أسس الحكم الصالح في عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر (1 – 2)

في ورقة عمل قُدمت خلال ندوة حول أسس الإدارة والرقابة للدولة في فكر الإمام علي:

محمد محسن الحوثي

نظّمت رابطةُ علماء اليمن، بالتعاون مع الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، في الـ24 من أغطس الماضي، ندوةً حول أُسُسِ الإدارة والرقابة للدولة في فكر الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-.

قُدِّمت خلال الندوة توصياتٌ وأوراقُ عمل تناولت لسلطة وشروطها في فكر الإمام علي وموجبات إسقاط الولاية في الشريعة الإسلامية، وكذا إضاءات من رقابة الإمام علي كرم الله وجهه على ولاته.

فيما استعرض محمد محسن الحوثي في ورقة العمل الأولى أُسُسَ الحكم في عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر: تناولت عدداً من الجوانب نستعرضها في حلقتين، وتالياً نسرد الأولى منهما:

 

مقدمة:

قبل ألف وأربعمِئة سنة تقريباً، ولّى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، مالكَ بنَ الحارث الأشتر على مصر، وكان الإمامُ علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-، يعني باختيار عُمَّاله من أهل القدرة والصلاح والتقدير، ويزودهم بعهود مكتوبة إلى أهل ولاياتهم ويتضمن الكتاب إلى من ولي عليهم بيان حقوقهم وواجباتهم، والخطة التي وضعها لإدارة بلدهم، ويعتبر ميثاقاً لا يجوزُ للعامل أن يحيدَ عنه أَو يخرج على ما جاء فيه، وكتبه وعهوده في هذا المقام مشهورة، لكن أشهرها ذلك الكتاب الجامع الذي كتبه للأشتر النخعي لما ولّاه على مصر، وهو أطول عهوده وأجمع كتبه، وضع فيه أدق الأنظمة وأهمها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية والاجتماعية.. وعالج فيه بصورة موضوعية وشاملة جميع قضايا الحكم وإدارته، والعلاقة بين الحاكم والرعية/ المحكوم، ثم يتعَهّدُهم بكتبه، موجهاً وناصحاً ومرشداً، ثم هو يتحسس أخبارهم، ويستطلع أنباءَهم، وفي ضوءِ ذلك يقر المحسِنَ منهم على عمله، ويعزلُ مَن أساء ويعاقب المذنب.. وتلك هي سياسة الإمام العادل، والخليفة الراشد الأريب.

الدراسةُ تقتربُ من مفهوم أسس- قواعد- الحكم الصالح في عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر، وتقتصر على سبر أغواره بتحليل المفاهيم التي يتضمنها العنوان، بصبغة سياسية، والاستعانة ببعض مقولات الوظيفية- البنائية، والمقارنة الشكلية، ويعتبر تعريف المفاهيم من أوليات التحليل المنهاجي لها، والضبط الموضوعي للمستبطن فيها؛ باعتبَارِها ركيزةً أَسَاسيةً في التعامل مع الظاهرة والأحداث، وفق المنهج الكلي الحاكم للحياة –الإسلامية- في الفكر والتطبيق؛ لأَنَّ النظرةَ الجزئيةَ إلى مضمونِ العهد لا تعطي صورةً شاملةً لما اختزنه من قيم ومبادئَ وضوابط، وحقوق وواجبات، ومواصفات لوظائف أبنية الحكم، والقائمين عليها، وأساليب اختيارهم، ومن جانب آخر غوص العهد بوضوح في تفاصيل دقيقة لكثير من أنساقه وأجزائه.

