(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)

 

العلامة محمد المطاع

هذا العنوانُ العظيمُ اخترته ليكونَ عنوانًا لحديثي؛ فالحكمةُ تاجٌ على رؤوس السائرين في رِكابِ الأنبياء والمرسلين، وهي حق من حقوق الله يمنحها لمن أراد من عباده الصالحين، والذين هم أهل لها، ومن هدي إليها فقد اهتدى إلى سواء السبيل، لعلمي أن خلق السموات والأرض لحكمة، وخلق الثقلين الجن والإنس لحكمة، وخلق الأرض وما أودع فيها من مقومات الحياة لعبيده البشر لحكمة، ومن هذه الحكمة البارزة أن خلق اللهُ نبيَّ الله آدم منها وقال في محكم القرآن: (خَلَقَ الْإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)، (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)، ومن الحكمة في خلق الأرض تسلسل الحياة فيها إلى يوم القيامة، ووجد فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ العين، وكلّ مقومات الحياة، وقد قال في محكم كتابه العظيم: (وَالأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُـلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)، وقال في محكم كتابه أَيْـضاً عن الأرض: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، ومن حكمة الله سبحانه أن جعل للإنسان الأرض مائدة يسكن فيها ويعيش فيها ويتمتع بخيراتها وقد ولد منها ويموت فيها ويحيا فيها، وكلّ ما أوجده الله في الأرض وما في السماء وما بينهما لحكمة، وقد تختفي على البشر هذه الحكمة إلا من أحبه الله فمنحه هذه الحكمة فَــإنَّه قد يعلم الكثير منها، ولا يحيط بها بكاملها علماً إلا خالقها.

وقد لاح لي في الأفق أن قائدَ اليمن قد منح هذه الحكمة، وهي لا تخفي نفسها فيضيء نورُها بالقول والفعل والصدق والزهد والشجاعة والحكمة وقد برزت كلها وأكثر منها في هذا القائد، والعلم الحقيقي هو عند الله، وَإذَا نظرت بإنصاف في هذا العالم وجدت أن شخصاً واحداً هو قائدُ اليمن قد مثَّل الإسلامَ خيرَ تمثيل.

ومنذ أن تولى الحكم في اليمن غير الوجه الكالح المظلم، وما قام به ويقوم في مناصرة المظلومين في فلسطين وفي غزة بالذات، وما يطمح إلى إصلاح اليمن وتصفيته مما بقي من إدران الماضي؛ لكونه صادق وأمين وعفيف وشجاع وحكيم، لذا فقد مال إليه اليمن ورفع صوته بالولاء له والسير في خطاه.

وبما أن حديثي هو عن الحكمة فقد شم رائحتها بعضُ رجال اليمن وبعضُ نسائه ممن اهتدوا بهدي القائد، وظهرت هذه الرائحةُ الطيبة في بعض خطباء المساجد وفي مقدمتهم مفتي اليمن شمس الدين بن شرف الدين -حفظه الله وعافاه-، وقد علقت الحكمة في المجاهدين في الجبهات، ظهرت في تحويل رجال العدوّ إلى أشباه الرجال في الهرب من الزحف، وفي النساء التي برزت فيهن الحكمة في جهادهن، وجهادهن هو تضميد الجراح وصنع الطعام وحمل قرب الماء في أحضانهن وهذا البروز ظهرت تحت مسميات الزينبيات؛ فهنيئًا للرجال والنساء بالجنة، والتي بها حور مقصورات في الخيام لم يمسسهن إنس قبلهم ولا جان، كأنهن الياقوت والمرجان، والنساء حظهن من الجنة حظ الرجال؛ لأَنَّ عدلَ الله يمنح المؤمنين والمؤمنات على حَــدٍّ سواء، كيف لا وهن مجاهدات أما إذَا حملن البندقية للضرورة فقد أحاط بهن الشرف، والشرف لا يجتمع مع الإثم، لا يجتمعان ولا يلتقيان.

