رئيسُ الهيئة العامة للكتاب عبد الرحمن مراد في حوارٍ لـ “المسيرة”: واشنطن تقودُ نظامًا دوليًّا هَشًّا واليمنُ خدش وجهَ أمريكا القبيحَ في البحر الأحمر

 

المسيرة – حاوره إبراهيم العنسي:

يتحدَّثُ رئيسُ الهيئة العامة للكتاب، الكاتبُ والباحثُ عبدُ الرحمن مراد، عن الأحداثِ ومعطياتِها بعد عملية (طُـوفان الأقصى)، في سلسلة 3 حوارات تنشُرُها الصحيفة تباعاً ابتداءً من عدد اليوم.

إلى نص الحوار الأول:

 

– بدايةً أُستاذ عبد الرحمن.. بعد الأحداث المتتابعة في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي، تلجأُ واشنطن لتصنيفِ مكون “أنصار الله” في خانة “الإرهاب” ثم تتحدث وتهدّد بحرب برية.. كيف تقرأون ذلك في سياق تاريخي وضمن معطيات الواقع اليوم؟

هذا أمرٌ وارد، لكن بأدواتٍ يمنية، كما كانت تفعلُ أمريكا وبريطانيا بوجودِ السعوديّة والإمارات طيلةَ سنوات العدوان؛ يعني أن تعيد تحريك وتنشيط الجبهات القابلة للاشتعال وتوفير الدعم اللازم لها، وهذا معروف في السياسة الأمريكية، وثمة تصريحات تذهب إلى هذا الخيار من رئيس ما يسمى بـ “مجلس القيادة” المرتزِق العليمي، لكن ظروف اليوم تبدو مختلفة تماماً، حَيثُ يقف الشعب اليمني في موقف موحد، حَيثُ ثبات صنعاء على مناصرة ودعم قضية الأُمَّــة في فلسطين، ونصرة المقدسات، وقت أن تخلى الكثير من حكام العرب عن واجبهم الديني والأخلاقي والقومي.

 

– ما مستقبلُ اليمن برأيكم ما بعد (طُـوفان الأقصى) وفرض معادلة البحر الأحمر، في وقتٍ يعيش فيه حصارًا جائرًا وعدوانًا مُستمرًّا إلى اليوم؟

اليمنُ وضع قدمَه على خارطة العالم بخُطَىً ثابتةٍ واثقة، وبمقدوره الإسهام في الحضارة الإنسانية المعاصرة، لكن لا بُـدَّ أن تتظافر جهود صياغة مشروع نهضة متكامل البناء والأركان، وقبل هذا وذاك علينا أن نضع استراتيجيات لحرب ناعمة من المؤكّـد أنها سوف تستهدف هذا البلد بعد المواجهة المباشرة مع الصهيونية، وقوى الشر العالمي فالمعركة “الثقافية” لا تقل شأناً عن المعركة العسكرية، بل تكاد تكونُ أشدَّ وَقْعاً وألماً إن لم نحسن مواجهتها بوعي ومقدرة.

 

– هل بالإمْكَان القولُ إن هناك إخفاقًا استراتيجي يواجه الغرب والأمريكيين، خَاصَّةً في البحر الأحمر كما واجهوا إخفاقات متعددة في العراق وأفغانستان وفيتنام؟

ما يمكن قوله إن هناك مسارًا استراتيجيًّا، الغرب قارئ عميق لكل خطوة؛ فهو يضع المقدمة ويعرف نتيجتها؛ فحين يخفق يسارع إلى البدائل المحتملة، إنهم يفكرون بطريقة أكثر إدراكاً، ولا يغامرون في كُـلّ الأحوال.

 

– في ضوء ما يحصل في البحر الأحمر.. أي خيار للأمريكيين والغرب مع تأكيد صنعاء الاستمرار، بل والتصعيد إن استمر الحصار وحرب الإبادة في غزة؟

بالنظر لمجمل الأحوال والظروف، كان لا بُـدَّ للولايات المتحدة الأمريكية أن تلجأ إلى ضربات عسكرية خاطفة في اليمن تحاول أن تحفظ بها ماء وجهها وهيبتها.

والمؤكّـد أن مصالح العالم وأمريكا تقف حائلاً دون دخول أمريكا في حرب طويلة المدى يكون من آثارها تهديدُ أمن الملاحة الدولي ونتائجها ستكون كارثية، وكعادتها سوف تلجأ إلى الحرب الناعمة، وتنمية عوامل الصراع والشقاق، وستعمل جاهدة على فكرة عدم استقرار اليمن، وهذا أمر وارد وفق كُـلّ معطيات السياسة الأمريكية.