 

أهميّةُ عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر:

–        يُعتبَرُ أولَ عهد شامل –وثيقة دستورية- تضمن نظام إدارة الدولة والمجتمع، وشؤون الحكم وفق رؤية علمية كلية وأسلوب موضوعي يتجاوز الزمان والمكان؛ ولهذا تتجدّدُ قراءتُه للاستفادة منه عملياً، وغالباً ما يستحضرُ في مراحل الصراع والأزمات الحادة، ومن الأمثلة في هذا الصدد مطالبةُ الأُستاذ بجامعة الأزهر الدكتور/ رفعت صديق بإرسال نسخة من عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- إلى الرئيس/ عَبدالفتاح السيسي؛ باعتبَارِ أنه أفضلُ خارطة طريق يتم إهداؤها للرئيس.. وأضاف صديق: إنه من المهم أن يتمَّ توجيهُ الوزراء والمحافظين إلى العمل وفق ما رسمه علي بن أبي طالب في عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر، واعتبر أنه لو طبقت هذه الوصايا لاحتلت الحال في مصر.. وطالب صديق بمخاطبة رؤساء العالم الإسلامي بتدريس ونشر هذا العهد لما له من أهميّة كبيرة في إدارة الحكم والتعامل مع الشعوب قائلا: “لو طبق هذا العهد، وعملوا به ما قامت ثورة في بلاد المسلمين”.

–        تضمن العهدُ ما يتعارَفُ عليه في الأوساط الأكاديمية والمؤسّسات الدولية بمرتكزات ومبادئ الحكم الصالح/ الراشد/ الرشيد/ الجيد/ السليم، وبذلك إمْكَانية صلاحية العمل بما تضمنه العهد في الواقع العملي؛ لتوزيعِ القوة بين مؤسّسات الحكم والمجتمع –مؤسّسات حكم قوية ومجتمع قوي- على المستوى الداخلي، وتنظيم العلاقة مع الخارج، بجهاد الأعداء، وعقد المواثيق والعهود –صنع السلام-، وفي هذا الجانب اهتمت الأممُ المتحدة به بالتزامن مع تبنيها مفهومَ ومبادئَ الحكم الرشيد/ الصالح، المتزامنة مع فترة كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة (السابق)، الذي وصل العهد إلى أذنه عن طريق زوجته السويدية، وحينها قال: إن هذه العبارة من العهد يجب أن تعلقَ على كُـلّ المؤسّسات الحقوقية في العالم، والعبارة من العهد هي:

“… وأشعرْ قلبَك الرحمةَ للرعية، والمحبةَ لهم، واللطفَ بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً، تغتنم أكلَهم، فإنهم صنفان، إما أخٌ لك في الدين وإما نظيرٌ لك في الخلق”.

وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرِّسَ الأجهزةُ الحقوقية والقانونية العهدَ العلوي، وترشيحه لكي يكونَ أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرت لمدة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبيةُ دول العالم على كون العهد العلوي كأحد مصادر التشريع لقانون الدولي”.

وتضمّن تقريرُ الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية -النسخة العربية- للعام 2002م عَدَداً من مقولات الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- حول العلم والثقافة والتنمية الإنسانية، ويذكر التقريرُ أن هذه الوصايا الرائعة تعد مفخرةً لنشر العدالة وتطوير المعرفة واحترام حقوق الإنسان، وشدّد التقريرُ على أن تأخذ الدول العربية بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، واشتمل التقريرُ على منهجية الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- في السياسة والحكم وإدارة البلاد والمشورة بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وتحقيق مصالح الناس، وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة، واقتبس التقريرُ شرطَ الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- للحاكم الصالح الوارد في نهج البلاغة: “إن من نصّب نفسَه للناس إماماً فليبدأ بتعليمِ نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبُه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسَه ومؤدبها أحقُّ بالإجلال من معلم الناس”، واقتبس التقرير مقاطعَ من وصايا الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر، التي يؤكّـدُ فيها على استصلاح الأراضي والتنمية، يقول: “وليكن نظرُك في عمارة الأرض أبلغَ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأَنَّ ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلادَ وأهلك العبادَ، ولم يستقم أمرُه إلا قليلاً”، كما أورد التقرير أَيْـضاً أساليبَ الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- في محاربة الجهل والأمية وتطوير المعرفة، ومجالسة العلماء يقول لأحد عماله: “وأكثِرْ من مدارسة العلماء ومناقشة -ومنافسة- الحكماء في تثبيت ما يصلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك”، [التقرير: ص76]. وأورد التقرير شروطَ اختيار الحاكم –القاضي- العادل، ومكانته وحقوقه قول الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-: “ثم اختر للحكم بين الناس أفضلَ رعيتك لنفسك، ممن لا تضيقُ به الأمور، ولا تمحّكُه الخصوم، ولا يتمادى في الزّلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحَــقِّ إذَا عرفه، ولا تشرُفُ نفسُه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم في الحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الحكم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إعراء، وأولئك قليلون، ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً” [التقرير: ص103].

