السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية الـ 12:

 

بعض العلماء يثبطون الأمة عن أن تتحرك أو تقف موقفاً في التصدي لأعدائها

ترسيخ مبدأ التوحيد أهم معالجة لأزمة الثقة بالله في أنفسنا وواقع أمتنا بوعي ومن خلال القرآن

علماء السوء يحللون لزعماء الجور ما حرم الله ويفتون لانحرافهم ويروجون للعمالة لأمريكا وإسرائيل

الشرك العملي هو أن يفصلَنا عن طاعة الله خوفٌ من أحد

بعض من يسمون أنفسهم بالعلماء يشرعنون للنظام السعودي المحرمات ويقدمون الفتاوى الداعمة للانحراف

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.

اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..

السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

نستكملُ اليومَ ما تحدَّثنا عنه بالأمسِ في سياقِ الحديثِ عن خطورةِ الشِّرْكِ باللهِ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في شِقَّيه: الاعتقادي والعملي، وفي سياق الحديث عن الأهميّة الكبيرة لمبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

قدَّمنا على ضوءِ الآيات المباركة توضيحاً ملخَّصاً عن الشرك في شِقِّه الاعتقادي: أنه عندما تعتقد مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” إلهاً آخر، وعن الشرك في شقه العملي: أنه عندما تقدِّم ما هو لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فتتوجّـهُ به إلى غيرِ الله “جَـلَّ شَأْنُـهُ”، وذلك فيما يتعلقُ بالعبادة في مجالِها الواسع، على المستوى التشريعي، قدَّمنا المثالَ في أن تلتزمَ بتحريمِ ما حرَّمه أحدٌ مما أحلَّه اللهُ، عندما يحرِّم أحدٌ شيئاً أحلَّه اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فتعتبره حراماً؛ لأَنَّ فلاناً حرَّمه، أَو لأَنَّ جهةً معينةً حرَّمته، أَو تستحل ما حرَّم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهذا أَيْـضاً قدحٌ في حقِّ التشريع لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

كذلك عندما تُؤْثِرُ طاعةَ غيرِ اللهِ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” على طاعةِ الله، فتعصي الله؛ مِن أجلِ طاعةِ ذلك الغير، هذه حالة خطيرة جِـدًّا، والشرك العملي خطيرٌ جِـدًّا، ولو أنه في جوانبَ منه لا يصلُ بالإنسان إلى مستوى الخروج من الملة، وهنا خطورته: أنه يمكنُك أن تكونَ مُقِرًّا بمبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ومنتمياً على مستوى الانتماء الديني إلى الإسلام، فمِلتُك هي الإسلام، ولكنك انفصلت عن مبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في جوانبه العملية، في ثمرته العملية.

الثمرة العملية لمبدأ التوحيد، وهو مبدأٌ عظيمٌ، عندما نؤمن ونقر ونشهد أن لا إله إلا الله؛ وبالتالي ألَّا يصرفنا عن الطاعة لله، عن العبادة لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في مفهومها الشامل والواسع والعام، ألَّا يفصلنا عن ذلك خوفٌ من أحد، إذَا خفنا من أحد إلى درجة أن نعصي الله؛ مِن أجلِه، أن نفرِّط فيما أمرنا الله به “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ مِن أجلِ ذلك الغير؛ خوفاً منه، هذا هو من الشرك العملي، وهذا هو نقصٌ كبير في إيماننا بمبدأ التوحيد، في استيعابنا لهذا المبدأ العظيم، وما يبنى عليه، وما هي ثمرته، وما ينبغي أن يكونَ أثرُه حتى في أنفسنا.

