شقيقُ السيد .. بقلم د/ مصباح الهمداني

ماذا تكتُبُ يا قلمي.. ومدادُك أضحى قطراتِ دمي.. وحروفُك أمست جزءًا من ألمي..

يا قلمي: أرأيت بني صهيون.. أصحاب المُسكِر والأفيون..

يختطفون الشبلَ في عز شبابه، ويخرُجُ بعد عقودٍ يتحسّس أنيابَه، لكن يديه وفكيه، وعينيه ورجليه، والأنفَ وأذنيه، وأصابع قدميه، والبنصر والخنصر والوسطى والسبابة في كفيه، يخرجُ يعرفُ أُمّه، ويقبّلُ أخويه وعمه..

وأعجب من هذا؛ هل تدرون؟!

أن سجينًا في سجن للصهيونية، أتقن 16 لغةً أجنبيةً، وإن شئتم شيئًا للإثبات، فسلوا عن حُرٍ يدعى هلال جرادات.. وآخر ألَّفَ كُتبًا عدة، تنتقد السجن وأَبْنَاء القردة..

وحذاري أن تحسب أني مدّلس، قبل أن تبحثَ عن كريم يونس..

وإنني ما زلت ألعنُ اليهود، لكنني في حيرةٍ؛ منِ اليهود؟ هل جارنا من اليهود..

لكنه موحدٌ في رقعةٍ على عمود، في خرقةٍ خضراء ليس لها حدود.. وجارنا لا يُشبه اليهود.. في الفعل.. في الزنَّار.. في القانون.. في الحدود.

فأيَّةُ ملةٍ لجارنا الحقود؟!..

بالأمس يَبْكِينا الأسير، واليوم نَبكي من أسير!

أخبر قومَك يا شوعي عن عينيك، عن دمعٍ سالَ على خدَّيك، وأنتَ تودّعُ مَن أسروك، من أخذوك جريحًا وعلى أظهرهم حملوك..

عمن ربطوا كُلّ جراحك، حتى نجحوا في إيقاف نزيفك..

أخبر قومَك عن سِرِّ الدمعات، عن أعمقِ شيءٍ في الذات، عن أَخْلَاقٍ لا تكتبها الكلمات، عن قومٍ قلتُ لهم يومًا، عذرًا مما فات، فأجابوا كُلّ الماضي مات، وأنتَ لنا ضيفٌ موفورُ الجنبات.

أخبرهم يا شوعي شيئًا عن تفصيل غذاك، عن جهدِ بني الإيْمَان؛ في طبك ودواك..

وأخيرًا يا شوعي!

هل وصلتك الأنباء، بما فعل السفهاء، من جيران السوء الجبناء، بأسيرٍ ما أسروه، وبشبلٍ حُرٍّ لم يلقوه.. لكن بالمال شروه.. من أحقر مرتزِق في العالم باعوه..

أخذوه.. طاروا فرحًا ما إن وجدوه.. قال المرتزِق العاري للنذل المحتقر الشاري..

أوفي الكيل ولا تتنصَّل، فَإنّ أسيرَ اليوم من الصف الأول، وحين يقوم من غيبوبته تكتشفون أدقّ الأسرار على الأكمَل…

قال الشاري:

-تكفيكم ألفان..

ردوا:

-زدنا زدنا..

زاد الشاري ألفًا فوق الألفين..

لكنَّ المرتزِق البائع.. أمضى وقتًا يتوسلُ مولاه، ويردّد:

-طال عمرك يا الأمير.. إن الأسير يساوي الكثير..

صرخَ الشاري في وجه المرتزِق العاري:

-هذا ألفٌ.. ولا شيء أَكْثَــر من هذا.. والويل لكم إن كانت قصةُ هذا كقصة يوسف من قبل.. أنسيتم يا أنذال..

أرخى المرتزِق الراخي شدقيه وفكَّ الأحبال لفكيه.. مبتسمًا ويردّد:

-تلك الغلطة لن تتكرّرَ.. واقترب إلى أُذُن الشاري يهمس في ذعر:

-هذا حمزة.. مضمون مضمون.

-يا ويلك إن كان سواه يا ويلك.. سأحطم عصاي بأكملها في جلدك..

ضحك المرتزِق التافه، يتحسّس ظهرَه بيديه ويردّد كالأبله:

– يا ويلي منك.. يا ويلي..

جلس أسيرُ اليمن الغالي كالتمثال.. بين يدي شرذمة من أشباه رجال..

يتألم صاحبَنا لكن يأنف.. ويرى أن نزيفَ الدم توقف..

يردّد أولهم:

-أنتَ حمزة الحوثي.. لا تتنكر.. ولا تتعبنا أَكْثَــر.

يردّد الثاني:

-أنت أخو السيد عَبدالملك.. اعترف وإلا سنعذبك..

لكنه ينزل ببصره، ويمسح بقايا رجولتهم بنظراته.. يردّد ثالثهم:

-يا الله.. كم هو وسيم.. مثل أخيه.. لكن نظراته أرعبتني.. يهز كفَّه اليُمنى ويقول:

-لا تطالعني يا أبو يمن..

يصمتُ حمزة.. وكأن صمته إعصار.. ما لبثوا إلا لحظات.. حتى خرجوا ليعودوا بجلاوزة مستأجرين.. يحملون العصي والكابلات..

وتبدأ مرحلة عذاب يومي يعلن بدأها حمزة بقوله:

-لستُ حمزة الحوثي..

وتنتهي حين تكل أكتافهم، وتبلى قوتهم..

