اليمن وفيتنام.. مطارق شعبية في وجه الإمبريالية الأمريكية

اليمن وفيتنام.. مطارق شعبية في وجه الإمبريالية الأمريكية

(قراءة في تجربة التحرر الوطني الفيتنامي)

 

كتب: أنس القاضي

في قراءةِ تجارب حركات التَـحَـرّر الوطنية العالمية عِظامُ الدروس التي ينتهجُها كُلُّ شَّعبٍ ثائرٍ أثناءَ ثورة تَـحَـرُّره، ليضيفَ إليها خصوصياتِ نضاله الوطني، ومن مجمل هذه الخصوصيات تغتني حركةُ الثورة العالمية، في مواجهة الإمبريالية والصهيونية العالمية، فقوى الاستعمار في العالم واحدة، وبالضرورة قوى الثورة واحدة. وتُعد التجربة الفيتنامية من أعمق وأغنى التجارب الثورية في العام، التي أثبتت وتُبت بأن الشعوب مهما كانت مُفقرة وإمْـكَانياتها بسيطة، مُضطهدة ومُستضعفة بإمْـكَانها قهر أعتى الغُزاة، وأطغى دول الاستعمار ونيل حُريتها واستقلالها، وأن الأرضَ لِمَن يفلحُها.

تُعتبر الثورة الفيتنامية طليعة ثورات البُلدان المُستعمرة وشِبه المُستعمرات ضد الإمبريالية، وفي قراءة سريعة للأحوال الاقتصادية الاجتماعية، نقتربُ على نحو أعمق لمعرفة طبيعة المُجتمع وما كان يعانيه ونتعرف على مُستوى تطوره. فيتنام كانت إحدى دول المُستعمرات، وتتبع الامبريالية الفرنسية التي استعمرتها عام 1853، وهذا ما جعل كبار الاقطاعيين والتُّجار يرتبطون بالمصالح الفرنسية ويُصبحون وكلاء تجاريين لفرنسا، مِما أدى لإعاقة التطور الرأسمالي الصناعي والزراعي الطبيعي لفيتنام، فتشكلت طبقة رأسمالية (برجوازية) تَبَعِية وطُفيلية ارتبطت مصالحها بفرنسا، وكذلك كِبار المُلاك العقارين والاقطاعيين الذي منحَ لهم النظام الاستعماري امتيازات السيطرة لينهبوا لأسواقها الأرز والمطاط، وبالتالي كانَ موقفهم الطبيعي أن يقفوا مع الاستعمار الفرنسي والعُـدْوَان الأمريكي ضد بلدهم، مِثلهم مثل وكلاء العُـدْوَان السعودي الأمريكي على الـيَـمَـن، الذين ترتبط مصالحهم الرأسمالية الطفيلية بدول الخليج وأمريكا والغرب الأوروبي، الذين هربوا جميعاً إلى السعودية يُقاتلون مع مصلحتهم في بقاء الـيَـمَـن دولة تَابعة مُرتهنة. بينما المُفقرون في الـيَـمَـن مثلهم مثل المُفقرين في فيتنام من عُمال وفلاحين وصغار موظفين وعاطلين وسواد الشعب الأعظم تجلت مصلحتهم في الثورة والتَّـحَـرّر الوطني. وبالضرورة يجب أن تقود نضالهم حركة ليس لها مصالح سياسية واقتصادية من بقاء الاستعمار، فكانت تلك الحرة “فيت مينت” حركة التَّـحَـرّر الشيوعية في فيتنام، وفي الـيَـمَـن تَبرزُ حركة أنصار الله الحركة الوحيدة التي لا تربطها رابطة بالمصالح الاستعمارية، وبالتالي فهي الأكثر موضوعية لتقود هذا النضال لإنجاز هذه المهام التَّأريخية مهام التَّـحَـرّر الوطني.

