دروسٌ لحكومة التغيير والبناء من حكومة الإمام علي بن أبي طالب “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” (2)

د/ محمد قاسم علي العاقل

لعلَّ الدروسَ إحدى الوثائق المهمة لحكومة الإمام علي “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” والجديرة بالدراسة والتأمل من قبل حكومة التغيير والبناء، بجانب التوجيهات المتكرّرة لقائد المسيرة القرآنية المباركة السيد عبد الملك الحوثي “حَفِظَهُ اللهُ”، والمنبثقة من مشكاة واحدة والمتأسية برسول الله الأعظم؛ ليكون هذا الكتاب والتوجيهات العطرة نبراسًا للحكومة تضيءُ لهم الطريقَ القاتمَ لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

وكتابُ الإمام علي “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” للأشتر النخعي يُعتبر سِفرًا في فلسفة الحكم والإدارة وتطبيقاتها، وكتابًا جامِعًا لأُسُسِ الحكم والإدارة، واشتمل على أعلى درجات التطور الإنساني والتقدم الفكري، واختصر التجربةَ الإنسانية على طول تاريخها، وأسمى ما بلغته من رقيٍّ وإبداع، ومهما وصلت أنظمةُ الحكم والإدارة في التاريخ فَــإنَّها تبقى عاجزةً عن إن تأتيَ بنظرية إدارية اقتصادية قانونية إنسانية متكاملة كما جاء في هذا العهد؛ لذلك مهما حاولت الأقلامُ أن تكتُبَ فيه فَــإنَّها تبقى قاصِرةً عن الوصول إلى غاياته أَو ما جاء فيه من قيم عليا ونظرية عملية وعلمية.

لذلك تم التركيزُ على جُزئية بسيطة في هذا العهد، فتم تناوُلُ منهج الإمام علي “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” في إدارته للدولة، واستخلاص مجموعة من المبادئ الرئيسية التي تضمنها العهد، والممارسات العملية التي طبَّقها الإمام عندما مارس الحكم والإدارة، وأرسى مداميكها.

تضمَّنَ العهدُ حوالي أربعين فقرةً تناولت عدة عناوين، منها: أصول الفكر والسلوك للحاكم، الشريعة، نصرة الله، اتّهام النفس، الاهتمام بنظرة الناس إلى الحاكم، لزوم حب الحاكم لمواطنيه والشعور بأنه محكوم لمن هو أعلى منه، الأصل هو العفو والعقوبة استثناء، والأصل اللين والعنف استثناء، كيف يُحصّن الحاكم نفسه من الغرور والظلم، القرارات يجب أن ترضي الجميع لا الخَاصَّة فقط، موقف الحاكم من تقارير المخابرات، المتملقون والنمامون، صفات المستشارين للحاكم، صفات الوزراء، وَتقتضي استيزارَ الوجوه الجديدة، صفات الوزراء المفضَّلين، محاسبة الوزراء، فوائد إعطاء الحرية للمواطنين وحُسن الظن بهم، احترام العادات الاجتماعية وتحسينها، المشاورون الكبار في القضايا الاستراتيجية، تكوّن كُـلِّ مجتمع من فئات وطبقات، سياسة الحاكم مع القوات المسلحة، سياسة الحاكم مع قادة الجيش، سياسة الوزراء والولاة في القضايا المشتبهة، سياسة الحاكم مع القوة القضائية، سياسَة الحاكم مع الولاة وكبار الموظفين، ربط جهاز المخابرات برئيس الدولة، السياسة المالية والضرائبية، ديوان الحاكم أَو الجهاز الخاص به، سياسة الدولة مع التجار والكَسَبة، سياسة الحاكم مع الطبقة الفقيرة، سياسَة الحاكم مع مراجعيه، برنامج يومي للحاكم، لقاءات الحاكم المباشرة مع الناس وحذف البطانة، سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته، سياسَة السلم والحذر من العدوّ والالتزام الكامل بالاتّفاقيات، تحذير الحاكم بشدة من سفك الدماء، الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين، التثبت والاعتدال في اتِّخاذ القرارات، كيف يكون الحاكم حاكمًا على نفسِه ومسيطرًا على غضبه، دعاء أمير المؤمنين “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” له بالتوفيق في تحقيق أهداف الحكم.

