الكفرانُ بنِعم الله نتيجة لترويض النفس على حالةٍ من الانفلات والابتعاد عن منهج الله وهديه

المسيرة| خاص:

تحدثنا في العددِ السابقِ عن خطورة أن يولي الإنْسَانُ بوجهه عن الله, ويصمّ أذنيه عن الله، فيكون ظلوماً كفاراً تجاه ما أعطاه من سوابغ نعمه وفضله، سواء تمثلت تلك النعم في حصادٍ زراعي، أَوْ أموال تجارة، أَوْ حتى موقعٍ اجتماعي، فعندما يتحول الإنْسَانُ إلى قارونٍ آخر، فلن يكون بمعجز الله في ملكه وملكوته. ولا بدّ للإنْسَان أن يعطي هذه النعم – المادية منها أَوْ المعنوية – حقَّها، حتى تعطي أُكُلها وثمرتها، على المستوى الشخصي للإنْسَان نفسه، وعلى المستوى العام للمجتمع وللأمة كلها.

 

الجريمةُ الكبرى هو الإقرارُ لله والتعامُلُ معاملةَ الظلوم الكفّار:

لذلك يحذّرُ الشهيدُ القائدُ (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ) من أن يعيشُ الإنْسَانُ في واقعه موقف [الظلوم الكَفّار]، فقد يكون هذا الإنْسَانُ الضعيف يؤمن في قرارة نفسه أن ما يتقلب فيه من نعمٍ هو من الله، ولكنه يتعامل مع تلك النعم تعامل الظلوم الكَفّار..

وهناك العديدُ من الشواهد لحالة الكفران بنعم الله، فالكثير من الناس الذين قد فتح اللهُ لهم أبوابَ الرزق وسوابغَ النعم، قد يبخل على أبيه أَوْ على أمه، أَوْ على محارمه وأقاربه، بعد أن رأى نفسه يعيش “اكتفاءً ذاتيًا”، وأصبح يرى نفسَه مستغنيًا عن والديه وعن أسرته..!. أَوْ قد يبخل ذلك الذي يرى نفسه مستغنيًا عن الجميع، قد يبخل عن الإنفاق في سبيل الله، أَوْ عن دفع ما عليه من صدقة وزكاة ماله..!! فهو وإنْ كان يؤمن أن ما يتقلب فيه من نعمٍ أنها من الله، وحتى ولو أصبح وأمسى وهو يحمدُ اللهَ ويشكره بلسانه، لكن ذلك الحمد والشكر مجرد هذرفة لسان، مالم يتحول إلى [شكرٍ عملي]، ينعكس على واقع الإنْسَان؛ فينطلق ليعطي مما حباه اللهُ لأمه، وأبيه، ولأقاربه المعوزين، وينطلق لينفق في سبيل الله.

وقد اعتبر الشهيدُ القائد [الكفران بالنعم] جريمة كبيرة، وإن أقرَّ الإنْسَانُ في نفسه بأنّ الله هو المتنعم والمتفضل، مالم يتحول ذلك الإقرارُ والإيمانُ إلى واقعٍ عملي، فإنّ الإنْسَان يجني على نفسه وعلى المجتمع؛ لأن كُلَّ معصية لها تبعات وتداعيات في الدنيا قبل الآخرة، على الإنْسَان نفسه وعلى الأمة أيضًا.. ومما قاله في ذلك (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ):

((أيُّ الموقفين هو الأليق بالإنْسَان من هذين؟ أليس هو الموقف الثاني؟؛ لأننا إذا وقفنا الموقف الأول، موقف الظلوم الكفار، بعد أن كنا قد شهدنا على أنفسنا وأقرّيّنا في إجابتنا على هذا التساؤل الإلهي، فقلنا: بل أنت يا الله، أنت الزارع، أليست هذه جريمة كبيرة؟ أعترف وأشهد وأقر بأنك أنت الزارع، ثم أتعامل معك معاملة الظلوم الكفار؟. أليست هذه جريمة كبيرة؟ جريمة كبيرة فعلاً)).