 

 رئيسةُ وزراء اسكتلندا رفعت العبارة السابقة من العهد العلوي في مقر الحكومة عام2018م.

الوالد العلامة/ أحمد محمد الشامي رحمه الله، كان يحدِّثُ طلبةَ العلم بالجامع الكبير-صنعاء- أن بريطانيا رفعت –علّقت- عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر في البرلمان البريطاني (مجلس العموم، ومجلس اللوردات).

 

الدراساتُ السابقةُ واتّجاهاتُها:

من خلال البحث والتنقيب في المكتبات وشبكة الإنترنت، لم تتوفر دراساتٌ علميةٌ (أُطروحات ورسائل دكتوراه وماجستير) إلا بعدد أصابع اليد، ووجد كمًّا كبيراً من القراءات والكتابات على شبكة الإنترنت، أما في اليمن وبعد البحث الحثيث وجد الباحث ثلاثةَ كتب، وكتيباً رابعاً، وهي:

–        السيد عَبدالملك بدر الدين الحوثي.. “المسؤولية العامة في ضوء دروس عهد الإمام علي لمالك الأشتر”، إعداد/ محمد محمد يحيى الدار، (صنعاء: دائرة الثقافة القرآنية، ط1، 2018م).

–        وزارةُ العدل بالجمهورية اليمنية، عهد الإمام علي لمالك الأشر عندما ولاه علي مصر، (صنعاء: مركز الشهداء للأعمال الثقافية والفنية، [د. ط]، 8/ 2017م).

–        المرتضى بن زيد المحطوري، عهد الإمامُ علي للأشتر: قانون حياة ودستور دولة، (صنعاء: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 2014م).

–        أحمد ناجي أحمد النبهاني، رسالةُ الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى الأشتر النخعي: قراءةٌ لنص تُراثيٍّ في السياسة الشرعية في ضوء الحالة اليمنية، (صنعاء: مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، 2000م).

إضافة إلى مقالات في الصحف والمجلات، وهي جهودٌ مقدرة، ويستفاد منها.

–        عقد الملتقى الأكاديمي المؤتمرَ العلمي الأول للارتقاء بالعمل المؤسّسي في ضوء عهد الإمام علي –-عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر”، صنعاء: 8-10/ 10/ 2018م، قُدِّم فيه أكثرُ من 25 دراسة وبحث في المجالات المختلفة، أثريت بالنقاش، واختتم المؤتمرُ ببيان تضمن التوصيات، ويعتبر خطوة صحيحة في الاقتراب من عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر.

ورغم وجود الكتاب والباحثين والمؤلفين والأساتذة والجامعات إلا أن الالتفاتِ إلى عهد الإمام علي نادرٌ جِـدًّا، ويمكن تصنيفُ الكُتاب والباحثين حسب نتاجهم على النحو التالي:

التيار الانتقائي: وهذا التيار يبحثُ عن ما يؤيدُ فكرتَه أَو وجهتَه، ويتحيزُ لمنهجه المستخدم أَو بعض مفاهيمه، كانتفاء أَو اقتناص جزء من نص العهد وترك جزء آخر أَو إهماله والقراءة المجزأة لنص العهد – بصورة تفكيكية وليس بموضوعية واحدة متكاملة ويكرس الانتقاء التحيز، ويكرس التحيز الانتقاء، وكلاهما يكرّسُ غيابَ الصورة الحقيقية الشاملة عن عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر.

التيارُ المؤدلج: هي صورة أُخرى للتحيز من منطلق قناعات فكرية ومذهبية تؤدلج “العهد” وتسيره حسب رؤيتها التي هي في المقام الأول رؤيةُ مَن ألّفها، وليس حسب ما هي عليه طبيعته، ليصيرَ مع دراسة الماركسي مادياً تاريخياً، ومع الليبرالي تنويرياً ديمقراطياً… إلخ.

