بقوله: (والله لا يقول لي أحد اتقِ الله إلا ضربتُ عنقه)!! فطغى وتجبر وكان أسوأ ممن سبقه من بني أمية، وكان أبرز ما تميز به العداء العميق لآل بيت رسول الله، والتضييق عليهم، ومصادرة أموال الناس وأموال بيت المسلمين لصالحه ولصالح رجال دولته، فأطلق العنان لأبناء عمومته لأكل أموال الناس بالباطل، وقام باستقطاب أشرافهم بالمال، واستقطعهم الأراضي الواسعة حتى يضمن ولاءهم.

وتجاه هذا الواقع كله تحَرّك الإمام زيد (عليه السلام)، والذي كانت ثورته امتدادا لثورة جده الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، وامتدادا لمنهجه، ومبدئه، وبنفس الدافع الإيماني، وكانت حركته إنما تعبر عن مبادئ الإسلام ولم تكن نظرة شخصية، أَو موقفًا شخصيًا كما يصورها بعض المؤرخين، إنما كانت [ترجمة عملية] لتوجيهات الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، ولذلك كان يقول: (والله ما يدعني كتاب الله أن أسكت وقد خُولف كتاب الله).

 

نبذةٌ موجزةٌ عن حياة الإمام زيد ونشأته:

وُلِدَ الإمام زيد بن علي في المدينة المنورة سنة خمس وسبعين هجرية، وقيل سنة ثمانين هجرية، ونشأ (عليه السلام) في بيت العلم والدين والنبوة، حيث ترعرع على العلم والعبادة والفضل والزهادة، وكان أشبه الناس بجده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الفصاحة والبلاغة والبراعة والشجاعة، ويُعرف في المدينة بـ[حليف القرآن]، وكان إذَا سمع شيئًا من القرآن يُغشى عليه من شدة خشيته لله!!

وعندما نعلم أن زيدًا هو ابن الإمام زين العابدين علي بن الحسين فهذه لوحدها كرامة وفضيلة لها العديد من الدلالات والشواهد، التي تؤكّـد لنا أن زيدًا عاش وترعرع في أحضان التقوى ومعالم الإيمان وأجواء القرآن معرفةً وسلوكًا ومنهجًا، كما أن عظمة الإمام زيد وما تركه للأمة هو بحدّ ذاته يحمل العديد من الدلالات على أنّ الإمام زين العابدين عمل الكثير من أجل أمة جده محمد (صلى الله عليه وعلى آله) حيث استطاع أن يصنع رجلًا عظيمًا كزيد، فضلًا عن صنائعه المعروفة ومآثره الظاهرة والعظيمة التي من أبرزها: الصحيفة السجادية، ورسالة الحقوق وغيرها، رغم الأجواء المتلبدة والظروف القاسية التي فرضها الأمويون وأعوانهم لتعزيز ملكهم العضوض والفاسد الذي شوه الدين وقتل القيم في نفوس الأمة.. وفي ذلك يقول السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) في ظلال دعاء مكارم الأخلاق – الدرس الأول:

((إن الحالة التي كان فيها – زين العابدين – حالة فعلًا شديدة، بالغة الشدة، النفوس مقهورة ومهزومة، والأفواه مكمَّمة، لكن زين العابدين من أولئك الذين يفهمون بأن المجالات دائماً لا تُغلق أمام دين الله فانطلق هو ليعلم ويربي، ويصنع الرجال؛ لأنه يعلم أنه إن كان زمانه غير مهيء لعملٍ ما فإن الزمان يتغير فسيصنع رجالًا للمستقبل. وصنع فعلًا وخرج الإمام زيد (عليه السلام) شاهرًا سيفه في سبيل الله، وترك أمة ما تزال تسير على نهجه من ذلك اليوم إلى الآن)). إلى أن يقول (رضوان الله عليه): ((وكلنا نعرف ذلك الظرف القاهر الذي كان يعيشه زين العابدين (صلوات الله عليه)، لكن ننظر ماذا عمل زين العابدين، بنى زيدًا، وبنى الكثير من الرجال، الذين انطلقوا فيما بعد حركة زيدية جهادية جيلًا بعد جيل على امتداد مئات السنين)).