عندما يأمُــرُنا الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بأمر، يوجِّهُنا بتوجيه، أَو ينهانا عن شيءٍ معين، فنخالف ذلك؛ بسَببِ رغبتنا إلى أحد هناك -إلى غير الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”- فيما عنده، أَو محبةً له… أَو بأي دافع، فهذه أَيْـضاً قضيةٌ خطيرةٌ علينا، تناقُضٌ في إيماننا والتزامنا العملي بمبدأ التوحيد، وهكذا على مستوى التشريع، على مستوى الطاعة في معصية الله تجاه ما أمر، أَو تجاه ما نهى، كِلا المسألتين خطيرٌ جِـدًّا علينا.

ثم كذلك في حالة الرياء، وهي عندما ترائي بعملٍ من أعمال الطاعة لله، من الأعمال التي هي قربة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، مثل: الجهاد في سبيل الله، أَو مثل: الصلاة، أَو الصدقة، أَو الإحسان… أَو أي عملٍ من الأعمال التي هي أعمال صالحة، ويعملها الإنسان تحت عنوان القربة إلى الله، والطاعة لله، والعبادة لله، فعندما ترائي في ذلك، يعني: تبتغي به السمعة لدى الناس، أَو المكانة عند أحد، أَو الثناء والشكر من الآخرين، أَو تبتغي به مطمعاً مادياً، أَو مقاماً معنوياً لدى الناس ومن الناس، أَو لدى أي أحد منهم، فهذه الحالة خطيرة جِـدًّا، هي حالة الرياء، وهي من أشكال الشرك العملي، والشرك العملي -كما قلنا- هو أكبرُ الذنوب، الشركُ بشكلٍ عام هو أكبر الذنوب، وهو في قائمة المحرمات رقم واحد، أول محرَّم من المحرمات: الشرك بكل أشكاله، فمسألة الشرك مسألة خطيرة، وأهميّة مبدأ التوحيد، والضرورة القصوى لترسيخه حتى نحصل على ثمرته، وتتحقّق إيجابياته في واقع حياتنا، وفي أعمالنا والتزاماتنا العملية، من أهم الأمور، ونأخذ العبرة في ذلك من خطاب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” لنبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وهو من هو في إيمانه وكمال يقينه، فيقول له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[محمد: من الآية19]، وهو من يعلم ذلك، هو من يؤمن بذلك، هو الأكمل في إيمانه بذلك من كُـلّ إنسان، مع ذلك يوجِّه إليه هذا الخطاب: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، هذا يفيدنا أننا بحاجةٍ مُستمرَّةٍ وبدون انقطاع في كُـلّ مسيرة حياتنا، وليس فقط إلى مرحلة معينة، أَو مرتبة إيمانية معينة، بل في كُـلّ مسيرة حياتنا، إلى ترسيخ هذا المبدأ العظيم.

ونجد كم ورد في القرآن الكريم من آياتٍ ترسِّخ هذا المبدأ، تنص على: أنه لا إله إلا الله، على: إلهكم إلهٌ واحد… وهكذا آيات كثيرة، ثم تربط ما بين ذلك وما بين الثمرة المترتبة على ذلك، والنتيجة الأَسَاسية لذلك، من مثل قوله تعالى”: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل: من الآية2]، {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[النحل: من الآية51]، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: من الآية25]، {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: من الآية6]، وهذا ما غاب كَثيراً في واقع أمتنا الإسلامية: الربط ما بين هذا المبدأ العظيم، وما بين ثمرته، وما بين نتيجته.

