الخروجُ اليماني العظيم

 

المسيرة| د. محمد البحيصي*

بات الخروجُ الذي يُشبِهُ زحوفَ الحشر علامةً مميَّزةً للشعب اليمني العزيز، وظاهرةً يمنيةً بامتيَاز.

ربّما خرج الناسُ هنا وهناك في مناسبةٍ أَو أُخرى، ولربّما احتشدوا في هذه الساحةِ أَو تلك بتكليفٍ من جهةٍ عُليا في نظام ما وتحتَ مراقبة ومتابعة للحضور الذي يوفّرُ لهم وسائطَ النقل مجيئاً وانصرافاً، ولربما زِيْدَ على هذا وجبة سريعة أَو قارورة ماء؛ تحفيزاً لهم؛ كي يحضروا.

الاجتماعُ في حَــدِّ ذاته حين يكون حشراً يعدُّه البعضُ مؤشّراً على شعبيّة من دعا إليه، ولربما وُصِفَ بالاستفتاء على القضية التي احتشد الناس لها.

ومن هنا كان الاجتماعُ للصلاة من أعظم الشعائر التي يُقاس بها إيمانُ والتزامُ المرء المسلم لدرجة جعلها من أول ما يُسأل عنه في حسابه الأُخْرَوي، وأنّها عمودُ الدين، وهذا يُقالُ في الجمعة، حَيثُ يجتمع المصلّون في المسجد الجامع وراء خطيب واحد وإمام للصلاة واحد، ويعظُمُ الحال في ركن الحج ومناسكه المعظّمة، حَيثُ يلتقي المسلمون الآتونَ من زوايا الأرض الأربعة ويجتمعون في صعيدٍ واحدٍ بلباسٍ واحدٍ في أجلى مظاهر الوَحدة والتوحيد.

وقُلْ مثلَ هذا في الجهاد، حَيثُ النفير والبعث والصف الواحد والغاية الواحدة.

هذه الشعائر المقدّسة -التي يحبّها الله، وهي محلُّ نظرِه بل ومباهاته لملائكته المقربين- تمثّل المادةَ الأَسَاسَ التي وضعت لتماسُكِ بناءِ الأُمَّــة على المستويَّيْنِ: الفردي والجمعي..، وتعدُّدُ هذه الشعائر وتنوُّعُها فوقَ أنّه تعبيرٌ عن سعة الرحمة الإلهية، واللُّطف الإلهي في تربية النفس البشرية وتزكيتها وسدِّ حاجاتها المتنوعة، وتَجَنُّبِ أن تُصَابَ بالفتور من اعتياد وأُلفةِ النوع الواحد؛ فَــإنَّه بالجمع بين هذه العبادات يجعل منها مثل السبيكة التي تتكوَّنُ من مزيجٍ من العناصر المتآلفة المنسجِمة يشدُّ بعضُها بعضاً ويزيدُ بعضُها بعضاً قوةً وصلابةً.

هذه الشعائرُ، حَيثُ تجتمعُ في الإنسان والمجتمع تزيدُه قوةً ومنعةً وعلوّاً، وشدّةً وصلابةً تتحطّمُ عليها الفتنُ ويُدحَرُ أمامها الشيطانُ وحزبُه، ويغاظُ بها أعداءُ الله.

هذه الشعائرُ المعظَّمةُ منها ما هو يومي ومنها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو حَولي، ويتخللها ما هو موسميٌّ كشعيرة صلاة العيدَينِ؛ فهي متصلةٌ دونما انقطاع، تضيق حيناً، وتتسع حيناً حسبما يقتضيه الشرع، وأساسُ ذلك الاستجابةُ لداعي الله، وتحقيقُ العُبودية له سبحانَه وحدَه لا شريكَ له، وإظهارُ وَحدة الأُمَّــة وقوتها وتماسكها والولاء فيما بين أفرادها وشعوبها وقبائلها تَتَكَافَأُ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم.

وقد جعل اللهُ بين يدي هذا الحشدَ الإيمانيَّ نداءً سُمِّيَ أذاناً، وهو ذكرٌ مخصوصٌ شُرِعَ للإعلام بدخولِ الوقت ودعوة الناس إلى الاجتماع، وهو شعيرةٌ عظيمةٌ من شعائر الإسلامِ.

جاء في تفسيرِ قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}الحج:27؛ أي: أَعْلِمْ ونادِ الناسَ بالحج، والخطاب هنا لإبراهيمَ (عليه السلام)، فقال إبراهيمُ: وما يبلُغُ صوتي؟ فقال: عليك الأذانُ وعليَّ البلاغ، فقام إبراهيمُ (خليلُ الله) على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيُّها الناس، إنّ ربّكم اتخذ بيتاً فحجّوه، فيقال إن الجبالَ تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كُـلُّ شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنّه يحجُّ إلى يوم القيامة “لبيك اللهم لبيك”، قال ابن عباس: “فأوّلُ من أجابه أهلُ اليمن؛ فهم أكثرُ الناسِ حَجًّا” (تفسير البغوي وغيره).