 

بعضُ الأهداف والمعالم الأَسَاسية لثورة الإمام زيد:

والحديث عن الإمام زيد (عليه السلام) يطول، ومهما حاولنا إعطاء صورة متكاملة عن هذا الإمام العظيم فلن نفيَ حقه، وإنَّ أبلغ ما يُوصف به العظماء بعد موتهم هو آثارهم وبصماتهم وتضحياتهم في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين التي تصنع منهجًا للأمة وتشقّ شريعة للأجيال اللاحقة.

ومن أجل ذلك تحَرّك الإمام زيد (عليه السلام) وثار لتعزيز [الروحية الجهادية] الغائبة عن وعي الأمة في تلك المرحلة من التاريخ، وخَاصَّة بعد [مأساة كربلاء] التي عززت الذل والهوان في نفوس المفرطين والمتخاذلين، وبالتالي جعلتهم ضحية لحكام وطواغيت أشد فظاعة من معاوية وأشد فجورًا من يزيد، على شاكلة الحجاج بن يوسف الثقفي، وهشام بن عبد الملك، ويوسف بن عمر الثقفي وغيرهم.

ويروى عن البابكي – واسمه عبد الله بن مسلم بن بابك – أنه قال: “خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة فلما كان نصف الليل واستوت الثريا فقال: يا بابكي أما ترى هذه الثريا أترى أحدًا ينالها؟ قلتُ لا، فقال: والله لوددتُ أنّ يدي ملصقة بها فأقع إلى الأرض أَو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة وأنّ الله أصلح بين أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)”.

فالوضعية الحرجة والمظلمة والقاسية جعلت الإمام زيدًا (عليه السلام) يتحَرّك في أكثر من مسار، فاتجه في مسار تصحيح الفهم المغلوط والناقص للقرآن الكريم الذي كان نتاج [التثقيف الأموي] المنحرف، واتجه في مسار التوعية، وإقامة الحجة على علماء الأمة، ومن ثمّ في مسار إحياء الروحية الجهادية في أوساط الناس من خلال دروسه، وخطبه ورسائله وكتبه، إلى أن صاغ مسار [التضحية في سبيل الله] بماله ودمه ليثبت للأجيال أن الإيمان بالله وأن دين الله [مسيرة عملية] وليس مجرد فتاوى وتشريعات فقط، ولذلك رسم الإمام زيد أهدافه للأمة التي سنذكر بعض معالمها الأَسَاسية من خلال رسائله وكتبه إلى عامة المسلمين وعلمائهم:

 

أولًا: الدعوةُ إلى كتاب الله:

((وقد كتبت إليكم كتابًا بالذي أريد من القيام به فيكم، وهو: العمل بكتاب اللّه، وإحياء سنة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبالكتاب قَوَام الإيمان، وبالسُّنَّة يثبت الدين، وإنما البدع أكاذيب تُخْتَرَع، وأهواء تُتَّبَع، يتولى فيها وعليها رجالٌ رجالًا صدُّوهم عن دين اللّه، وذادوهم عن صراطه، فإذا غَيَّرها المؤمن، ونهى عنها المُوَحِّد، قال المفسدون: جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!! وأيم اللّه ما البدعة إلا الذي أحدث الجائرون، ولا الفساد إلا الذي حكم به الظالمون، وقد دعوتكم إلى الكتاب فأجيبوا داعي اللّه وانصروه)). ((عباد اللّه انصحوا داعي الحق، وانصروه إذَا قد دعاكم لما يحييكم، ذلك بأن الكتاب يدعو إلى اللّه وإلى العدل والمعروف، ويزجر عن المنكر)).