وفيتنام من الدِّول العريقة في تَأريخ آسيَا، فقد عُرفت فيها حضارة “فونغنوينغ” التي ظهرت في نهاية العصر الحجري الحديث وبداية العصر البرونزي أي 2000سنة ق م. وتُعرف رسمياً باسم جمهورية فيتنام الاشتراكية 331,690 كيلو متر، ويبلغ سُكانها 86 مليون نسمة عاصمتها هانوي، وأكبر مُدنها مدينة الزعيم هُـوْ شِي منه التي كانت تُعرف قديماً بمدينة سايغون وكانت عاصمة الجنوب الخاضع للهيمنة الأمريكية. يرفرف علمها الأحمر في مُنتصفه نجمة صفراء، وشعارها الوطني (استقلال- حرية- رخاء).

الواقع الاقتصادي المُتفسخ والرأسمالية الطُفيلية في فيتنام فرزت القوى السياسية كالفرز الذي نشاهده في الـيَـمَـن، فكل الأحزاب القومية والبرجوازية واللبرالية التي كانت موجودة في فيتنام والتي هي صناعة الاستعمار الفرنسي وجدت نفسها ومصالحها مع بقاء الاستعمار، وكان بالضرورة يجب أن يقود الثورة حزب لا تربطه أية مصالح اقتصادية بالاستعمار أو بالوضع الرأسمالي المُتفسخ الفاسد السائد، ومِن هُنا وجَدت جموع الشعب التي تكمن مصلحتها في الثورة الحاجة إلى حزب يأتي من أوساطها الفلاحية والعُمالية من بين الفُقراء، فكان هذا الحزب هو “الحزب الشيوعي الفيتنامي” بقِيَـادَة الزعيم (هُـوْ شِي منه) والذي ظهر في عام 1941 تحت شعار حركة التَّـحَـرّر الشيوعية وبالفيتنامية “فيت مينت”. وهذا مُقارب لما يحدث في الـيَـمَـن فمنذ ثورة 11 فبراير، كُلّ الأحزاب التي كنت موجودة وتمارس عملها السياسي وكانت مرتبطة بالخليج وأمريكا فوقفت عائقاً أمام الثورة والتغيير وهي أحزاب المؤتمر واللقاء المُشترك الذين وقّعوا “المُبادرة الخليجية” التي رسمت حالةَ الاستلاب الـيَـمَـنية لصالح دول الخليج من خلفها أمريكا. وحين بدأ العُـدْوَان السعودي الأمريكي على الـيَـمَـن وجدنا كُلّ الأحزاب السياسية التي هي مرتبطة عضوياً بأمريكا ودول الخليج وجدناها بزعاماتها وقياداتها العليا والمتوسطة في “مؤتمر الرياض” الاستعماري، ولم يبق في الـيَـمَـن حزب وطني لا تربطه أية مصالح بقوى الاستعمار والهيمنة الخليجية الأمريكية غير حركة أنصار الله، ولهذا فكان من الطبيعي أن تتصدر هذه الحركة الثورة الـيَـمَـنية وتبرز في مواجهة مقاومة العُـدْوَان، مثلها مثل الحزب الشيوعي الفيتنامي. وهكذا فمنذ عام 1945 حين دخل قوات الغزو الأمريكية إلى فيتنام وجد الشعب نفسه يقاتل في ظل الحزب الشيوعي، مع خذلان بقية القوى العميلة، لم يكن للشعب الفيتنامي أي ثُقل ليوجه أمريكا، لكن الشعب كان يملك تَوْقَه إلى الحُرية، وكان يملك قِيَـادَة طليعة ثورية نقية يثق بها، فمضى الشعب الفيتنامي بكل اقتدار في درب التَّـحَـرّر الوطني، منتهجاً مبدأ الثورة الدائمة، في مجابهة أقوى جيش إمبريالي في التَّأريخ وهوَ جيش الامبريالية الأمريكية.