تتلخص المشكلة لدى الكثير من أبناء أمتنا، فيما هم معرضون عنه من كتاب الله على المستوى العملي، على مستوى الالتزام به في واقع العمل، ولا سيما ما يتصل بالمسؤوليات الكبرى، من مثل: إقامة القسط، من مثل: التعاون على البر والتقوى، من مثل: الاعتصام بحبل الله جميعاً، والأُلفة، والأُخوة الإيمانية، وتوحُّد الكلمة على الحق، من مثل أيضاً: الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني التحرّري العظيم المقدس… وهكذا المسؤوليات ذات الأهميّة الكبيرة جِـدًّا في واقع حياتنا، يتلخص العامل الرئيسي في ذلك: هو بالمخاوف، حالة الخوف من الآخرين، والبعض أَيْـضاً بحالة الأطماع والرغبات فيما لدى الآخرين، وهذا نقص واضح في ثمرة الإيمان بمبدأ التوحيد، وإلَّا فنحن عندما نؤمن بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أنه لا إله إلا هو، ويرتبط بهذا المبدأ كمال الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وركَّز القرآن على هذا كَثيراً، يتحدث عن أنه الإله، ثم يأتي ويذكر لنا من أسمائه الحسنى ما يبين لنا كماله؛ لأَنَّه الذي يجبُ أن نألهَ إليه وحدَه، أن نرجوَه وحدَه فوقَ كُـلّ شيء، أن نخافَ من عقابه فوق كُـلّ شيء، أن نؤمنَ بأنه المسيطر على هذا العالم بكله، أنه ملك السماوات والأرض، أنه الرحمن الرحيم، فنثق به في أنَّ ما يأمرنا به من منطلق رحمته، ونتوكل عليه، ونتيقن أنه سيرحمنا وسيعيننا، ولن يتركنا من ألطافه، ورحمته، وفضله، وهكذا أنه العزيز الحكيم، أنه القوي العزيز… أسماؤه الحسنى في كثيرٍ منها تأتي بعد الحديث عن ألوهيته وأنه لا إله إلا هو.

نجد هذا مثلاً في آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة: من الآية255]، ثم ما تلا ذلك من الحديث عن عظمته “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وكماله، وأسمائه الحسنى. نجد هذا في آخر سورة الحشر، وما ورد تبعاً له من أسماء الله الحسنى، والحديث بشكلٍ مركَّز على توحيده، وهكذا نجدُه في كثيرٍ من الآيات القرآنية، أخذ مساحةً كبيرةً، وحيزاً واسعاً في الحديث داخل الآيات القرآنية، وهذا مُهِـمٌّ لنا جِـدًّا، من أهم ما يمكن أن نعالج به في واقع أمتنا الإسلامية وفي واقع أنفسنا أزمة الثقة بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: هو الترسيخ لهذا المبدأ بوعي ومن خلال ما ورد في القرآن الكريم.

خلال شهر رمضان المبارك والإنسان يتلو القرآن، من المهمِّ أن يركِّزَ على هذا الموضوع؛ لأَنَّه -كما قلنا- من المهم أن يركِّز عليه الإنسان في كُـلّ مسيرة حياته.