 

– مع ما يحصل في البحر الأحمر.. هل نقول: إن أمريكا سقطت في المستنقع اليمني أم أنها تتجنب حتى الساعة السقوط فيه؟

أمريكا بالفعل سقطت بشكل مباشر، وسقطت قبل ذلك بشكل غير مباشر من خلال العدوان الأمريكي السعوديّ على اليمن، وكانت النتائج يقظة الوكلاء الذين رأوا من مصلحتهم عدمَ المشاركة في تحالف “حارس الازدهار” ويدعون أمريكا من وقتٍ لآخر إلى ضبط النفس، وسبق لهم التواصل مع روسيا والصين، وهو أمر لم يكن في حسبان واشنطن، حَيثُ إن هناك إشاراتٍ تقول إن الوكلاء في المنطقة العربية يرفضون بعض سياسات أمريكا، وهو أمرٌ غيرُ مسبوق في تاريخ العلاقات بينهم.

والواقع اليوم يقول إن ما حدث في اليمن على مدى تسعة أعوام تركَ آثاراً وندوباً على وجه أمريكا وتحالفها رغم مأساوية وحجم الدمار الذي أحدثته في اليمن.

في السابق كانت أمريكا تُحكِمُ سيطرتَها على العالم، واليوم ثمة متغيرات بنيوية كبرى حدثت، منها: بروزُ قوىً اقتصادية كبرى منافسة، وَهناك منظومة مصالح تتغير وتتبدل في العالم تبعاً لذلك، وكلّ دولة تقيس كُـلّ ما يحدث على موازين مصالحها؛ ففرنسا مثلاً فقدت الكثير من مفردات هيمنتها في القارة السمراء، حَيثُ لعبت روسيا دوراً محوريًّا في تفكيك منظومة الاتّحاد الأُورُوبي، أَيْـضاً تركت حرب أوكرانيا عليه ظلالاً قاتمة، وفقد الكثير من مقومات وجوده الاقتصادية؛ فالعالم يتحَرّك اليوم إلى مربعات جديدة ليصيغ نظاماً دوليًّا متعدد الأقطاب.. هذا هو الحال.

 

– كيف تقرأون تصريحات البحرية الأمريكية حول فشلها في تسيير سفن الكيان المحتلّ في البحر الأحمر؟

مع كُـلّ الإنجاز الذي حقّقناه علينا أن نكون أكثر واقعيةً وفهماً وإدراكاً؛ فالرأسمالية في الغالب تلجأ للتضليل لتحقيق أهدافها، وفكرة التفوق بالسلاح فكرة غير منطقية.

نحن في اليمن نملك الإيمان كقوة قاهرة وغالبة، أما التفوق التقني الذي عليه الأمريكيون فكرة مضللة وغير واقعية؛ ولذلك يجب ألا تنطلي علينا هذه التصريحات.

نحن خدشّـنا وجهَ أمريكا القبيحِ في البحر الأحمر، وهي تريدُ أن يتعاطفَ العالَمُ معها؛ لأَنَّها لا تستطيعُ أن تخوضَ حرباً مع أية قوة تحرّرية في العالم إلا بالوكالة، تريدُ من يخوض الحرب، وتريد من يموّل هذه الحرب، وهذه هي الحكاية.. إنها تحاول أن تحشد؛ مِن أجل المواجهة.

 

– مع ما تقول فَــإنَّ أمريكا تشعُرُ بشيء من العجز عن مواجهة الروس والصينيين؟

الواضحُ رغم خبث الرأسمالية، فَــإنَّ أمريكا تقود نظاماً دوليًّا هَشًّا بدأت تتداعى أركانه وهو يتشبث بالوجود ليس أكثر.

أمريكا لم تعد كما كانت بالأمس؛ فهي اليوم تواجه مشروعاً عالميًّا متعدد الأقطاب تقوده روسيا والصين، وقد لاحظنا حجم التململ في العالم بعد حرب أوكرانيا وتداعيات الاقتصاد والنظم العامة في جزيرة القرم ومدى تأثر مجموعة الست مما يحدث في أوكرانيا.

ما يحدث في المنطقة العربية ليس أكثر من هروب أمريكا من هزائمها المتوالية في مواجهة هذا المشروع، وقد دل التخبط وعدم الانتظام في مواقفها، وفي سياستها على الصدمة الكبيرة من انفراط العقد الذي كانت تحكم سيطرتها عليه في العقود الماضية، كما دل انتقال أمريكا إلى المشروع الاجتماعي لما بعد الحداثة على حالة تناقض وتضاد مع المجتمع التقليدي القائم على المبدأ والقيم.