 

 

بداية القصة:

كانت المقاومةُ الفيتنامي أولاً مقاومة للاستعمار الفرنسي، قاتلوا بكل بسالة ضد الفرنسيين من عام 1946 حتى عام 1954، فدخل الثوار في مفاوضات مع الاستعمار بمساندة سياسية من الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي، انتهت باتفاق جنيف على إجلاء فيتنام من الفرنسيين على أن تكون أمريكا ضامنة على انسحاب فرنسا. كان الثوار الفيتناميون المسلحون (الشيوعيون) يسيطرون على ثلاثة أرباع الشمال وعلى نصف الجنوب. وتم الاتفاق على تقسيم مؤقت لفيتنام، وعلى أن تنسحب كُلّ القوات المسلحة الثورية الشيوعية إلى الشمال وأقامت هناك نظاماً وطنياً شيوعياً، وأُقيمت حكومة محلية (عميلة لأمريكا) في الجنوب، وليتم توحيد البلاد بعد انتخابات عامة في 1956 على الأكثر. ويوم توقيع هذا الاتفاق أعلنت الولايات المتحدة أنها غير ملزمة به، وبدأت تعمل على تحويل الجنوب إلى قاعدة عسكرية لها، تمهيداً للقضاء على النظام الانتقالي الذي يمضي نحو الاشتراكية الذي أقيم في الشمال بقِيَـادَة (هُـوْ شِي منه)، ولتشكل تهديداً للصين الشعبية ولضرب دول كموتشيا ولاوس، التي انتزعت الاستقلال من فرنسا في منذ وقتٍ قريب، وكانت هذه الدول على علاقة بالثوار الفيتناميين وبالقائد هُـوْ شِي منه.

في جنوب فيتنام قامت الحكومة العميلة بقمع شديد للشيوعين، واعتقالهم استباقاً للانتخابات المُفترضة التي ستؤسس لحكومة شرعية وتعمل استفتاء شعبياً لإعادة توحيد البلاد، طوال هذه الفترة ازداد القمع للثوار السابقين الذين طردوا الاستعمار الفرنسي، كما قامت هذه الحكومة العميلة “نظام دييم” في سايغون عاصمة الجنوب، بالتنازل عن الأُسس التي وُضعت في اتفاق جنيف وعلى أساسها تم إخراج الاستعمار الفرنسي وتقسيم البلاد، فقامت هذه الحكومة العميلة بإعادة الأراضي والاقطاعيات إلى الاقطاعيين وانتزاعها من الفلاحيين مِما أثار حالة سخط عارمة في أرياف فيتنام الجنوبية، ومع القمع الوحشي الإرهابي لنظام دييم إلا أن الفلاحين الفيتناميين لم يتوقفوا عن النضال استمر كفاحُهم سلمياً ضد العنف من عام 56 إلى عام 1960م حينما كانت الجماهير الريفية والقوى العُمَّالية في الجنوب قد وصلت إلى نُضج ثوري وفهم أنهُ لا بد من إسقاط هذا النظام العميل لأمريكا، واتجهت الجماهير إلى السلاح للدفاع عن نفسها، وقد كان لها خبرة سابقة في قتال الاستعمار الفرنسي اكتسبتها من حركة التَّـحَـرّر الشيوعية. وفي ديسمبر من هذا العام، أُعلنَ قيام جبهة التَّـحَـرّر القومية وكانت تتلقى دعماً من النظام الشيوعي الحاكم في هانوي عاصمة فيتنام الشمالية برأسه قائد الثورة (هُـوْ شِي منه) والقائد العسكري الأول (جياب)، وكان نظام هانوي ومعه الشعب شمالاً وجنوباً مندفعين إلى إعادة وحدة الوطن وطرد القوات الأمريكية من الجنوب. في بداية الأمراكتفت أمريكا بدعم النظام الجنوبي العميل “نظام دييم” ضد شعبه، وتركت الحرب بين الفيتناميين، ولكن مع انتصارات الجبهة الكبيرة وتقدمها وضعف النظام العميل وانكساراته ووصول قوات الثورة إلى مشارف سايغون قامت أمريكا بقصف فيتنام الشمالية. وأعلنت الولايات المتحدة وقوفها التام خلف حكومة ديم العميلة في (سايغون) عاصمة الجنوب الفيتنامي باعتبارها الحكومة الشرعية ضد الثورة الشعبية الريفية في ثقلها وما اسمتهُ الانقلاب الشيوعي، وفي ديسمبر من نفس السنة أي 1961 أعلن كينيدي عزمَه مساعدة حكومة الرئيس العميل ديم اقتصادياً وعسكرياً، فوصلت طلائع الجيش الأميركي الغازية إلى سايغون وكانت في البداية 400 جندي عُهد إليها تشغيل المروحيات العسكرية. وفي السنة التالية، بلغ عدد الجنود الأميركيين في فيتنام الجنوبية 11 ألف جندي، كما أسست قِيَـادَة أميركية في سايغون منذ يناير 1962. وفي عام 1963، أصبح هناك أكثر من 16,500 مستشار عسكري أمريكي في فيتنام الجنوبية. كما قام الأميركيون والمرتزقة الجنوبيون بقطع جبهة التحرير الوطني عن قواعدها عبر إقامة بعض القرى للمزارعين الموالين لحكومة الرئيس العميل ديم. ولم تنتهِ سنة 1963م حتى بلغ عدد تلك القرى سبعة آلاف تضم ثمانية ملايين شخص، غير أن هذه الدروع البشرية أو الحواجز السكانية لم تمنع ثوار جبهة التحرير من السيطرة على 50 % من تراب فيتنام الجنوبية.