مضت الأَيَّـام بعتادها القاسي، من التعليق إلى الضرب الوحشي؛ ليعتادها حمزةُ كوجبةٍ لا مناصَ منها.. ويأتون إليه بعد أشهر:

-يا حمزة.. ستموتُ بالضرب والتعليق تحت أيدينا ولن ينقذَك أحد.. لا نريد منك إلا شيئًا واحدًا..

يرفعُ بطلُنا رأسَه وعينَيه إلى السماء تخترق كُلّ سقفٍ بنوّه ويقول:

-وماذا تريدون؟

-نريدك أن تعترف بأنك أخو السيد وسنتوقف عن تعذيبك.

ضحكَ الأسد اليماني الهصور حتى بانت نواجذه، وقال:

-أتريدون مني أن يراني سيدي ومولاي وأنا أدّعي أني شقيقه كذبًا وزورا.. هذا هو المستحيل.

غاب الجلادون.. وعادوا بعدَ لحظات، بساطور أشبه بالسيف، وخشبة جزار مستخدمة.. ثم نقلوه إلى غرفة تشبه غرف القنصلية..

صاحَ أحدهم:

-حمزة… سنبدأ التقطيع.. هل سمعت بخاشقجي!

ابتسم الولي المؤمن وفي لسانه تسبيح لا يتوقف..

اجتمعوا على يده اليُمنى، لكنهم عجزوا عن تطويعها، فخدروه، ووضعوها فوق الخشبة.. هوى العبدُ السعوديّ بساطوره، وفي لحظة طارت الأصابع بعيدًا، واحدةً تلو أُخْــرَى؛ ليتركن خلفهن دمًا غزيرًا نازفًا، وفتحوا بطنه، وما إن أفاق من غيبوبته، حتى أمسك يده اليمنى باليسرى، ونظرَ إلى وجوههم المنتشية، وأفواههم الضاحكة، وردّد:

-أهكذا تفعلون بالأسير.. ألم تشبعوا من التعذيب والتعليق اليومي!

ويجيبه أَكْبَــرهم كرشًا، وأخفهم عقلاً، وأبطأهم استيعابًا ويقول:

-أنتم (اليمنة) عيال.. فالذي معنا مرتزِق لا يشبع، ومستعد يبيع أمه، وحتى لو نركب فوق ظهره، أهمّ شيء عنده الفلوس.. والذي ضدنا مثل الجبل الأصم لا يفهم ولا يعقل ولا يتراجع ولا ينكسر.

ثم يصيح بصوت ملأ أركان السجن كله:

-يا بني آدم قصصنا أصابعك كلها، وتلذذنا بقصها إصبعًا إصبعاً حتى تعترف..

يبتسم البطل ويشير إلى رقبته ويقول:

-لو قصصتم هذه لما ازددت لسيدي القائد إلا حُبًا.. ولكني لستُ شقيقَه.

مضتِ الأَيَّـام وقد أخذت أصابع يدي وقدمي حمزة.. في عملية تعذيب وحشية، لم تفعلها أية عصابة إجرامية على مدى التأريخ…

كان أَكْثَــر الألم الذي يفتت قلب البطل هو بيع المرتزِقة ابن وطنهم إلى غريبٍ حقود يكره اليمنيين بشكل عام، وقصص تعذيبه لهم في كُلّ مكان وزمان…

لقد قصوا أصابع حمزة، وظنوا أنهم يقتلونه بذلك كُلّ يوم، لكنه هو الذي قتلهم، وأذلهم وأخزاهم، وكشف عورتهم، وكم هم مجرمون وحقراء..

ولكن الأَكْثَــر منهم دناءة وخسة؛ هم أولئك المرتزِقة الأنذال.. وكيف هانت عليهم أنفسهم حتى يبيعوا ابن بلدهم.. من لحمهم ودمهم..

سلام الله عليك يا حمزة، يوم جُرحت، وأيامَ عذبت، وأيامَ نُشرت..

السلام عليك وعلى القائد الذي شبّهوك به خَلقًا، فتشبهت به خُلقا..

السلام على أهلك الأخيار وعلى رفقائك المجاهدين الأحرار..

فمن رحاب حمزة الطاهرة، ومن بين دمائه النازفة، وأوجاعه المتراكمة، أتساءل؛

متى نوحد الصفوف ونتنازل، ونلعن الحرب، ونحتضن بعضنا بعضًا، ونبحث عن أصابع يدي وقدمي البطل؛ لنلمها وندفنها وندفن معها كُلّ أوراق الحرب ومآسيها..

وختامًا: يا جميع اليمنيين بكل أطيافكم..

واللهِ ثم واللهِ:

لو كان الأسيرُ إيرانياً أَو هنديًّا أَو فلبينيًّا أَو حتى بنقاليًّا.. أو هندوسيًا أَو يهوديًا أَو نصرانيًا أَو حتى بوذيًا.. لما مس السعوديّون منه شعرة أَو ظفراً..

لكن الحقيقة التي يتجاهلها البعض، أنهم فعلوا كُلّ هذا، وفعلوا قبل هذا آلاف الجرائم لسبب وحيد؛ وهو أن الضحية:

يمني!

وضعوا تحت يمني ألف خط وخط..

*  *  *

معلومات عن الأسير حمزة:

الاسم: حمزة علي داحش مبارك الهزمي.

من أَبْنَاء قرية هزم مديرية أرحب محافظة صنعاء.

تم أسرُه في جبهة نجران بعد إصابته في تأريخ 10-9-2018م

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com