 

ثانيًا: التحذير من تولي الحاكم الخائن والجائر:

((عباد اللّه إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خذلناكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا. عباد الله، فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكلُّ مالٍ للَّه أنفقوه، وكل جمعٍ جمعوه، وكل سيف شحذوه وكل عدل تركوه، وكل جور رَكبوه، وكل ذمة للَّه تعالى أخفروها، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نَبَذوه، وكل حكم للَّه تعالى عطّلوه، وكل عهد للَّه نقضوه فأنتم المعينون لهم على ذلك بالسكوت عن نهيهم عن السوء)).

 

ثالثًا: الدعوة إلى ولاية أعلم الأمة بكتاب الله:

((عباد اللّه فأسرعوا بالإنابة وابذلوا النصيحة، فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل القرآن، وفينا كان يهبط جبريل (عليه السلام)، ومِنْ عندنا اقتبس الخير، فَمَنْ عَلِمَ خيرًا فمنا اقتبسه، ومن قال خيرًا فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن النَّاهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود اللّه)).

((يا معشر الفقهاء، ويا أهلَ الحُجَى أنا حُجَّةَ من الله عليكم، هذه يدي مع أيديكم على أن نقيم حدود الله ونعمل بكتاب الله، ونقسم بينكم فيئكم بالسوية، فاسألوني عن معالم دينكم، فإن لم أنبئكم بكل ما سألتم، فولوا من شئتم ممن علمتم أنه أعلم مني، والله لقد علمت علم أبي علي بن الحسين، وعلم عمي الحسن، وعلم جدي الحسين عليهم السلام، وعلم علي بن أبي طالب وصي رسول الله وعيبة علمه، وإني لأعلم أهل بيتي، والله ما كذبتُ كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت محرما منذ عرفتُ أن الله يؤاخذني، هلمّوا فسلوني)).

 

رابعًا: دعوة الأمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

((قد ميزكم اللّه تعالى حق تمييز، ووسمكم سِمَة لا تخفى على ذي لبّ، وذلك حين قال لكم: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ باِلمعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيْعُوْنَ اللَّهَ وَرَسُوْلَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ}، فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده. واعلموا أن فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذَا أُقيمت له استقامت الفرائض بأسرها، هينها وشديدها)).

 

خامسًا: دعوة الأمة إلى جهاد أهل البغي والعدوان:

((إنّ الله فرض عليكم جهاد أهل البَغي والعدوان، وفرض نُصرة أوليائه الداعين إليه وإلى كتابه، قال الله: {ولينصرَنّ اللهُ مَن ينصرُه}، وإنّا قوم غضِبنا لله ربِّنا، ونقمنا الجور المعمول به في أهل ملّتنا، ووضعنا كُـلّ من توارث الخلافة، وحكم بالأهواء ونقض العهد، وصلّى الصلاة لغير وقتها، وأزال الأفياء والأخماس والغنائم، ومنعها الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وعطّل الحدود، وأخذ بها الجزيل من المال، وحكم بالرشا والشفاعات والمنازل، وقرّب الفاسقين، ومثّل بالصالحين، واستعمل الخونة، وخوّن أهل الامانات، وسلّط المجوس، وجهّز الجيوش، وقتل الوالدين، وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، ويحكم بخلاف حكم الله، ويصدّ عن سبيل الله، وينتهك المحارم، فمن أشرّ عند الله منزلة ممّن افترى على الله كذبًا، أَو صدّ عن سبيله وبغى في الأرض؟!)).

 

سادسًا: التحذير من علماء السوء:

ومما قاله (عليه السلام) مُخاطبًا علماء السوء: «أمكّنتم الظلمة من الظلم، وزينتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقاربة، فهذا حالكم. فيا علماء السوء، محوتم كتاب الله محوًا، وضربتم وجه الدين ضربًا، فَنَدَّ والله نَدِيْدَ البعير الشَّارِد؛ هرباً منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكت دماء القائمين بدعوة الحق من ذرية النبي، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسِنَّة، وصُفّدوا في الحديد، وخَلص إليهم الذل، واستشعروا الكرب، وتسربلوا الأحزان، يتنفسون الصعداء ويتشاكون الجهد».

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com