 

تاي تشي تون فلاحة فيتنامية:

“في البداية كانت طائراتُ العدوِ تَصُبُ نيرانها فوق الطُرق وُطعان الماشية بشكلٍ خاص وقد راقبتُ غاراتُ العدوِ وخلصتُ إلى نتيجةٍ مِمَّا يتوجبُ عَمَلُهُ وكانَ ما فَعَلتُهُ على الشكلِ التالي: بعد الموجة الأولى من الغارة مباشرةَ أركضُ بسرعةٍ وسطَ الدُخان الكثيف وقبل أن تتساقط دُفعةٌ أُخرى من القنابل، إقطع بسكين جِزارة كبيرة رُبع ثور أو جاموسة قتلتها شظايا القنابل ثم أعودُ بكُلِ اللحم الذي استطعتُ الحصولَ عليهِ وكان هذه المهمةُ خطيرةً جداً ولكن كانَ يتوجبُ عليَّ إطعامُ رفاقي”.

وبعد سيطرة جبهة التحرير على نصف فيتنام الجنوبية وفي عام 1964 أعلن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون أن مدمرتين أمريكيتين قد هوجمتا في خليج تونكن القريب من الشمال دون أن تعلن َالثورة تبنيها لهُ أو يُعلن النظام الشيوعي استهدافه ضمن دعمه للثورة في جنوب البلاد. وهذا الذريعة تُشبه على حدٍّ ما حادثه تفجير أمريكا لمدمرتها (كول) في خليج عدن واتهمت حينها ما اسمتهُ “القاعدة”، وتنبه لهذه السياسَة الأمريكية الشهيد السيد حُسين الحوثي، وقال بأن هذا المُخطط بداية لاستعمار الـيَـمَـن، وما نُشاهده اليوم من دَور أمريكي رئيسي في هذا العُـدْوَان إلا مصداقٌ لما قاله السيد حُسين ولسعة الأُفق الذي كان ينظر منه. وبعد افتعال هذه التفجيرات على مدمراتها في خليج تونكون الفيتنامي بدأت أمريكا بشن الغارات على فيتنام الشمالية، في الوقت الذي تعاني منه الحكومة العميلة ضعفاً شديداً وانقسامات وتمردات.

