يوم العروج ①.. بقلم / زينب المعافا

 

تحت سماء مدينتهِ (خَمِرْ)، وبالقرب من أهله ومحبيه.. عاش محسن!

تلك المدينة التي نشأ فيها، وترعرع وكَبُر حتى اشتد عودهُ!

لقد كانت طفولة محسن كأي طفوله عاديه تخطر في بالك حتماً، لكنهُ لم يكن كأي طفل لم يكن عاديا أبداً..

لقد عاش في أوساط أسرة مجاهدةٍ وكريمةٍ ولو لم تجد في مدحها سوى (محسن) لكان كافياً.. كان الجميع آنذاك وفي تلك الحارة بالتحديد لا يحبون أن يسمعوا الصرخة كانوا كأُولئك الذين جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصرّوا واستكبروا استكبارا..

لكن محسن ببراءته وفطنته التي وهبهُ الله استطاع أن يجعلهم يلتفتوا إليه حباً وجمالاً واستحساناً له..

كانوا حين يرونه يصرخ بحماسٍ كبير يفوق حجمه لا يغادرونهُ حتى يكمل قولهُ بالنصر للإسلام!

فكان بذلك يوصل رسالة هامة دون أدنى جهد وبلا إدراك منه.. لقد كان لديه قبول خاص عند الجميع..

كان محسن طفلاً ذكياً يفوق قرنائه الأطفال.. فقد دخل المدرسة وعمره لا يتجاوز الخامسة، بدأ مشواره الدراسي حينها في مسقط راسه خمر في مدرسة السلام حتى الصف السابع، كان جليساً لأخيه علي الذي يكْبرهُ عاماً واحداً فقط، حَيثُ كان يقضي معظم وقتهِ معهُ.. كان يشاطرهُ كُـلّ ساعاتهِ كان لا يفارقهُ أبداً ولشدة تعلقه فيه كدتَ تحسبهُ ظله..

لقد كانت أخلاق محسن حديث من يعرفهُ.. فقد عُرفَ بنُبلِها ورُقيّها وعُلُوها.. أما إحسانهُ فقد كان له من اسمه نصيب.. كُـلّ من رآه تمنى أن يراهُ مرة أُخرى.. كان محسناً بتعامله مع الجميع ونبيلاً في إحسانه..

أبو حيدر.. هكذا كان اسمهُ الجهادي أخذ من حيدرَ قوتهُ وبأسهُ وصلابته..

أن تجد طفلاً بهيئة رجل.. وصغيراً غلبت عليهِ مبادئه وشهامته وغيرتهُ عُمرهُ!

ورغم محاولات أهله منعهُ بالالتحاق بالجبهة إلا أن إصرارهُ كان أكبر من منعهم!

(حيثُ إن منعهم كان من وارد عمره الصغير!)

لقد كانت بداية جهاده مع أخيه فكان تعلقه وحبه لأخيه ليس عبثاً وإنما طريقاً اختاروه سويّاً حتى الجنه!

لقد كان عليٌّ خليل لمحسن في كُـلّ تحَرّكاته وانطلاقاته ودوراته الثقافية حتى استشهاده!

كانت بداية انطلاقتهم داخل المديرية (خمر –عمران)، حَيثُ كانوا يزورون المقرات ويأخذون فيها دورات ثقافيه! كانوا يستمعون لمحاضرات السيد القائد وَأَيْـضاً الشهيد القائد والتي كانت تتحدث عن فضل الشهادة والجهاد في سبيل الله.. فكان لها الأثر العظيم في نفوسهم والسبب الأكبر في انطلاقتهم..

وكأن لسان حالهم يقول: ”ما كان عندي معرفة بالله من قبل اعرفك، ومن لقيتك فـ (الملازم) يا حسين لقيتها، وكنت اعيش أزمة ثقة بالله وانت بموقفك، يا سيدي صلى عليك الله ذي حليتها!“.

وفور بدء العدوان تجاوزت تحَرّكاتهم خارج المديرية.. وُصُـولاً جبهة إب وتليها عتمة ومن ثم الضالع فتعز، واخر جبهه وصلا إليها كانت جبهة حيس.