نجدُ في ما مرَّ بنا من الآيات المباركة: خطورة الشرك في المقام العملي من خلال الاتِّباع الأعمى، والطاعة في معصية الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والطاعة في المخالفة لمنهج الله “جَـلَّ شَأْنُـهُ”، من مثل ما ورد في قول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}[البقرة: من الآية165]، فنلاحظ أنَّ علاقةَ العبد مع العباد، علاقتك مع الناس، يجب أن يكون لها سقفٌ محدّد، سقفٌ معين، لا تصل إلى هذا المستوى: إلى مستوى أن تحب أحداً كما ينبغي أن تحب الله، وأن تطيعه في معصية الله، وأن تمنحه ما لا ينبغي أن تقدِّمه إلَّا لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، تبقى علاقتك مع الناس في كُـلّ أصنافهم وفئاتهم ومستوياتهم، تبقى هذه العلاقة تحت سقف علاقة العبد مع العبد، في إطار طاعة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، في إطار السير على هدي الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، لا أن تصل وأن تتجاوز هذا الحد وهذا السقف، هذه حالة خطيرة جِـدًّا، وعليه وعلى هذا الحال الكثير من الناس الذين انحرفوا عن منهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وانحرفت بهم مثل هذه الارتباطات: ارتباطات بغير الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ارتباطات مع أحد من الناس بأية صفة، ثم تصل إلى مستوى الطاعة في المعصية، أَو المخالفة لمنهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بناءً على ذلك، أَو الخلل فيما يتعلق أَيْـضاً بمسألة التشريع والارتباط التشريعي بهم بعيدًا عن شرع الله ومنهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ ولأَنَّ المسألة هنا مسألة اتِّباع، وليست في سياق الحديث عن أنهم اعتقدوهم آلهةً، بمعنى: أنَّ هذا هو في إطار الشرك العملي، الشرك العملي الذي هو ذنب خطير جِـدًّا، وإن كان في حالاتٍ منه لا يُخرِج من الملة، لكن هنا خطورته: أنك تعتبر نفسك مسلماً، وتنتمي للإسلام، وتقرُّ بمبدأ التوحيد، ولكنك في واقعك تعاني من هذا الخلل الخطير، الذي يمثِّل ضربةً قاضية لاتّجاهك العملي، لاستقامتك العملية، لسيرك وفق هدي الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ولأن السياق سياق عملي، قال في نفس الآية المباركة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إذ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جميعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)، إذ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}[البقرة: 165-166]، ولذلك من المهم لكل مسلم، لكل إنسان، أن يلحظ طريقة اتِّباعه، مسألة اتِّباعه، من يتَّبع؟ وعلى ماذا يتَّبع؟ وعلى أي أَسَاس يتَّبع؟ والحدود في علاقة الاتِّباع كيف تكون؟ وأنه يجب عليك أن تتبع ما أنزل الله، وأن تتبع سبيل من أناب إلى الله، وأن تكون مسألة الاتِّباع منضبطة بهذا الضابط الإيماني: وفق هدي الله، وفق منهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأسباب}[البقرة: الآية166].

يقول القرآن الكريم أَيْـضاً وهو يتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التوبة: من الآية31]، وطبعاً بالنسبة لأهل الكتاب حصل عندهم شرك في شقيه: يعني: في الشق الاعتقادي: عندما اعتقدوا المسيح عيسى بن مريم اعتقدوه إلهاً ورباً، وأشركوا به مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هذا شركٌ عقائدي، ولكن أَيْـضاً على المستوى العملي في الجانب التشريعي، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}، يعني: علماءهم، {وَرُهْبَانَهُمْ}، يعني: عبَّادهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وورد الحديث عن النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” يوضح هذه المسألة كيف هي، وكيف تمت، وكيف كانت، فإذا هي من خلال هذا الارتباط التشريعي: أن يحرِّموا عليهم ما أحلَّ الله فيحرِّموه، وأن يحلوا لهم ما حرَّم الله فيستحلوه، فكانت قضيةً خطيرةً جِـدًّا.

في عصرنا هذا في واقع حياتنا -وللأسف الشديد- لا تراعى هذا المسألة في مسألة القوانين والدساتير، تأتي في عملية التقنين، وتحت العنوان التشريعي نفسه، وهي يعني خطيئة كبيرة جِـدًّا؛ لأَنَّنا لم نكن بحاجة إلى أن نقدِّم صفة تشريعية لأية جهة معينة في واقع أمتنا الإسلامية، لا نحتاج إلى أن نقول: [سلطة تشريعية]، فنمحنها هذه الصفة؛ لأَنَّ الحق في التشريع عندنا كمسلمين، كأمةٍ مؤمنة تؤمن بكتاب الله، تؤمن بالله بأنه الإله الحق، الحق التشريعي هو خاصٌّ بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هو حق الرب، هو حقٌّ إلهيٌّ يختص به الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ولا يجوز أن نقرَّ به لأحد، وأن نقولَ لأحد: [لك الحق في أن تشرِّعَ]، هذا الحق ليس لأحد أبداً إلَّا لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّه حقٌّ يتعلق بالربوبية والألوهية، حق الله الإله الملك الرب “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