 

السيدة تاي تي شون.. تروي:

“لقد شاهدتُ وضع مواطنينا السيء في الضفة الجنوبية من نهر بن هاي (النهر الذي يربط الشمال والجنوب الفيتنامي)، وقد سقطوا ضحية الغارات السايغونية. ففي عام 1967طاردت الغارات الجوية والقصف المدفعي الآلاف من هؤلاء الناس التُّعساء حتى ضفة النهر، وكانوا يصرخون باتجاهنا: إخوتنا في الشمال، أنقذونا، يا عم هُـوْ شِي منه انقذنا. هطلت الدموع من عيوننا. وسارعت ميليشياتنا الشعبية لإنقاذهم بواسطة قوارب الصيد والقوارب الشراعية، ونجحوا في نقلهم عبر القوارب إلى الضفة الشمالية رغم تساقط الصواريخ والقنابل وما زال هذا المنظر الباعث على الأسى محفوراً في ذاكرتي حيث أنه من المعروف أن نصف كمية القنابل والصواريخ التي ألقتها الولايات المتحدة على شمال فيتنام سقطت بشكل خاص على فاق لنغ. ورغم ذلك فإن الجميع هنا يقاتل بكل الأسلحة والبنادق. إن كُلّ فرد رجلاً أكان أو امرأة هو مقاتل- الفلاحين، صيادو الأسماك والكوادر السياسية، وأنا هنا أقوم بمهمتي مثل الآخرين”.

ومنذ فبراير 1965، توالى القصف الأميركي لفيتنام الشمالية، وفي 6 مارس، تم أول إنزال للبحرية الأميركية في جنوب دانانغ. وظل الوجود العسكري الأميركي يزداد في فيتنام ليبلغ في نهاية 1965 ما يناهز 200 ألف جندي، ثم وصل في صيف 1968 إلى ما يقرب من 69,000 جندي أمريكي ومرتزقة جنوبيين ومرتزقة أجانب من أستراليا ونيوزيلندا، والفلبين، وكوريا الجنوبية وتايلاند. واستمر القصف العُـدْوَاني الأمريكي على فيتنام الشمالية لتتوقف عن دعم الثورة في الجنوب، إلا أن هانوي رفضت مطلقاً أي حوار مع أمريكا في ظل العُـدْوَان الجوي المتواصل. وعلى الرُغم من التفوق العسكري لأمريكا وحلفائها الإمبرياليين إلا أنه ظل يقصف شمال فيتنام بالطائرات المتطورة والقنابل المُحرمة ولم يجرؤ على غزوها براً (كما يقصف تحالف العُـدْوَان السعودي الأمريكي صنعاء وصعدة دون الجرؤ على دخولها براً)، وعلى الرُّغم من شدة القصف على الشمال لم تستطع أمريكا أن تضغط على هانوي لوقف دعمها للمقاومة في الجنوب، فشنت الطائرات الأمريكية قصفاً على قُرى الفلاحيين في الجنوب وتجميع السُّكان في قرى معزولة وتصفية كُلّ المقاومين الشيوعيين، وإحراق الأراضي الزراعية، وقد حاولت بكل الوسائل ولم تستطع أن توقف المقاومة والثورة التَّـحَـرّرية في الجنوب ولا أن تقطع دعم هو شي منه للثوار الجنوبيين.

