كيف تحول المصطلح من “نكبة العرب” إلى “نكبة فلسطين”؟

د. نهى خلف*

من الأهميّة القصوى التذكيرُ اليوم، بعدَ مرور سبعين عَاماً على النكبة بأن المفكرَ السوريَّ الراحلَ قنسطنطين زريقَ (1909ـ2000) الذي ينتمي إلى بلاد الشام وَليس فقط إلى فلسطين، وَالذي شاهد وواكب كَثيراً من التطوّرات وَالتقلبات في العالم العربي، هو أول من صاغ مصطلح النكبة في كتابه ‘في معنى النكبة’ الذي كتبه في آب 1948، حيث ينتمي إلى جيل النكبة، حسب التصنيف الشائع المستخدم للتعريف بمن واكبوا نكبة عام 1948.

و قد عرّف قنسطنطين زريق النكبة بهذه الكلمات: ‘ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكسة البسيطة أَوْ بالشر العابر الهين، وَإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معني، وَمحنة من أشد ما ابتلى بالعرب في تأريخهم الطويل، على ما فيه من محن وَمآسيَ، سبع دول عربية تعلن الحرب على الصهيونية في فلسطين، فتقف أمامها عاجزةً ثم تنقص على أعقابها. خطب نارية يلقيها ممثلو العرب في أعلى الهيئات الدولية منذرة بما ستفعله الدول وَالشعوب العربية إنْ صدر هذا القرار أَوْ ذاك. وَتصريحات تقذف كالقنابل من أفواه الرجال الرسميين لدى اجتماعات الجامعة العربية ثُم يجد الجد، فإذا النار خافتة باهتة وَإذا الصلب والحديد صدئ ملتوٍ سريع العطب وَالتفتت، وإذا القنابل جوفاء فارغة لا تحدث أذى ولا تصيب مقتلاً’.

لقد صنّف زريق إذن ‘النكبة’ على أنها نكبة العرب وَليس فقط نكبة فلسطين وَالسؤال اليوم إذن: ما دام المفكرون العرب ينظرون إلى هزيمة 1948 كمشكلة أصابتهم جَميعاً، فكيف ولماذا تحولت النكبة بمفهومها الشائع إلى نكبة فلسطين فقط وَالفلسطينيين وحدهم؟!

إنَّ هذا السؤالَ يحتاجُ إلى دراسات معمقة، وَلكن من الواضح أن هذا التحول ناتج في المقام الأول؛ بسبب التحول أَوْ بالأحرى التخبط ثم التحجيم ثم التهاوي الذي أصاب الفكر العربي وَالأخطر من ذلك المفكرون العرب أنفسهم.

فمنذ عام 1948 تحدَّثَ قنسطنطين زريق عن أهميّة دور المفكر في مواجهة الهزيمة، حيث أشار منذ ذلك الحين عن البلبلة التي أصابت المفكرين العرب بعد الهزيمة قائلاً ” من شر ما تحدثه بعض المحن وَالشدائد توزع الآراء وَتفرق النزعات في الأفراد وَالجماعات. فترى هؤلاء من شدة ما يصيبُهم ذاهلين ضائعين: يؤخذون حينا بهذا الرأي وَحينا بذاك، وَيتبعون أي دليل يدّعي القيادة، إلى طريق الخلاص.. فالواقع أن مئاتٍ من الألوف من أهل هذا البلد المنكوب لم يشردوا من بيوتهم وَيهيموا على وَجوههم فحسب ـ بل أن أفكارهم وَآرائهم، وَأفكار أبناء وطنهم في شتى منازلهم، قد شردت أيضاً وَهامت، فانتشرت فيهم بلبلة في الرأي، أقل ما يقال فيها إنها نذير بشر أعظم إذَا لم تبدد وَيحل محلها تفكيرٌ صافٍ وَعزمٌ موحد، من مظاهر هذه البلبلة هذه الاتهامات المختلفة تكال حيناً لهذا وَحيناً لذاك، وَتصب على هذه الجهة أَوْ تلك. وَترى الناس من أثرها ينحازون إلى دولةٍ من الدول العربية على أُخْـرَى.. فيشغلون بذلك عن التفكير في العدوّ المشترك وَالمصاب الملم”.

