اليمنُ وفرضُ معادلة الوجود

 

عبدالرحمن مراد

اليومَ نحن أمامَ واقعٍ جديدٍ في اليمن وفي العالَمِ العربي كُلِّه؛ فالذي حدث خلال الأيّام القليلة الماضية في مسارات المعركة في غزةَ ومساندة الجيش اليمني لشعب فلسطين كان تحوُّلاً كَبيراً، وذلك التحول سوف يترك آثاراً عميقة في البناءات وفي مسارات اللحظة والمستقبل، يترك آثاراً على اللحظة من خلال ما يتركه من ظِلال على النظام العام والطبيعي، ويترك ظِلالاً على المستقبل، من خلال ما تقوم به اللحظة من تأسيس لقضايا ستكون هي ملامح المستقبل؛ ولذلك فالصناعة تبدأ من اللحظة التي نعيش ونشهد تبدلاتها وتحولاتها العميقة، سواءً في المسار اليمني أم في المسار الدولي؛ فكلا المسارين يتكاملان ويتركان أثراً واضحًا على الصناعة وعلى المستقيل العربي والإسلامي.

في المسار الدولي اكتشف العالَمُ أن أمريكا كانت تديرُه بالمعامل البيولوجية التي تصنعُ الجائحاتِ ثم تصدّرها لشعوب العالم؛ حتى تتحَرّك شركات الأدوية، وبالخلايا الاستخبارية والجماعات الأصولية الاستخبارية التي كانت تقلقُ السكينة العامة ويقوم الإعلام بصناعةِ هالةٍ لها حتى كادت أن تكونَ تهديداً حقيقيًّا يقلق العالم؛ فتتحَرّك شركات الأسلحة لتجد رواجاً لها في الدول الغنية والفقيرة على حَــدٍّ سوَاءٍ؛ فالخوف يجعلك توظِّفُ الإمْكَاناتِ كلها لتسلَمَ منه ومن عواقبه.

فحين تفرَّد النظامُ الرأسمالي بحكم العالم والتحكم بمصالحه، سعى جاهداً على القضاء على حركات التحرّر أَو ذات النزعة الاستقلالية في العالم أَو في الوطن العربي، وبالرغم من جهوده الحثيثة في هذا الاتّجاه إلا أنه لم يتوقع أَو لم يدر في بال قادة النظام العالمي الرأسمالي أن ثمة صانعًا وثمة قوةً خفيةً عظمى تدير العالم وتحفظ مصالح العباد بقدر كافٍ من التدافع خوف الفساد في الأرض، وهو الأمر الذي نشأ بالتوازي مع حالةِ التفرد بعد انهيار الاتّحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي.

حاولت أمريكا ومن شايعها القضاءَ على الحركات القومية وتفكيك النزعة الاستقلالية وعلى هدم المِثاليات وهدم الإسلام من داخله، من خلال الحركات الأصولية التي تُصنَعُ في الجامعة “الإسلامية” في “إسرائيل” والتي تتبع الموساد مباشرة فيكون أفرادُها قادرين على السيطرة على الوجدان العام، من خلال خطاب العصبية الدينية الذي تنتهجه وتسيطر به على عامة المسلمين، وقد رأينا كيف سيطروا على موجِّهات “الإخوان” وما تناسل عن “الإخوان” من جماعات مثل الجهادية والقطبية وغيرهما من الجماعات الذين نشطوا في اغتيالِ الكثيرِ من رموز التنوير في الوطن العربي؛ خوفَ الوعي واليقظة، فالنظام الرأسمالي يعتبر التضليل وتسطيحَ الوعي بالقضايا المصيرية للأمم طريقاً للوصول إلى غاياته.

ما وصل إليه العربُ والمسلمون اليوم من ذبول وهوان وانكسار كانَ بسَببِ التيه والضياع وتفكك النظام العام والطبيعي والتباس المفاهيم والمصطلحات؛ وبسبب حالة الاستغلال والغبن التي مارستها أمريكا ونظامها الرأسمالي القذر الذي خدع الناس بالقيم والمبادئ وبالحقوق والحريات؛ فكان أبشع وأفظع من انتهكها، ومع التداعيات الجديدة التي سوف تسفر عن واقع جديد في العالم لا بُـدَّ من الانتباه إلى فكرة الصناعة فهي الأقدرُ على التحكم بمقاليد المستقبل، وقبل كُـلّ ذلك نحن بحاجة إلى بناء المؤسّسة الثقافية حتى تواكب المرحلة وتعيد تعريفَ كُـلّ شيء تعرض للهدم والتأسيس للبناء الذي يكون قادراً على فرض وجوده في عالم تسوده الفوضى واللا انتظام.

ويبدو لي أن العربَ في شغل العداوات فاكهون؛ فلا مشروع يلوحُ في الأفق اليوم قادر على دخول المعادلة الدولية وتوازنها الجديد سوى المشروع الإيراني، الذي هو -رغم الحصار الاقتصادي ورغم الاستهداف- قادر على البزوغ والتحدي، وقد يحسن إدارة المرحلة؛ لأَنَّه يقف على أَسَاس حضاري وثقافي متين، كما أنه يملك مفردات اللعبة وإن بدت صغيرة في ظاهرها إلا أنه سوف ينتصر في خاتمة المآل.

المشروع العربي يعاني الضعفَ والوهنَ اليومَ؛ فحركة التفكيك التي اشتغل عليها الربيع العربي، وحركة الانقسامات لن تجعله إلا تابعاً أميناً للقوى العظمى في العالم؛ ولذلك لن يكون هناك أيُّ أثر للعرب في بِنية النظام الدولي الجديد إلا إذَا أعادوا ترتيبَ نفسهم في محور المقاومة الإسلامية الذي تقوده إيران، حينها سيكون للمسلمين شأن؛ لذلك ففكرة القومية العربية لا بُـدَّ أن تذوب في إطار المشروع الإسلامي الجامع فبدونه تصبحُ عدماً وعنصراً خاملاً في معادلة الوجود.

ولعل المعادلةَ الوجودية -التي فرضها الموقفُ اليمني وموقفُ محور المقاومة على وجه العموم- قد قالت شيئاً لمن كان بصيراً وهو سيعيدُ ترتيبَ المشهد كما ينبغي أن يكون عليه، لا كما يحلو لأمريكا والصهيونية، ولعل العالم وقف مذهولاً أمام الضربات البالستية والمسيَّرة اليمنيةِ؛ نُصرةً لأهلنا في غزة؛ فالأسد الجريح الذي يعاني من الجوع والحصار وقد أنهكته الحربُ على مدى عقدٍ من الزمان -وما تزال تراوح مكانها- يقفُ موقفاً بُطولياً خارقاً كالعادة حتى أوقع كُـلَّ نظام عربي عميل في دائرة الحرج.

لقد كان لقائد الثورة وقائد المسيرة القرآنية موقفٌ مبدئيٌّ من القضية المركزية، وكان قوله عند مستوى فعله، وهو أمر لم يعهدْه الناسُ من كُـلّ قادة الأنظمة العربية في كُـلّ المراحل التاريخية في الصراع العربي الصهيوني؛ مما يبعثُ الأملَ بعودة القضايا إلى نَسَقِها الطبيعي، ولا أرى أمريكا ومن بَعدها الصهيونية إلا في مراتبِ خيبة الأمل من أهداف العدوان على غزة وعلى عموم شعبِ فلسطين.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com