يقول الصياد هو زواي 25 عاماً وعضو الإدارة المحلية: “تعرضنا رغم ذلك في الغارة الأولى ذاتها لهجمة وحشية بما لا يقل على أربعة وعشرين طائرة قاذفة مقاتلة واستمرت أربع ساعات وذلك في صباح الخامس من نيسان 1956وبعد ذلك أصبحت الغارات أعنف في الأيام التالية واشتركت معها في القصف مدفعية السُّفن الحربية التابعة للأسطول السابع الأمريكي حتى أن الحياة أصبحت مستحيلة وفكّر العديد من الناس بالرحيل إلا عمق البلاد، حيث الحياة أكثر أماناً إلا أن هذا سيعني الهروب من موقع قتالي وهو شيء غير قابل للتفكير في نطاق حرب الشعب، ويتوجب علينا الالتصاق بالأرض والبحر مهما كان الثمن، فقام المكتب الحزبي الشيوعي بتوعية الناس باتباع نموذج حرب العصابات في كوتشيا المقاطعة الواقعة على مقربة من بوابة سايغون، حيث استطاعوا حفر أنفاقهم تحت الأرض وعاشوا فيها يقاومون العدو الغازي، لقد كان عملنا من أجل جلب مواد البناء الضرورية أن نهدم بيوتنا ونقطع أشجار حدائقنا وسارت الحياة تحت الأرض سيرها الطبيعي، فكان الأطفال ينشدون بمرح ويقوم الناس بأعمالهم على سطح الأرض بنشاط، وصمد الشباب في مواقعهم القتالية بثبات، أما في الليل وخصوصاً في وقت الغسق يخرج الناس لحراثة حقول الأرز وصيد السمك، وبذلكَ لم نأكل ملء بطوناً فقط ولكننا أرسلنا امدادات الطعام إلى الجبهة أيضاً”.

طوال هذه الفترة تركزت المقاومة الفيتنامية (الجنوبية) في الجبال والأدغال التي كانت تقاتل مع أبنائها الذين يعرفونها جيداً، فيما يجهلها الأمريكيون.. وفي 1968، أطلق الثوار الشيوعيون ما عرف بهجوم “تيت” (عيد التيت وهي الاحتفالات الفيتنامية بالعام الجديد) على مجموعة عمليات عسكرية شديدة استهدفت أكثر من مائة هدف عسكري أمريكي في وقت واحد. واستطاعت قوات الثوار التغلغل في الجنوب حتى بلغوا العاصمة الجنوبية سايغون، معقل التواجد الأمريكي وشنوا عليهم هجوماً كثيفاً، رغم أن قوى الثورة الفيتنامية فقدت أكثر من 85 ألف شهيد، إلا أن لانعكاسات الحرب في الداخل الأمريكي كان له تأثير قوي، كما أن أمريكا اُصيبت باليأس والعجز وكأنها تقاتل جناً.

 

في مواجهة العدوان الأمريكي.. الإنتاج والقتال:

يوم 28 حزيران 1965 حلقت الطائرات الأمريكية فوق نام دينغ وأسقطت صواريخها على أحد أحياء العُمال، مما تسبب في مجزرة لأُسرةٍ بكاملها وجرح العديد من السكان وفي يومي 2 إلى 4 تموز من نفس العام سقطت القنابل على مدخل مصنع الحرير، وفي داخل أقسام معمل الصباغة، كانت الحرب ثقيلة على 95 ألفاً من سُكان نام دينغ وكان جهاز الإنذار من 5 إلى سبع مرات يومياً.

ركضت النساء في صف واحد نحو ضواحي المدينة وكان من المُمكن تمييزهن على أنهن عاملات في المؤسسة من خلال مرايلهن وقبعاتهن الكبيرة المصنوعة من القماش الأزرق وحالما وصلنا إلى أرض فضاء قفزنا في خندق مُتعرج وفي تلك اللحظة بالضبط سُمع أزيز الطائرات النفاثة التي غمرت المدينة بمشاعل الإنارة وجعلت المدينة كأنها على عتبة الصباح بلون برتقالي قُرمزي وكانت المدفعية المضادة للطائرات تنسج شبكة حقيقية من الانفجارات في السماء، مما جعل الأرض ترتج بفعل الرماية المُستمرة.

((لا تخف !)) همست فتاة تضع على خوذتها شارة الدفاع الذاتي (اللجان الشعبية)، وتتدلى على ظهرها حقيبة إسعاف أولي تابعت هامسة: ((نحن بعيدانِ عن المصنع هُنا بعيدان عن أي هدفٍ للعدو)).