 

سببُ الكُفرُ بنعم الله:

والكفرُ بالنعم هي حالة طارئة وليست فطرية، فلو أنّ الإنْسَان بقي على فطرة الله، لما تحوّل إلى ظلوم كفّار، فالكفران بنعم الله هو نتيجة لترويض النفس على حالةٍ من الانفلات والابتعاد عن منهج الله وهديه، الذي ينعكس على واقع الإنْسَان كله، ويجعله بعيدًا عن أوامر الله، وقريبًا إلى نواهيه..

لذلك نجد أنّ القُــرْآن الكريم مليء بتلك الآيات التي تؤكد للإنْسَانَ أهميّة استذكار واستحضار نعم الله، حتى تصبح حالة التذكر واقعًا عمليًا ينعكس على بلوغ الإنْسَان أعلى مراتب الإيمان، واليقين، والخوف من الله. ومن الشواهد التي عرضها القُــرْآنُ الكريم، ما ذكره اللهُ تعالى عن [بني إسرائيل] في سورة البقرة من تذكيرٍ لهم بالنعم الكثيرة، لعلهم يرجعون ويؤمنون. بدءً بحالة الاستنقاذ من بطش فرعون وجنوده، وصولاً إلى النعم المادية الكثيرة جدًا، من فلق البحر، والمنّ والسلوى، وجبل الطور، وغير ذلك..، ووصف سبحانه ما أعطاهم في سورة المائدة حين قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ}.

فهذا التوجيه الإلهي لاستذكار واستحضار نعم الله، هو مهم جدًا، حتى يظل الإنْسَان في حالة من الارتباط الوجداني والإيماني الواعي بالله سبحانه، وإلا فسيكون البديل عن هذه الارتباط، هو الانسلاخ عن هدى الله، والعيش في حالة من الغفلة والنسيان الذي يؤدي إلى الكفران. ومما قاله السيد (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ):

((لكن من أين ترسخ في أنفسنا ـ ونحن نتقلب في أموالنا ـ أن هذه هي لنا ونحن من نقوم بالعمل فيها، نحن من غرسنا أشجارها، ونحن من نجني ثمارها، ونحن.. ونحن.. إلى آخره.. مع نسياننا لله سبحانه وتعالى. من أين ترسخ؟. لأننا لم نروض أنفسنا على أن نتذكر دائماَ نعم الله العظيمة علينا، وأن نتذكر قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل: من الآية53) {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}(النحل: من الآية18) ترسخت هذه الحالة أَوْ المفاهيم المغلوطة السيئة فنتج عنه حالات سيئة لدينا في أنفسنا جعلت كُلّ واحد منا يتحول إلى أن يصبح ظلوماً كفاراً، فما الذي يبعدك عن أن تكون من الظالمين الكافرين بنعم الله سبحانه وتعالى؟. هو أن تتذكر.

إذا كنتَ أنتَ لا تتذكَّرُ تلقائياً فأجبْ على هذه الأسئلة التي ذكرك الله فيها؟.{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} والذي أنت بالطبع لا تستطيع أن تقول: نحن. من الذي يستطيع أن يقول: نحن؟ لا يستطيع أحد، ما من أحد ـ ربما ـ يستطيع أن يقول نحن إلا وهو يتوقع عقوبة من الله لأشجاره، لزراعته، لو يقول: نحن. فكل واحد مقر في نفسه أن الله هو الزارع.

إذاً فتذكر سواء بالأسلوب الأول، أسلوب تعداد النعم، أَوْ عن طريق الإجابة على هذه الأسئلة التي وجهت إليك وإلى أمثالك من بني آدم.

{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}(الواقعة:65) ثم في الأخير ماذا تملك أن تعمل؟ لا شيء. تصبح كصاحب الجنة الذي ذكر الله قصته في [سورة الكهف]: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}(الكهف: من الآية42) هل تملك في الأخير شيئاً؟ بعد أن يجعلها الله حطاماً تعطش حتى تجف سيقانها وتتحطم، ماذا يمكن أن تعمل؟ ربما آخر فكرة هو أنك تقتلع القات وتجعل بناتك ونساءك يجمعونه ليكون في الأخير [كوماً من الحطب] أليس كذلك؟.{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} (الواقعة:66) غرام، خسارة لا تملك شيئاً، لا تملك أن تضع بدائل لنفسك)).

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com