وهكذا ليحملَ بأكثرَ من وجه، وليتخذَ أكثرَ من صورة، فالكُلُّ يدرُسُه ليخرجَ منه ما يريد، ويستنطق منه ما يشاء، فيؤدي إلى فساده بطمس مكنونه ويضيق عليه المنافذ كي يتحدث بلغة غير لغته ويكشف عن ذات ليست ذاته.

التيار الجامد: نتيجةً للتقليد الأعمى، غير الواعي، وعدم تكليف النفس في الإيداع وفي نفس اللحظة عدم الأصالة، وهذا التيار قد يصل إلى نفي من يخالفه وإخراجه من الملة.

التيار الوصفي: المستغرِقُ في تفاصيل مسحية أشبهَ بسرد حكايات وكأن العهد قصص وروايات يمكن التسلي بها.. والتيار الواصف إذَا ما أضيف إلى التيار الجامد أدخلت العهد في قضايا ليست من أولويات الحاضر المعاصر، ولا من توازناته ولا من ضروراته، وسيادة اللغة التقليدية وفقدان أصول اللغة الاتصالية الوسيطة.

 

التيارُ المتجزئ: وهو على نوعَين:

–        الأول اجتهد في جوانبَ ولم يستكمل جهدَه.

–        الثاني يشيرُ إلى جهود مفتقدة، وهم الأجدرُ بالدراسة والتحليل لهذا العهد، ولكن بعضَهم غادر الدنيا، والبعضُ الآخر شُغل بهموم جانبية، وضعت دراسة العهد، وغيره في آخر مراتب اهتماماتهم البحثية.

تيار التغريب: ويعتمدُ في دراسته وتحليلاته على المنهجية الغربية فضلاً عن المتغربين الذين احتذوا بالمنهج والفكر الغربي حذو القذة بالقذة، وانحشروا معهم في جُحر الضب، ويتعامل مع مختلف الظواهر المتعلقة بالمسلمين والإسلام والواقع العربي خَاصَّة، وفق منظومة المفاهيم الغربية وقياساً عليها، ولا تُحسَبُ إلا بالاستعانة بالمناهج الغربية دون نقد أَو مراجعة.. والتعامل معها على أنها العلم المعاصر، وكل ما عداها ليس بعلمٍ… إلخ ويتم استخدامها بعِلَاتها دون وضع اعتبارات للبيئة والثقافة، وهذا التيار عبّر عنه عَبدالرحمن بن خلدون بقوله: “إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.. والسبب أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها، وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أَو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب”.

والهدفُ الحضاري للأمة ليس اللحاق بالغرب وتقليده “ولو دخلوا جُحرَ الضب لدخلتموه”، وليس تضييقَ الفجوة بيننا وبينه، وإنما هو دخول عصر المعلومات والعولمة كأصحاب حضارة وثقافة متميزة، تتمتع باستيعاب واستخدام أفضل للمنجزات العلمية والتكنولوجية للإنسان، وقيم إنسانية رفيعة تحقّق للإنسان صفاءً نفسياً وعلاقاتٍ إنسانيةً صحيحة بين الأفراد والأمم.. تعالج هذه القيمُ الخواءَ السائدَ بين مواطني الأمم المتقدمة المتمتعين برخاء اقتصادي كبير، وتقدم تكنولوجي عظيم، وقدر أعظم من التعاسة، نتيجة لأسلوب الحياة الفردية التي يفرضها النظام الرأسمالي الفردي، ولانعدام المعايير الأخلاقية في معالجة المشكلات الدولية والمحلية -كل تلك القيم والمعايير الأخلاقية تضمنها عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- ونتج عن تيار التغريب ما يسمى بالتيار الدفاعي، ويتخذ أكثر من شكل منها:

–        اتّجاه التفاخر: يحاولُ إثباتُ أن الغربَ بنى أصولَ حضارته على أُسُس المعرفة الإسلامية آنذاك، ونسمع في كُـلّ وقت وحين العبارات تتردد أن كُـلّ شيء موجود في الإسلام، أَو في القرآن، عند إعلان الآخر أي ابتكار أَو إبداع منهجي، صحيح أن الإسلام تضمن كُـلّ شيء، وينسى أَو يتناسى أن الإسلام حث على العمل وبذل الجهد، والأخذ بالأسباب ليتحقّق الشهود الحضاري للأمة.