  • سألتُ الفتاة: هل نحن بعيدان عن المؤسسة؟
  • قالت: (( حوالي كيلو متر واحد)).
  • وكيف استطعت أن تبتعدي هذه المسافة عن المصنع؟
  • ((إن لدينا نظاماً من خنادق الاتصال تؤدي إلى خارج المصنع في سبع اتجاهات مختلفة وكل قسمٍ في المصنع يأخذ اتجاها مُحدداً تقرَ لهُ مُسبقاً وقد أجرينا عدة اختبارات وتمارين في هذا الشأن، ولذلكَ فإننا لن نُؤخذ على حين غَرةٍ مهما كانت وسائل العدو)).
  • حيث أنَكِ عضوةٌ في الدفاع الذاتي فلماذا لا تحملين بُندقية؟
  • ((إنني مُكلفةٌ بالعمل في فريق الإسعاف الأولي وقد تدربتُ على استعمال البندقية والرشاش ولكن لا يحمل عادة فريق الدفاع الذاتي سلاحاً ويحمل السلاح المُقاتلون ووحدات المُحافظة على النظامِ فقط، ولا فرق الإسعاف الأولى ألوية الإطفاء)).
  • وهل تُشاركين العاملات في الوحدات المُقاتلة أم فقط في فريق الإسعاف الأولى؟
  • نُشارك أغلبيتنا في فرق الإسعاف الأولي ولكننا نُشارك أيضاً في الوحدات المُقاتلة حتى أن كثيرات منا قائدات في الميدانيين العسكري والسياسي، والشي بالشيء يُذكر فإن نائبة المفوض السياسي في كتيبة الدفاع الذاتي في مصنع النسيج هي عاملة نسيج (تران تي تو) سكرتيرة منظمة الشبيبة العمل في المصنع)).

في 31 مارس 1968، أعلن جونسون وقف القصف الأميركي لشمال فيتنام، ليكسب أصوات داخلية أمريكية، فقد تقدم لدورة انتخابية جديدة. وفي منتصف مايو من نفس العام بدأت المفاوضات بين الفيتناميين والأمريكان في باريس.

 

المقاومة اليومية:

ويُضيف الصياد هو زواي في شهادته:

“وقد عاد إلى ذاكرتي الآن حديث الجنرال الأمريكي المُتقاعد ذلك الشرير المتعجرف حينما قال “سنقصف فيتنام الشمالية حتى نعيدها إلى العصر الحجري”. ولكن على النقيض من عودة فيتنام الشمالية إلى العصر الحجري، فقد دخلت فنغلنغ عصر سبيكة ألمنيوم الطائرات (دورا ليومين)، وهي المنطقة التي تعرضت لأعنف قصف على جمهورية فيتنام الشمالية الديمقراطية، فمن بين 4200 طائرة أسقطت فوق فيتنام الشمالية، أُسقطت 400 طائرة منها في فنغلنغ لوحدها، والآن فان حطامها المصنوع من أجود وأخف المعادن في العالم يُقدم على الأقل بعض الغايات النافعة لسكان فنغلنغ. لقد ثَبُتَ بشكل قاطع بأن المُخططين الاستراتيجيين في البنتاغون حسبوا حساباتهم بمعزل عن تقدير القوة الكامنة في الرجل الفيتنامي والازهار التي يزرعها في مواقعه القتالية والأغاني النابعة من صدره عبر نضاله الباسل الطويل ضد لغزاة الأجانب”.

وبعد نجاح نيكسون في الفترة الثانية للانتخابات الأمريكية عام 1969، أعلن أن 25 ألف جندي أميركي سيغادرون فيتنام في أغسطس 1969، وأن 65 ألفاً آخرين سيجري عليهم نفس القرار في نهاية تلك السنة. إنما لا الانسحاب الأميركي الجزئي من فيتنام ولا موت الزعيم الشمال هُـوْ شِي منه يوم 3 سبتمبر 1969، أوقف عمليات المُقاومة الفيتنامية. وفي هذه المفاوضات في باريس لم يتنازل الفيتناميون عن حقهم في المقاومة، واشترطوا أن يوقفوا إطلاق النار مع خروج آخر جندي أمريكي من وطنهم.