والمنابر لها رسالة قد ترقى إلى ما يشبه الفتاوى ولها شروط ومواصفات خَاصَّة مهمتها أن تصلح المجتمع ولا تفسده، وأن تجلب السامعين إليها وأن تكون لُغتها لُغة القرآن والسُّنة النبوة التي تتفق مع القرآن، وأن تتسلح باللغة العربية وأن تعيش الواقع التي تحيط بها فاذا كان الواقع ملتهباً فَــإنَّ عليها أن تدعو المجتمع إلى الجهاد والتضحية والدفاع عن الدين وَالوطن والعرض وعن الثروة وعن الحق والعدل الذي لا حياة بدونها.

أما المنابر التي لا تعرف رسالتها فنسأل الله لها الشفاء والعافية من مرضها، وعلى المنابر أن تبتعد عن التكرار الذي لا طائل تحته فتكراره يأخذ مساحةً كبيرةً وهو غير مجدٍ وممل والمفروض أن يحل محل التكرار ما يفيد المجتمع ويهتدي به.

قد يقول قائل ممن يرغب في التكرار: إن في القرآن تكرارًا. نقول له: ليس في القرآن تكرار إلا في سورة الرحمن، والتكرار فيها محسوم لا يأتي فيها التكرار إلا وفيها حكم عظيمة لما سبق التكرار حينما يقول الله فيها مثلا: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).

وحين يقول فيها: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)، (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ)، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، ففي هذا التكرار تعظيم لما سبق هذا التكرار، وحيناً يقول في القرآن العظيم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)، ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

وهكذا في القرآن عندما ينطق عن الكافرين والمنافقين يتبعه في النطق عن المؤمنين؛ ليبين الفرق الشاسع بين الحق والباطل، لكن التكرار غيرَ المرغوب هو الذي يوجِدُ المَلَلَ ويأخذ المساحة على حساب ما يفيد.

فالمنابر ليس لكل من هب ودب وعلى من يعتليها أن يبينَ للسامعين أن الشريعةَ الإسلامية كُـلٌّ لا يتجزأ؛ فلو صام الدهر كله وكان فطوره من المال الحرام فصومه لا ينفع، ولو اعتكف في المسجد ليلاً ونهاراً وهو يأكل أموالَ الضعفاء من الرجال والنساء فلا ينفعه الاعتكاف، ولو تفرّج على الظلم رأيَ العين كما هو حادثٌ اليوم في غزه ولم يغيّره فَــإنَّه مشارك في الظلم وكان قادراً على إزالة هذا الظلم ولو اشترك في القتل بشطر من كلمة اقتل وقال: “اق”. كان شريكاً في القتل.

على المنابر أن تؤدي رسالتها كاملة، وعلى كُـلّ رجل وامرأة ممن اكتمل بهم الرشد أن يشكُرَ اللهَ على ما أنعم عليهم، وسوف يمثلون بين يديه، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلَّا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

والله -سبحانَه- هو أحكم الحاكمين، وأرى أن يفتح معهداً لتدريب الخطباء ويتخرج منه الخطيب الذي يعرف مسؤوليته في بمواصفات خَاصَّة، ولو ألمحنا إلى بعض الخطباء في الماضي البعيد لوجدنا بعض الخطباء يعظمون هذه المهنة حتى قال البعض منهم ليس الخطابة عصيدًا ولا طلوعاً على المنابر ثريدًا، وقال بعضهم شيبت بي المنابر؛ فالمنابر تحتاج إلى جهد وإلى مراجعة وهي تشبه إلى حَــدٍّ بعيد عند بعض السامعين إلى الفتاوى يأخذونها مأخذ الفتاوى، وكم هو محتاج الريف اليمني إلى منابر تؤدّب الكثير منهم وترشِدُهم وتبعِدُهم عن الظلم الذي يمارسونهُ وعن القواعد الظالمة التي يصيغونها بينهم وهي مخالفةٌ لشرع لله وأن بعضها جاهلية، ولو علموا فائدةَ هذه المنابر وأنها تدلهم على الخير وتبعدهم عن الشر لحمدوها ورحبوا بها وترشدهم بأن يخفِّفوا من الخصومات والتردّد على أقسام الشرطة والمحاكم، وأن يتقوا اللهَ في حقوق المالكين، ويقرأ الخطيب ولو في الشهر مرة سورة الزلزلة عسى أن يرتدعَ الطامعون عن أكلِ الحرام.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com