–        اتّجاه التبرير والاعتذار وبجهد في الدفاع عن شبهة هنا أَو هناك دون أن يدري أن هذا أحد أهداف منهاجية التغريب والاستشراق القديم والحديث.

–        اتّجاه افتراض التشابه بين عناصرَ أَو مفاهيمَ في الفكر الغربي والرؤية الإسلامية، كما هو في بعض القراءات لعهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر- وهو توجّـه بجهد فكره في إحداث عملية تلفيق قد لا يقوم على أَسَاس منهجي.

تقدم الورقة مقاربةً للمفاهيم المثبتة بالعنوان (أُسُسُ الحكم الصالح في عهد الإمام علي عَلَيْهِ السَّـلَامُ لمالك الأشتر)، ونطل منها على التعريف بأعلامه (صاحب العهد، والمعهود إليه).

 

الاقترابُ من عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر

تعريفُ العهد: يعني الوصيةَ، يقال عَهِدَ إليه من باب تعب إذَا أوصاه، وعهدت إليه بالأمر قدّمته.. في التنزيل قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} يس، جزءٌ من الآية60، والعهدُ الأمانُ والمواثيقُ واليمينُ، والذمةُ، ومنه قيل للحربي يدخل بالأمان ذو عهد ومعاهد، وجاء في الحديث “إن كرم الأَيمَان من العهد” أي رعاية المودة.

والمعاهدةُ المعاقدةُ والمخالفة، وعهدتُه بمال عرفتُه به، والأمر كما عهدت أي كما عرفت، وهو قريب العهد بكذا أي قريب العلم والحال، وعهدته بمكان كذا لقيته، وعهد بما به قريب أي لقائي، وتعهدت الشيء ترددت إليه وأصلحته وحقيقته تجديد العهد به، وتعهدته حفظته.. وفي الأمر عهدة أي مرجع للإصلاح فإنه لم يحكم بعد فصاحبه يرجع إليه لأحكامه، وقولهم عهدته عليه من ذلك؛ لأَنَّ المشتري يرجع إلى البائع بما يدركه، وتسمى وثيقة المتبايعين عهدة؛ لأَنَّه يرجع إليها عند الالتباس.

والعهد ما يمثل العقد بين الوالي/ الحاكم والرعية/ المواطنين، وبهذه الصيغة يكون الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- قد سبق أنصار نظرية العقد الاجتماعي بمئات السنين، ورغم أن الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- ذكر في أول جملة بعد بسم الله الرحمن الرحيم أنه “عهد” إلا أن القراءات نعتته بعدد لا بأس به من النعوت والصفات، فقراءات ما قبل القرن التاسع عشر الميلادي نعتته بـ “رسالة، وثيقة، كتاب، خطاب، توصيات، وصايا، تعليمات، نهج… إلخ).

أما بعد القرن التاسع عشر فنعتته بـ: مبادئ الحكم، دستور، الحقوق والواجبات، حقوق الإنسان، قانون إداري، استراتيجية، وثيقة ذات أبعاد قانونية سياسية اجتماعية إدارية… الخ”، مع التداخل فيما بين الفترتين، ورافقت هذه النعوت قراءات حول النص، ففي الأولى تركزت على القيم والمبادئ كما هي في كتب السيرة والتفسير والتاريخ والفقه، واهتمت القراءات الثانية بالتوصيف الوظيفي بشقيه توصيف الوظيفة وتوصيف الموظف، ومنه القيادة) من جانب، والحقوق والواجبات والسلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم من جانب آخر، وفقاً لتوجّـهات الباحثين (الاشتراكي، الليبرالي، القومي، العلماني… إلخ).