 

الاحتجاجات المناهضة للحرب:

في الوقت الذي كان به الشعب الفيتنامي موحداً صلباً في مواجهة الأمريكان، كانت الجبهة الداخلية الأمريكية تزداد انقساماً، (كما تزداد وحدة الـيَـمَـنيين وتفكك حلف العُـدْوَان) زادت الاحتجاجات المناوئة للحرب في أمريكا، كما أن المواطنين الأمريكيين كانوا يرون أن حكومتهم تدعم حكومة غير شرعية في جنوب فيتنام. وما زاد هذا الطين بلة أن أمريكا عام 1970 غزت دولة كمبوديا المجاورة لفيتنام لتضرب القواعد العسكرية الثورية الشيوعية التي كانت تساند الثورة الفيتنامية وعلى علاقة بالقائد هُـوْ شِي منه، وهذا التوسع العسكر الأمريكي زاد ضغط الشارع على الإدارة الأميركية أن يوقفوا الحرب، وخاصة مع افتضاح أمريكا وتسربات قصص توحشهم، وهذه الوثائق كانت تنشرها الاستخبارات الأمريكية تمهيداً للانسحاب. مع هذا الضعف الداخلي الأمريكي أخذت الحرب الشعبية الفيتنامية منحىً أكثر ثورية حين قامت فيتنام الشمالية بهجوم كاسح في 30 مارس عام 1972 وكان رد الفعل الأمريكي مزيداً من القصف الجوي، وبعد يأس أمريكا من دحر قوة الثورة الشمالية التي دخلت الجنوب أو كسر المقاومة الجنوبية أمر الرئيس نيكسون يوم 17 ديسمبر 1972، بقصف هانوي وهايبونغ (الميناء الرئيس في فيتنام الشمالية)، فصبت طائرات بي 52 نيرانها على المدينتين في قصف لم تعرف الحرب الفيتنامية نظيراً له. وفقدت أميركا 15 من هذه الطائرات كما فقدت 93 ضابطاً من سلاح الطيران الأميركي.

أعلن في 23 يناير 1973، عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم 28 من نفس الشهر. لم ينتهِ مارس 1973 حتى غادر آخر جندي أميركي من فيتنام، وكانت أمريكا تعيش أزمات تجعلها غير قادرة على مواصلة دعمها للحكومة العميلة في الجنوب بعد الانسحاب، فاستغل الثوار هذا الضُعف وشنوا هجوماً كاسحاً على الجنوب محتلين مدينة فيوك بنه في يناير 1975، وتابعوا هجومهم الكاسح الذي توج بدخول سايغون يوم 30 إبريل من نفس السنة. حينها استقال رئيس وزراء الحكومة الجنوبية العميلة واستلمت السُلطة الحكومة الشمالية، وفي 17 مايو قامت انتخابات الجمعية الوطنية العامة من الشمال والجنوب وأُعيد توحيدُ فيتنام تحت كدولة اشتراكية وما زالت حتى اليوم صامدةً، تُعرف باسم جمهورية فيتنام الديمقراطية الشعبية. وكان لافتاً في نهاية هذهِ الحرب الثورية، كيف أن الطائرات الأمريكية لم تتسع لحمل كُلّ العُملاء حين انسحب مهزومة ذليلة.

 

المراجع:

كتاب “المقاومة اليومية في فيتنام الشمالية”، للمؤلف فوكان، دار ابن خلدوان سلسلة تجارب حركات التَّـحَـرّر الوطني.

“دروس الثورة الفيتنامية”. مجلة المناضل الشيوعية الثورية لبنان العدد العاشر 1970.

ويكبيديا الموسوعة الحُرّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com