ولذلك عندما نأتي إلى واقعنا الحياتي أَو السياسي، كان يمكن أن تكون لعملية صياغة قوانين معينة على ضوء هدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وعلى ضوء شرع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أن تكون هناك تسميات وعناوين تختلف عن الطريقة الغربية، عما عليه الغرب، لا نحتاج إلى أن نقدم عناوين من مثل عناوينهم؛ لأَنَّ عناوينَهم هي مبنيةٌ على انحرافهم الكلي والشامل عن منهج الله، وعن دين الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّهم فصلوا حياتهم، ومسيرة حياتهم في كُـلّ شؤونها العملية، عن مسألة الالتزام بدين الله، وتعليمات الله، وشرع الله، وهدي الله؛ لأَنَّهم في حالة كفر بما أنزل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

في واقعنا كمسلمين يفترض بنا أن نحرص على أن نبنيَ مسيرة حياتنا على أَسَاس من هدي الله، من تعليماته، من شرعه، وعادةً ما يحصل الإقرار بذلك، مثلاً: يأتي عنوان أَو بند في الدستور يعتبر الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات، لكن تأتي التسميات، ويأتي إشكاليات أُخرى تبعد الناس عن المبدأ الأَسَاسي نفسه، وتفتح المجال، وتفتح الثغرات لدخول خلل كبير من هنا ومن هنا ومن هنا، ولذلك يجب أن تضبط الأُمَّــة مسارها العملي على أَسَاس صحيح، وأن تسعى لسد كُـلّ الثغرات، وأن تتجه بجدية في أن تلتزم بمنهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وبدون أي تحرج، هذا ليس تخلفاً، هذا ليس نقصاً، هذا ليس عيباً، هذا ليس مشكلةً.

التخلف، الحالة الجاهلية، النقص: هو في الانحراف عن منهج الله، عن تعليماته القيمة والعظيمة، تعليمات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هي الحق، هي العدل، وهي أَيْـضاً التي تنسجم مع فطرتنا الإنسانية، وهي التي تحقّق لنا المصلحة الحقيقية في شؤون حياتنا.

ثم على مستوى الانتماء الديني، نجد أن المشكلةَ التي كانت مشكلة قديمة في واقع أهل الكتاب، وانحرفت بهم -إلى حَــدٍّ كبير- عن منهج الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وعن شرعه ونهجه، ودينه وتعليماته، أنهم كما قال عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}: علماء الدين لديهم، {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}: العبَّاد المتدينين لديهم، {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، هذا يحصل في أمتنا الإسلامية، ليس فقط في الجو السياسي، وفي الاتّجاه السياسي، على مستوى دور سلبي لعلماء السوء، وللعبَّاد المنحرفين؛ لأَنَّه عادةً ما يكون هناك علماء سوء، ممن هم بصفة علماء دين، ولكنهم من المضلين، من المنحرفين، من ذوي الأهواء، من ذوي الاتّجاهات المنحرفة، وعندما يرتبط الإنسان بهم ارتباطاً أعمى، ويكتفي منه بصفة عالم دين، يكفيه عنده هذه الصفة، أَو هيئة كبار العلماء، مثلما يقولون في السعوديّة (هيئة كبار العلماء)، أَو يكتفي الإنسان بصفته الدينية، بصفة ذلك الشخص الدينية؛ باعتبَاره من ذوي الشهرة بالعبادة، والسلوك الديني، والالتزام الديني، ثم يأتي لينحرفَ بك، ليصُدَّك عن سبيل الله، ينحرف بك عن مواقف أَسَاسية يأمر بها الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في كتابه الكريم، ونحن نلحظ في زمننا هذا دوراً سلبياً بارزاً لعلماء السوء، في الانحراف بالأمة عن الإتباع للقرآن الكريم، والتمسُّك بهدي الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فنجد البعضَ منهم يروجون للتطبيع مع إسرائيل، للعلاقة مع إسرائيل، للولاء لأعداء الإسلام، يروجون للولاء لأمريكا، للتحالف مع أمريكا، للتعاون مع أمريكا، وهذا واضح، يقفون مع من يقف في هذا الاتّجاه: اتّجاه العمالة لأمريكا وإسرائيل، والتحالف المعلن مع أمريكا وإسرائيل بوضوح، يساندونهم، يدعمونهم بالفتاوى يقدمون لهم الفتاوى التي تساندهم، فيقفون جنباً إلى جنب معهم في نفس الاتّجاه، في الدفع بالأمة إلى الولاء لأمريكا وإسرائيل، وهذا انحراف خطيرٌ جِـدًّا عن منهج الإسلام، عن مبادئه العظيمة، عن قيمه العظيمة، وفي نفس الوقت تدجينٌ للأُمَّـة تحت هيمنة أعدائها وسيطرة أعدائها، وفي نفس الوقت مصادرة لحقوق الأُمَّــة، وظلم رهيب للأُمَّـة؛ لأَنَّه يُمكِّنُ أعدائها منها، منهم أعداء حقيقيون واضحون، ولا لبس في عدائهم لهذه الأُمَّــة، ثم يتجهون لتمكين أُولئك الأعداء من هذه الأُمَّــة، في كُـلّ مجالات حياتها، وشؤون حياتها.