وكأنّي بابنِ عباس (رضي اللهُ عنهما) يشيرُ إلى أهلِ اليمن في أيامنا هذه، وهم يستجيبون لداعي الله عَلَمِ الهُدى؛ نُصرةً للمستضعفين في غزة وفلسطين، ويُقِيمون على المسلمين الحُجَّـةَ في خروجِهم العظيم، حَيثُ لا عُذْرَ لأُولئك المخلّفين الذين هم على شاكلة المنافقين الأوَّلِين في تاريخ الأُمَّــة، أُولئك الذين خَذلوا الحق، واختلقوا الأعذارَ وقلّبوا الأمورَ، وحسبوا أن لا تكونَ فتنة فعَمُوا وصمّوا، “والله بصير بما يعلمون”، وأهل الحق شهودٌ على نفاقهم.

وهنا يجيءُ الخروجُ اليمانيُّ المهيبُ؛ استجابةً لداعي الله العَلَمِ السيدِ عبدِ الملك بدر الدين الحوثي (يحفظُه الله) الذي يقفُ على سبيلِ جدِّه رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو الناسَ إلى الله على بصيرة، بسنده المتّصلِ إلى القرآن والعترة، وهو يقودُ قافلةَ المسيرة القرآنية، وينسج من خيوط الإيمان درعاً سابِغاً يتدرَّعُ به الشعبُ اليمنيُّ، ورايةً مرفرفةً باسقةً هي هُــوِيَّته الإيمانية التي حباه اللهُ بها.

قبلَ عشرٍ من السنين، ما كان أحدٌ إلّا مَن رزقه اللهُ البصيرةَ وتأويلَ الرؤيا يظُنُّ أنّ اليمنَ مُقبِلٌ على حياة جديدة تنبت فيها جبالُه وسهوله كُـلّ هذا النبت الباذخ من العزّة والكرامة، وقد كانت مركوزةً فيه بالقوة، حتى جاء من يخرجها إلى الفعل، وهذه واحدةٌ من ثمرات القيادة الربّانية المسلِمة وجهَها لله في سبيل الإحسان، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبراهيم خَلِيلًا}النساء:125

الخروجُ العظيمُ لأهل اليمن وهم الذين ما برحت الحروبُ تُشَنُّ عليهم من الأقربين والأبعدين، وهم المحاصَرون سياسيًّا؛ فلا أحد من الأعراب يتعاطى معهم على حَــدِّ الاعتراف بهم بينما نرى أُولئك الأعرابَ يعترفون بـ “إسرائيل” ويشرُعون أبوابَ بلدانهم لليهود الصهاينة الغاصبين المفسدين، وهم المحاصَرون اقتصاديًّا؛ فلا أحد يتبادل معهم تجارةً ولا صناعة ولا زراعة، وأكثر من هذا تُفرَضُ عليهم محاصَرة مالية وتُفرَضُ “العقوبات” من الغرب الكافر على كُـلِّ من يعملُ أَو يحاولُ كسرَ هذه الحصارات، ويُدْرِجونه على قائمة “الإرهاب” ذلك التصنيف السخيف، على حَــدِّ قول السيّد القائد.

ومع كُـلِّ هذا؛ فها هو اليمن يحاصرُ حصارَه، ويخرُجُ من كُـلِّ هذه الابتلاءات أصلبَ عوداً، وأشدَّ قوةً، وأمضى عزماً، وأكثر يقيناً، وأوضحَ نهجاً، وأَبْيَنَ قولاً، وأصدق فعلاً، ولا يرضى بأقل من مقام السابقين المتقين مصداقاً لقوله اللهِ عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} آل عمران:172.

ولقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آل عمران:173

فهل مِن مصداقٍ أعظم لهذا التوصيف الإلهي لجماعة من المؤمنين من اليمن ومقاومة فلسطين وغزة وحزب الله..

وبعدَ هذا الانطباقِ في الوصف الذي يشيرُ إلى المقدِّمات؛ فَــإنَّ من الحتميات أن تتحقَّقَ النتيجةُ المترتبةُ على هذه المعادلة أَو السُّنّة الإلهية، وهي: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} آل عمران:174، وهذا الأمرُ هو الذي يُعطِي ليمن الإيمان والمجاهدين كُـلَّ هذه الثقة في الله سبحانَه والتوكّل عليه في كُـلّ شأنٍ من الشؤون، وهو ما لا يفقهُه الكافرون والمنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجِفون في هذا العالم.

* كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com