كلّ المعطيات التي تنتهجها أمريكا اليوم سواءً على المستوى السياسي أَو الاجتماعي أَو العسكري أَو الثقافي تفضي إلى التفكك والتشظي والانقسام، ولن تكون رقماً كَبيراً في المستقبل المنظور؛ فالتأثير في المستويات الحضارية سيكون لجهات ذات تأثير كبير هي اليوم في طور تمتين الرؤية الأخلاقية والقيمية التي تحفظ للإنسان كرامته، في حين تذهب أمريكا إلى تحلل فكرة القيم بالاشتغال على فكرة مجتمع ما بعد الحداثة القائم على الحرية المطلقة وحيوانية الإنسان التي تحط من قدره، وهذا تجديفٌ ضد فطرة الله في خَلْقِه، وهو أمرٌ ترفُضُه الكثير من الشرائع، ويرفُضُه الإنسانُ نفسُه؛ لأَنَّهُ لا يتسقُ مع فِطرته.

 

– من سيستفيد من سقوط أمريكا في المستنقع اليمني.. إلى جانبِ الروس والصينيين؟

يمكن القول إن ثمة مصلحةً ستكون لروسيا والصين، ومعهم الهندُ كقوىً تشكِّلُ محوراً جديدًا مهدِّداً لأمريكا واقتصادها.

 

– ما موقعُ أُورُوبا العجوز من كُـلّ هذا؟

أُورُوبا أصبحت كتابعٍ أمين؛ فهي مظلة أمريكا في مجموعة الست زائد واحد، وهي تدير مصالحها.

مع هذا أُورُوبا ارتبطت بمصالحَ مع النظام الدولي الرأسمالي، وهذا أمر منطقي ووارد، وكلّ دولة معنية أن تبحث عن مصالح لها في الواقع الجديد، ووفق معطيات هذا الواقع لا قلق عليهم؛ فالخوف والقلق على العرب الذين لا يفكرون ولا يصنعون مستقبلاً مؤثراً في المستويات الحضارية للبشر.

 

– على ذكر تحالفِ العدوان الأمريكي السعوديّ.. أين تبخر ذلك التحالفُ والذي كان عدواناً صريحاً بحق اليمن؟

تحالف العدوان الأمريكي السعوديّ كان غطاءً هدفُه إحداثُ الاضطراب في اليمن، حتى يتمكّنَ الصهاينةُ والأمريكان من فرض حركةِ التوازن في طرق التجارة العالمية بعد أن استطاعت الصينُ التواجُدَ في الطرف المشاطئ لليمن على البحر العربي، واليوم ظهرت أمريكا و”إسرائيل”؛ ولذلك فالمعركة هي نفسُها سواءً أدارها التحالف العربي أم أدارتها أمريكا بشكل مباشر، بدليل أن الجُزُرَ بيد من يديرون المعركة اليوم بشكل مباشر مثل سقطرى وميون وغيرهما من الجزر الاستراتيجية، نحن أمام معركة دولية بكل المقاييس، واليمن فرضت عليها الجغرافيا أن تكون الواجهة، وهي أمام مهمة تاريخية ستقوم بها نيابةً عن العرب وعن المسلمين في معركة الوجود، وكلّ دلائل الواقع تثبت أنها قادرة بالإيمان وبالمتوفر من الإمْكَانات على فلسفة وجودها على خارطة الحياة.

 

– يمكنُنا القولُ وفقَ رؤية القيادة الثورية والسياسية إننا أمام مشروع دولة جديد يتجاوز صراعاتِ التاريخ المذهبية والقبلية والمناطقية.. أليس كذلك؟

نعم، لكن لا بُـدَّ لنا أن نقفَ أمام القضايا الكبرى، لا بُـدَّ من الحديث عن التطورات الاجتماعية، والثقافية، وجدلية الاندماج الاجتماعي، والاندماج السياسي للجماعات والأحزاب والطوائف؛ فهي من ضروراتِ اللحظة، فالعقلُ الاجتماعي والعقل الفلسفي لم يخض في تفاصيل الحركة الاجتماعية حتى لا تعيدَ إنتاجَ نفسها، من خلالِ الاشتغال على التفكيك في البنى التقليدية؛ فالماضي يتشبث بوجوده، ولا بُـدَّ من البحث عن وسائلَ مُثْلَى لدعم التسامح، وقبول الآخر، والاعتراف بوجوده، والتعايش معه، واحترام معتقداته وثقافته، ولعل البحث عن تلك العلاقات الشكلية بين مكونات المجتمع المختلفة والدولة وفق المفهوم الجديد الذي أفرزته وتفرزه حركة المجتمع يقود إلى الحديث عن دمج كُـلّ الفرق والجماعات والأحزاب في إطار المفهوم الجامع الشامل الذي تستظله عبارة “المواطَنة المتساوية”.. نحن نحتاج إلى إثارة السؤال إن أردنا يمنًا جديدًا.

 يُستكمَلُ الحوار في عدد الغد

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com