البعض يتجهون أَيْـضاً اتّجاهاً للتجميد لهذه الأُمَّــة عن أن تتحَرّك، أَو أن تقف أي موقف في التصدي لأعدائها، عن طريق التثبيط، التجميد، التخذيل، الصرف للأُمَّـة عن أن يكون هذا من ضمن اهتماماتها العملية، وهنا نقول إذَا كان هذا خارج إطار مسؤوليات هذه الأُمَّــة الدينية، أي: لم يبق عليها مسؤولية أن تتحَرّك لدفع الخطر عنها، فما هي قيمة الجهاد في سبيل الله؟ هل هو إلا لدفع الخطر عن الأُمَّــة؟

الجهاد في سبيل الله ليس عنواناً للدفاع عن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، بحيث يتصور الإنسان أن هناك خطراً يمكن أن يتوجّـه إلى الله، وأن الله طلب من عباده أن يدافعوا عنه، لا، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هو القوي العزيز، هو القاهر فوق عباده، والمهيمن على السماوات والأرض، والمهيمن على عباده، حياتهم بيده، موتهم بيده، رزقهم بيده، وهو “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” يمكن بفيروس صغير أن يسلطه عليهم فيقهرهم ويصل بهم إلى حالة الاستسلام التام والعجز التام، أَو أن يسلب منهم حياتهم في رمشة عين، في لحظة، في ثانية، في أقل من ذلك، الكل تحت سلطانه وقهره وهيمنته.

الجهاد في سبيل الله هو وسيلةٌ للدفاع عن الأُمَّــة نفسها، لدفع الخطر عنها، للحفاظ على حريتها واستقلالها وكرامتها، للحفاظ على مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، ومصالحها، وأوطانها، وممتلكاتها، فائدته وثمرته تعود إلى الناس في الدنيا والآخرة: عزة، وكرامة، وحرية، واستقلال.

عندما يُعطَّلُ هذا الفَـــرْضُ العظيمُ في دورِه المُهِـــمِّ، والأُمَّــةُ بأَمَسِّ الحاجة إليه؛ لكي تكونَ أُمَّـة حرةً، عزيزةً، مستقلة، ويأتي من يساهم في تعطيل هذا الفرض العظيم؛ فيثبط، ويخذل، ويجمد، هذا المبدأ وهذا الفرض المهم، ثم يسعى أَيْـضاً إلى صرف اهتمام الناس عنه كليًّا، والتثبيط عن أي توجّـه يدفع بالناس إلى القيام بهذا الفرض العظيم، هذا هو من الأحبار، إن كان بصفة عالم دين، من الأحبار الذين يصدون عن سبيل الله، ممن إذَا ارتبطت به، وأطعته في ذلك، فقد اتخذته رباً، أشركت به شركاً عمليًّا، وهكذا بقية الفرائض المهمة، والمسؤوليات المهمة، إذَا أنت كفاك أن يكونَ الشخص بصفة عالم دين، وارتحت بما قدمه لك؛ لأَنَّه توافق مع هوى نفسك، فاعتبرت ذلك مناسباً، واعتبرت أنه أعفاك من مسؤولية، كنت ترى فيها أنها مسؤولية شاقة، فارتحت لذلك، فأنت هنا تورطت في أن جعلت منه رباً، وألّهته في واقعك العملي، من خلال الشرك العملي، عندما يحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم الله، عندما يقدم تشطيبات، ويقدم -في نفس الوقت- حالة تجميد للنصوص القرآنية، لأوامر الله، لتوجيهات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ مِن أجلِ هوى النفس، فهي حالة خطيرة جِـدًّا.

