النظامُ العالمي ومحورُ المقاومة

 

عبدالرحمن مراد

نحن اليوم نعيشُ واقعاً تهيمنُ فيه التكنولوجيا الغربيةُ التي تحاولُ أن تطويَ العالَمَ في بُؤرة صغيرة قابلة للرؤية والقياس، تنصهر فيها الحضاراتُ والثقافاتُ لتصبح حضارةً واحدةً وثقافةً واحدةً، وذلك بفضل التطور التقني في الصورة وسوشل ميديا وابتكارات الإعلام الاجتماعي –الوسائط الاجتماعية كالفيس والواتس… إلخ–.

ومثل ذلك قد أحدث تبدُّلاً سريعاً فوقَ ما نتوقَّعُ في البُنية الأخلاقية والثقافية في المجتمعات، ولعلَّ الأشدَّ خطراً هو انتقالُ مفهومِ العولمة من الأفق الاقتصادي والسياسي إلى الأفق الثقافي والإعلامي والأدبي، وهو ما بات يعرف بالثقافة الشاملة أَو المجتمع الكوني، وهي ثقافة تذوب فيها الخصوصيات، فالعولمة تسعى بكل الوسائل حتى تجعل العالمَ شبيهاً بأمريكا؛ ولذلك نجد مَن هو مفتونٌ بالنموذج الأدبي والثقافي الغربي، بل والنموذج الإعلامي مثل محاكاة بعض برامج المسابقات الشهيرة في الفضائيات مثل تلك التي تبهر المشاهد وتجعله معلقاً بها ومتفاعلاً معها بالتصويت والانفاق وهي كثر، وقد انتشر أُوَارُها في هشيم ثقافتنا فصنع واقعاً عربياً بائساً في الفنون والآداب.

ويرى بعضُ المفكرين أن العقلَ الأمريكي يحاولُ تطهيرَ العالم من الأيديولوجيين والعقائديين الذين يمتازون بالثبات والدفاع عن الهُــوِيَّات، وهو الأمر الذي يعترفُ به الواقعُ من خلال حركة الجماعات كـ”القاعدة” و”داعش”، حَيثُ يعمدون إلى تفكيك البنية العقائدية والثقافية وتشويه صورتها من خلال الممارسات التي لا تتسق مع الإسلام ولا مع مبادئه وقيمه الإنسانية، فالتوحش والبدائية في الجماعات الاستخبارية يهدفُ إلى تعميم الثقافة الشاملة بالقفز على الخصوصيات من خلال الهدم والتفكيك.

وقد لاحظ الكثيرُ تواليَ الهجرات والضجيج الإعلامي حول الأفراد الذين يهربون من مجتمعاتهم إلى الغرب وعلى وجه الخصوص في الآونة الأخيرة كهروبِ شباب سعوديٍّ وخليجي وما صاحب ذلك من ترويج إعلامي، يضافُ إلى ذلك تفكيك البناءات الثقافية، من خلال هدم الرمزيات الثقافية، والسعي إلى التقليل من أثرها، ويأتي اعتذارُ رموز الوهَّـابية عن أفكار التطرف في هذا السياق كما تابع المتابع، وكل تلك الخطوات تؤدي إلى طريق واحد وهو العولمة أَو كما يحلو البعض تسميتها بالأمركة.

كل هذا الاشتغالِ الذي نراه اليوم في واقعنا العربي بالذات، وكل حركة الصراعات قضايا تتعلقُ بالعولمة وفي جوهرها بالنظام الرأسمالي العالمي، إذ أن القوةَ الاقتصاديةَ تريدُ أن تجعلَ من الكونية هدفاً لها بحثاً عن سوق عالمية ومستهلك كوني، ولذلك لا نستبعدُ كَثيراً أن تعترفَ أمريكا بمركزية إيران في الخليج وخليج عمان وأن تتداخل مع إيران في مصالح اقتصادية وسياسية واستراتيجية، فهي تحرص على ألا تذهب إيران إلى الصين ولا تشكل مع روسيا محوراً قد يُحدِثُ قلقاً لها كما كانت في سالف أيامها إبان الحالة الاشتراكية، ومؤشرات ذلك بدأت تطفو على سطح الحقيقة، وما تلك المناورات السياسية والإعلامية سوى عوامل قد تحسن شروط التفاوض لطرف على آخر ليس أكثر، ولعل الإمارات قد أدركت مثل ذلك فسارعت إلى إحياء اتّفاقات تعاون أمنية ظلت طي السجلات أعواماً، وتبدو السعوديّة اليوم أكثر انحناءً من ذي قبل أمام المِلف الإيراني، بدا ذلك واضحًا من خلال فتح العمرة المغلَق أمام الإيرانيين وبعض الامتيَازات للحجاج.

فالرأسمالية تريد دولاً ضعيفةً وغيرَ فاعلة تعاني التشظي والانقسام حتى يسهل عليها فرضُ ثنائية الخضوع والهيمنة، ولذلك تدير حركة الانقسامات والحروب في المنطقة العربية، وهي من خلال تفاوضها مع إيران وعقوباتها المتكرّرة عليها لا تريد إيراناً قوياً متفوقاً تقنياً وعسكريًّا، بل تريدُ ذلك لإسرائيل فقط، وتريد التعامل مع إيران بالقدر الذي يخدم مصالحها ويوفر لها الحماية وتدفق الأموال، ولعل موقف إيران في خندق محور المقاومة قد جعل منها رقماً صعباً خَاصَّة بعد معركة سيف القدس التي لعبت فيها إيران دورًا سياسيًّا ولوجستيًّا مهمًّا.

معركةُ سيف القدس رسمت أُفُقًا سياسيًّا جديدًا، وغيّرت موازينَ القوة في المنطقة، ولذلك نحن أمام استحقاق جديد لا بُـدَّ من الاستعداد له، فأثرُه لن يكون محدوداً، بل سيمتد إلينا في اليمن وإلى محور المقاومة كله، ولذلك فالوعي بالمرحلة وبمصالح المحور سيجعلُ محور المقاومة قوةً ذات أثر في حركة التوازنات وفي النسق العام للنظام الدولي الجديد الذي يتشكل اليوم.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com