واعتبره أنصار هذا التيار أول وثيقة قانونية –دستورية- مفصلة تعالج واجبات الحاكم ووظائفه والعلاقات بين الراعي والرعية –الشعب والحاكم-، كما يفصل في الحديث عن الوظائف الأَسَاسية –السلطات الثلاث- ويضع الضوابط لأشخاصها، وهو ما يسمى في عصرنا الراهن “المؤسّساتية” أرقى ما توصلت إليه الأنظمة الحديثة!.

وتبلور تيار ثالث تعاطى في قراءة عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- من منظور إنساني عالمي وهو دليل على أهميته واشتماله على كُـلّ تلك النعوت، ويدل ذلك على إن العهد أوسع وأشمل.

 

سندُ العهد:

عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر ورد في المصادر والمراجع الأصلية، وثبتت صحته، من خلال تعدد رواته بمختلف اتّجاهاتهم، وحسب موسوعة ويكيبيديا، أشارت إلى أن من رواته: محمد بن الحسن الطوسي –من أعلام القرن الخامس- فيذكر الشيخ الطوسي سندا صحيحا عند المشهور للعهد، وكذلك النجاشي –أحد رجالات العلم عند الإمامية- روى العهد بطريق آخر صحيح عند المشهور، ورواه الشريف الرضي، في كتاب نهج البلاغة، ورواه ابن أبي شعبة الحراني –الذي كان يعيش في أواسط القرن الرابع- المعاصر للشيخ الصدوق، في كتابه “تحف العقول”، ورواه القاضي النعمان، وكان قاضياً أيّام حكم الفاطميين في مصر، في القرن الرابع والخامس، في كتابه “دعائم الإسلام”.

 

 بُنيةُ العهد:

بقراءة العهد وتأمله نجده يتكون من بنية كلية شاملة أسلوباً وشكلاً ومضموناً، والطريقة التي أقام بها العهد وتنظيم أجزائه وأنساقه، ووظيفة كُـلّ جزء ودوره والقدرات التي تضمنها.

لغة العهد قوية فصيحة، مفرداته جزلة، وتتسم بالوضوح مع مراعاة بعض المفردات التي تحتاج العودة إلى القاموس أَو المعجم اللغوي، كذلك بعض المفاهيم عميقة المعنى والدلالة في نفس اللحظة، يخلو من الحشو والزوائد، فكل مفردة وجملة لها وظيفتها في العهد.

وأما أسلوب بنيته الشكلية فيتسم العهد بالتركيب والترتيب والتسلسل في تنظيم الأبنية الداخلية، والترابط والتماسك المادي والمعنوي فيما بينها.

أما بنية المضمون فتتسم بالدقة والسلاسة، ففي البينة الخطية ينتقل من مفاهيم الطبقة/ البنية بوصف لها ولدورها ووظيفتها وفقاً لشاغليها، ومواصفاتهم النفسية والقدرات التي تتطلبها الوظيفة في توازن بين السلطة والمسؤولية، إضافة إلى الحقوق والواجبات، والعلاقة بين الرئيس والمرؤوسين والتحفيز… إلخ، وتختلف الأدوار والمواصفات من بنية إلى أُخرى، بمضامين متناهية الدقة في التعبير والدلالات، وهكذا ينتقل من وصف جزء في بنية داخلية إلى أُخرى حتى اكتمال البناء، ولا يقتصر على بنية السلطة الحكومية بل يتعدى ذلك إلى بنية التجار وذوي الصناعات (قطاع المال والأعمال)، ثم ينتقل إلى الطبقة السفلى ذوي الحاجة والمسكنة (الرعاية الاجتماعية).

ولم يكتف العهد بالبنية الخطية، بل تضمن البنية الدائرية، ممثلاً: في أسلوب الالتفات، وتحديداً في البنية العليا “الوالي أَو الحاكم” والوظائف والأدوار المسندة إليه، في بداية العهد عرفه بالوظائف والأدوار التي عليه القيام بها، والواجبات التي يلتزم بأدائها، وبإيجاز ذكّره نهاية العهد بما ورد في بدايته.