وكم يأتي أَيْـضاً من علماء السوء، في مسايرةٍ منهم لزعماء الجور، لسلاطين الجور، لملوك الطغيان والانحراف، ما يحل ما حرم الله، فهم يقدمون فتاوى وتسهيلات تواكب التوجّـهات التي عليها أُولئك لانحرافهم، هذا حصل بشكلٍ واضح في حالة النظام السعوديّ، نرى مسايرة من بعض من يسمون أنفسهم بالعلماء، ليبرّروا وليشرعنوا حتى أشياء من الأمور الواضحة جِـدًّا في تحريمها، فيشرعنون، ويبرّرون، ويقدمون الفتاوى الداعمة للانحراف، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية31]، في نفس السياق التشريعي يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: من الآية121]، فيعتبرها حالة شرك {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}؛ لأَنَّكم إن اطعتموهم وهم يجادلونكم، ويسعون إلى تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، فطاعتكم لهم في ذلك تعتبر شركاً؛ لأَنَّكم أعطيتموهم الحق في التشريع، وفي نفس الوقت لم تتعاملوا مع الله على أنه صاحب هذا الحق، يعني: المسألة ليست فقط أنك أعطيت ذلك الإنسان الحق في التشريع، بل وفي نفس الوقت لم تقبل بالتشريع الإلهي، فكأن ذلك الطرف هو الأحق من الله بالتشريع، وكأن فيما قدمه الحق، وفيما قدمه الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” العكس من ذلك، فتعتبر هذه إساءة كبيرة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

نخلص إلى أن الثمرة المهمة لمبدأ التوحيد، تدفع بنا إلى أن:

  • نخاف من الله فوق كُـلّ شيء.
  • وأن نتحرّر من كُـلّ المخاوف التي تصدنا عن اتِّباع ما أنزل الله، وعن الطاعة لله، وعن الاستجابة العملية الكاملة لله.
  • في مسألة المحبة كذلك.
  • في مسألة ما نرجوه، ما نريده.

فنحن نؤمنُ بأن اللهَ هو الإلهُ الواحدُ الحقُّ المبين، وأنه المهيمن على كُـلّ شيء، بيده ما نرجوه من الخير، وعقوبته أشد من أي عقاب، وأشد من أي عذاب، وأنه أرحمُ الراحمين، نؤمن بكماله المطلق، فننشد إليه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بالعبادة، ونألَهُ إليه بالرجاء والخوف والمحبة.

ثم نرتبطُ بذلك عمليًّا في اتِّباعنا لمنهجه، فنعبده، فنتقيه، فنلتزم بطاعته، فنستجيب له، فنتوكل عليه، فنلتجئ إليه، فنثق به ونعتمد عليه، هذا شيءٌ مهم.

فيما يتعلَّقُ بالرياء والإخلاص، يبقى لنا هذا العنوانُ في سياق حديثِنا عن مبدأ التوحيد، وعن خطورة الشرك، نترُكُ هذا العنوان للمحاضرة القادمة إن شاء الله؛ لأَنَّه من المواضيع المهمة جِـدًّا جِـدًّا، لنخصِّصَ المحاضرةَ القادمة له إن شاء الله.

نَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم الصيامَ، والقيامَ، وصالحَ الأعمال، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com