وَنقولُ بعد مرور سبعين عَاماً على هذا التحليل: أليس مما يدعو للاستغراب وَالألم أنه لم يتغير شيءٌ (إلا القليل وَربما إلى الأسوأ) اليوم بالنسبة للبلبلة التي تصيب الفكر العربي، إن كان عبر ما سمي بالربيع العربي أَوْ الانقسام الفلسطيني!!

أمَّا المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ (1930- 1978) فقد اهتم بشكل خاص بما أصاب الفكر العربي وَالمفكرين العرب بعد نكسة 1967، حيث كتب كتاباً بعنوان: ”الهزيمة أم الأيديولوجيا المهزومة؟”.

لقد استخدم ياسين الحافظ مصطلح ”جيل الانتلجنسيا العربية الثالث”؛ ليصف من يعتبر أنهم فشلوا في عملية التغيير في العالم العربي، وَيمكنُنا عبر تحليله لهذه الظاهرة وشرحه لها، أن نستخلصَ أن التناقضات الحالية على الساحة الفلسطينية والعربية تجد جذورها في التناقضات الفكرية الكامنة بالأساس في فكر هذا الجيل.

يقول ياسين الحافظ “لعلَّ الإخفاق الأسوأ الذي ما زلنا نعيشُ في دوامته هو إخفاق جيل الانتلجنسيا العربية الثالث، الجيل الذي أراد أن يشكل نقيضَ الجيل السابق المهزوم وتجاوزه، الجيل الذي تكون في الثلاثينيات وأخذ يصعد في أواخر الأربعينيات وتأوّج في الخمسينيات ثم انحدر في الستينيات وسقط نهائياً في السبعينيات”، وَيضيف “خلافاً للجيل الثاني ذاك، جاء الجيل الثالث، مستفيداً من سياق دولي موات مثل أساساً في بروز المعسكر الاشتراكي كقوّة وازنة على المسرح الدول؛ ليعبر، على الصعيد السياسي، عن نزوع راديكالي وغير متصالح مع الاستعمار. لكن؛ لأنَّه كان محافظاً على الأصعدة الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية، كانت قدرتُهُ على تحديث بنى المجتمع العربي، بما في ذلك الاقتصادية، محدودة جداً تارةً ومعدومة تارة أُخْـرَى، وهذا ما جعل راديكاليته السياسية المستمدة إلى بُنَى مفّوتة، في تصديها للهيمنة الإمبريالية وإسرائيل، تأخذ طابع رومانسية ثورية، وَكانت تتحول مع تأكّـد العجز والتآكل، كما تجلّى في هزيمة حزيران وعواقبها، إلى ‘تفنيص’ ثوري أَو (منفخة ثورية). ومن طبيعة الأشياء أن يتحول التفنيص الثوري بعد ارتطامه، إلى استسلام”.

في عام 2006 تمكّـنت المقاومة اللبنانية الباسلة من مواجهة العدوان الإسرائيلي وَصده وَإلحاقه هزائمَ هائلة، مشكلةً بذلك نوع من الردع وَالتوازن العسكري الجديد، كما أن الشعب الفلسطيني الأعزل يستمر حتى اليوم في المقاومة السلمية بكل الأساليب البدائية المتاحة له: طائرات ورقية حارقة، إطارات من الكاوتشوك، حجر، وَأهمّ من ذلك المسيرات الشعبية الحاشدة، وَخَاصَّـةً مسيرات العودة وَالتي تنطلق في كُـلِّ مدن التواجد الفلسطيني مساندةً لأهل غزة وَمن أجل تحقيقِ الحلم الفلسطيني بالعودة الشاملة، حيث أن تحقيقَ هذا الحلم وهو الأسلوبُ الوحيدُ لقلب المعادلة الحالية وَلمواجهة النكبة الفلسطينية الأولى التي أَدّت إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وَتشريده عبر المدن وَخَاصَّـةً العربية منها، والتي تناسى معظمُ مفكريها وَقاداتِها أن النكبةَ بمفهومها الشامل وَالأصلي، هي نكبةُ كُـلّ العرب وَأنها لا زالت مستمرةً بشتى الأساليب الخفية وَالمعلنة ضدهم.

* بتصرف

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com