وقد تم انتقاء بعض الموضوعات المتعلقة بالمنهج الإسلامي في الحكم والإدارة وليس كُـلّ ما جاء في العهد، وأهم ذلك مبدأ الرقابة الذاتية ومبدأ الرقابة الشعبيّة على الموظف والتي ثبّتها الإمام “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” في العهد، والممارسات العلمية المتعلقة بهما، وكذلك المزايا الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها كبار الموظفين، والحفاظ على دماء الرعية، ثم تم تناولُ اختيار العمال والموظفين ومواصفاتهم، مع التركيز على طبيعة اختيار الإمام للموظفين (عُمالًا، ولاةً، كُتَّابًا) كممارسة عملية، والأساليب الوقائية التي حدّدها الإمام في عهده لمالك؛ حتى لا يسمح للفساد الإداري والمالي بالتسلل إلى مرافق الدولة.

 

مضامينُ عهد مالك الأشتر:

ينطوي هذا الكتاب أَو العهد على معانٍ كثيرةٍ وعميقة في الحُكم والإدارة الإسلامية، وهي معانٍ موجَّهة لسلوك القيادة السوية في جميع مرافِق الدولة، ومن هذه المضامين:

 

  1. تقوى الله في كُـلّ تصرف للحاكم:

قوله “عَلَيْـهِ السَّلَامُ”: “الأمر بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتِّباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه“.

ومن هنا نقول: إنَّ الذي يمارس الحكم والإدارة يجب أن يكون تقيًّا نقيًّا من الممارسات غير المهنية أَو غير الأخلاقية، وأن تملأ قلبَه الخشيةُ من الله؛ كي يحسن صنعًا ويخالق الناس بخلق حسن.

وهذا التوجيه من الإمام علي “عَلَيْـهِ السَّلَامُ”، يعتبر مرجعيةً لأعمال الموظف في كُـلّ المواقع الإدارية، وتقوى الله في العمل وفي التعامل حدّدهما القرآنُ الكريم في قول الله تعالى: “ألم، ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هدىً للمتقينَ، الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصلاةً ومما رزقناهم ينفقونَ، والذينَ يؤمنونَ بما أُنزلَ إليكَ وما أُنزلَ من قبلكَ وبالآخرة هم يوقنون” البقرة، 1-4؛ كما تعني تعظيمَ شعائر الله، كما في قوله تعالى: “ومن يُعظِّم شعائرَ اللهِ فَــإنَّها من تقوى القلوب” الحج:32؛ وبمعنى العفو والتسامح، كما في قوله تعالى: “وأن تعفوا أقربُ للتقوى” البقرة:237، وجاء بمعنى ما يقابل الإثم والفجور، قال الله تعالى: “فألهمهَا فجورَها وتقواهَا” الشمس:8، وجاء بمعنى العدل، كما في قول الله تعالى: “اعدلوا هوَ أقربُ للتقوى” المائدة:8، وجاء بمعنى الصدق والحق، قال الله تعالى: “والذي جاءَ بالصدقِ وصدَّقَ بهِ أُولئك هم المتقونَ” الزمر:33، وجاء بمعنى الوفاء بالعهد، كما في قول الله تعالى: “فأتموا إليهم عهدَهم إلى مدتها إنً الله يحبُّ المتقين” التوبة:4، وجاء بمعنى عدمِ الطغيان والفساد في الأرض، كما في قول الله تعالى: “تلكَ الدارُ الآخرة نجعلها للذينَ لا يريدون عُلُوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبةُ للمتقينَ” القصص:83، وجاء بمعنى الخشية من الله وإنابة القلب، قال الله تعالى: “وأُزلفت الجنَّةُ للمتقين غيرَ بعيد، هذا ما توعدونَ لكلِ أوابٍ حفيظٍ، من خشيَ الرحمنَ بالغيبِ وجاءَ بقلبٍ منيب” ق:31-33، وجاء للدلالة على أعمال البر كالإحسان والعبادة والاستغفار ومساعدة المحتاجين، كما في قول الله تعالى: “إنَّ المتقينَ في جناتٍ وعيونٍ، آخذينَ ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبلَ ذلكَ محسنين، كانوا قليلًا من الليلِ ما يهجعونَ وبالأسحارِ هم يستغفرونَ، وفي أموالهم حَقٌّ للسائلِ والمحروم” الذاريات:15-19، وجاء بمعنى هجر الظالمين وعدم الركون اليهم، قال الله تعالى: “وإنَّ الظالمينَ بعضهم أولياء بعضٍ واللهُ وليُّ المتقين” الجاثية:19، وتقتضي التقوى بحفظ النفس من المأثم وفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، قال الله تعالى: “يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تقاتهِ” آل عمران:102، و: “فاتقوا اللهَ ما استطعتم” التغابن:16، و: “ومن يتقِ اللهَ يجعلْ لهُ مخرجًا ويرزقهُ من حَيثُ لا يحتسبُ” الطلاق:2-3، ومن دعاء رسول الله: “اللهم إني أسألُك الهدى والتقى والعفافَ والغنى“.