كل ذلك جعل من العهد بُنيةً كليةً للحكم في هندسة معمارية متماسكة ثابتة الأسس “القواعد” مترابطة الأجزاء والأنساق، وما تضمنه من قيم –سياسية- عامة، وحوى الكثير من المضامين المختلفة، وما الأسس إلا جزءٌ لا ينفصلُ عن بنية المضامين، فهي مترابطة ومتداخلة كما هي في الواقع، بمعنى أنه موثقٌ بالترابط الداخلي المتين بين جميع كلياته وجزئياته على المستوى القيمي والعملي والتفاعلي، بحيث يؤثر أي حذف أَو تجاهل لقيمة أَو فقرة على التماسك والهيكلة العامة للعهد والشكل التالي يمثل هيكل البنية الشكلية للعهد:

 

تصوُّرٌ لهيكل البنية الشكلية لعهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر:

ويتسم العهد بأمرين:

الأول: لِكُــلِّ جملة أَو عبارة أصلٌ في كتاب الله عز وجل -أو السُّنة النبوية الصحيحة- أي أنه مصبوغ وفقَ معايير الوحي الإلهي، إضافة إلى السنن الإلهية، أي أنه جمع بين قراءتين هما أَسَاس الفكر السياسي الإسلامي.

  • الوحي: قراءة الكتاب المسطور. والإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- أعلم الناس بعد النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو كما ورد في الحديث النبوي الشريف “باب مدينة العلم”، وعلى رأس تلك العلوم القرآن الكريم وعلومه، قال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّمَ-: “علي مع القرآن والقرآن مع علي”، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّمَ- فيما معناه “=أن علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّمَ- على تنزيله.
  • السنن الإلهية والتاريخية: قراءة كتاب الكون المنظور. وفي هذا الجانب نستدل على معرفة الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- وخبرته بالماضي، والتوقع بالمستقبل المبني على منهجية موضوعية ما ورد في العهد لمالك الأشتر قوله: “واعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم…”، معرفة الإمام بنموذجين للدول التي تداولت على “مصر”، دول عدل ودول جور، وأن السنن التاريخية تعيد نفسها، ولا يصح للحاكم أن يهمل سنة العدل؛ لأَنَّ إهمالها يؤدي إلى انهيار كيان الدولة وخذلان الرعية.

والعهد العلوي نابع عن نظام الإسلام (الصبغة) ومرتبط بالنظام المعرفي الإسلامي (الصيغة) فانبثقت عنه الصياغة من مشكاتها في هندسة معمارية حضارية متكاملة كشجرة طبية أصلها ثابت وفرعها في السماء”، وليست مفصولة “لا مقطوعة ولا ممنوعة” عن منهج الحياة وعمرانها.

ويحتوي العهد على مفاهيم ذات مضامين كلية، وتتكامل الرؤية فيما بينها على مستويات متعددة، يمكن الإشارة إلى أربعة منها:

1-      التفاعل داخل المفهوم الواحد (عناصره ومستوياته).

2-      التكامل مع منظومة المفاهيم الأُخرى بشكل تفرضه طبيعة الرؤية فيه.

3-      أن المفهوم الواحد يصلح كأَسَاس للتعبير عن منظومة من المفاهيم بمفرده.

4-      يشير إلى ارتباط كُـلّ منظومة المفاهيم بقصد أَسَاسي هو “التوحيد”.

الثاني: كُـلّ قيمة واردة في العهد (العدل، المساواة، الشورى، الحريات، الرضا العام، الهداية، الرحمة، الـ…) أَو دور ووظيفة أَو حقوق وواجبات في العهد نجدها متحقّقة في سلوك الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- وفي سلوكه وممارساته، ومن ثم فإن دائرة العهد لا تقف عند حَــدّ الدائرة الذاتية بل تتعداها إلى أبعد من ذلك؛ إلى دائرة الحديث والمعاصر، مع استيعاب التنوعات المكانية كذلك استيعاب الاتّجاهات المختلفة.

تقسيم عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-: يتميز عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- ببنيته الكلية، وأنساقه الواضحة، الموزعة على وظائف الحكم/ الدولة، كما هو متعارف عليها اليوم، غير أن القراءات تتعدد، بحسب الثقافة والبيئة، فتتفق في كثير من الأجزاء، وتختلف في أجزاء أُخرى.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com