ومن الآيات القرآنية الكريمة تتضح حقائقُ ارتبطت بسيرة وحكم الإمام علي “عَلَيْـهِ السَّلَامُ”؛ وهي حقيقة الملازمة بين النص القرآني والنص في وثيقة العهد في كُـلّ عمل يؤديه الحاكم أَو الوزير؛ بأن يكون الهدف تقوى الله في السر والعلن، وأن يشعر المسؤول أن تصرفَه مراقَبٌ من الله “سبحانه وتعالى” قبل أن يكون مراقَبًا من الخلق، وهذا يعني أن تكون هناك رقابة ذاتية للشخص عن عمله، وأن يحاسب نفسه على كُـلّ تصرف قبل أن يحاسَبَ في الدنيا قبل الآخرة.

هذه المعاني الجليلة نستشفُّ منها مبادئ إدارية عظيمة، ليس هناك مجال لمقارنتها بالإدارة الوضعية الحالية؛ فهي مرتكزة على منهج كامل ومتكامل، يسمو بالإنسان روحيًّا وعقليًّا وخلقيًّا وماديًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ ويرقى به إلى أعلى درجات الحضارة في أنموذج فريد ومتميَّز في مكوناته وفي منطلقاته وأهدافه.

إن المتمعن في هذه الآيات القرآنية يستدل بها على منهجية الإمام علي “عَلَيْـهِ السَّلَامُ” في الحُكم والإدارة التي تراعي تقوى الله في كُـلّ عمل وتصرف حتى يستقيمَ ميزان العدل في العمل، وحتى تُعرَفَ الحقوق والواجبات لكل القيادات والموظفين بجميع مستوياتهم، على ضوء أحكام ربانية ونهج إسلامي راشد، وما أحوجَنا لذلك في حكوماتنا الحالية التي تشـرئب لها النفوس والعقول، على أمل معقودٍ على رهان نجاحها، ولها أَسَاسٌ راسخٌ في المنهج القرآني والقُدوة الحسنة في فكر الإمام “عَلَيْـهِ السَّلَامُ”، ومرجعية حاضِرة في توجيهات قائد المسيرة القرآنية السيد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي “حَفِظَهُ اللهُ” لحكومة التغيير والبناء، حَيثُ قال: “تقوى الله تعالى والشعور بالمسؤولية، وأهميّة استشعار ذلك عندما تكونُ في عمل ودور وموقع مسؤولية، وأنك أمام الله في مقام المحاسَبة والمساءلة والمجازاة، وأنه يفتح لك حسابًا إضافيًّا يتعلّقُ بالمسؤولية، وتحمّل التبعات والعقوبات في عاجل الدنيا وآجل الآخرة في حالة التجاوز أَو التفريط، والجزاء الحَسَن إذَا أحسنتَ في أداء المسؤولية…“، فهل من مُعتبِر؟.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com