لم تقتصر تحَرّكات محسن في جبهه واحده فقط بل كان كثير التنقل وكان مسارعاً في تحَرّكاته وجهاده لم يكن ينتظر موعظةً أَو تحشيداً أَو داعياً.. بل كان يشعر بالمسؤولية الكبيرة تجاه دينه ووطنه وواجباته نحو الله..

أن تجد طفلاً لم يتجاوز سن الخامسة عشر بهذا النضج والوعي وكأن الله جنّده لهُ ومعهُ وفي سبيله لهو أمرٌ عظيم!.. وتلك ما هي إلا علامات الاصطفاء ليستحق أن يكون بهذا جندياً لله..

لقد كان محسن سبّاقاً في عطائه.. صبوراً لا تزيدهُ الأيّام إلا إصراراُ على أحقيّه موقفه!

في جبهة تعز بالتحديد في إحدى المرات وهو ذاهب حتى يمدَ رفاقه بمددٍ أرادوه.. جرحَ محسن وكانت جراحاته حينها خطيرة جِـدًّا أَدَّت إلى فقدانهِ وعيهُ، لم يكن محسن وقتها يمكنهُ التنفس.. ولأنهُ كان رفيقاً دائماً لأخيه قام علي في ذلك اليوم باستدعاء الإسعاف الحربي.. ليأتي الإسعاف ويتم إسعافه إلى مستشفى المحافظة، حَيثُ قاموا بعمل تنفس صناعي لهُ فحالته كانت صعبةٌ جِـدًّا ليستكمل علاجه بالعاصمة صنعاء فيما بعد..

وبينما أنها لم تشفى جراحهُ ولم يستعد عافيتهُ وكامل صحته، عاد أبو حيدر (محسن) إلى مكانه من جديد المكان الذي يرى فيه سعادتهُ وراحتهُ ومستقرة لم تمنعه جراحاته من المواصلة والسير على نفس الخط.

هذه المرة عاد إلى خمر وأصبح مدداً هناك، واستقر فيما بعد في مهلهل ومن بعدها ذهب إلى مأرب ثم إلى إب ومن ثم إلى نهم فصنعاء ثم الجوف وأخيرا جبهة تعز، حيثُ إنه جرح هناك ثلاثٍ من المرات..

كان كُـلّ جرحٍ فيه يقويه ويصنع منه شخصاً آخر تماماً.. لم يتخاذل ولم يتوانى.. محسن لم يتعب أَو حتى يشعر بالملل فالغاية كبيره وتحتاج مجهوداً أكبر..

كانت جراحاته تطهرهُ وتنميّ داخله حب الجهاد وتصنع منه رجلاً مدافعاً عن عرضه وشرفه ولا تزيد فيه إلا صبراً وصلابةً وقوه.. لقد كان دائماً وفي أشد أوقات ضعفه يشعر بالقوة والعزة والنصر..

لقد كان محسن في ذلك اليوم بالقرب من الموقع الذي يتواجد فيه “علي”، حيثُ إن علياُ في ذلك اليوم قد ذهب لإيصال المدد لإحدى الجبهات هو وعدد من المجاهدين..

وحين عودتهم أراد علي النزول والبقاء تحت إحدى الأشجار مع أحد رفاقه.. بينما بقيه المجاهدين واصلو السير ليدخلوا الجرف وسماع محاضره للسيد القائد..

لكن هذه المرة لن يكون الجلوس تحت الشجرة طويلاً فالأعداء متربّصون ومن تغلب نفسيّاتهم السيّئة مبادئهم متربصون أَيْـضاً..

لقد تم إبلاغ طيران العدوان بالمكان الذي يجلس فيه علي!

هذه المرة لم تكن الغارة مصادفةً أَو حدساً وإنما بلاغاً قاصداً ومتعمداً..

تأتي أول غارة.. فيملأ الغبار جميع أنحاء الموقع وتحترق أغصان تلك الشجرة التي ظللت علياً ورفيقه.. !

لقد ساد الهدوء المكان واجتمع الرفاق ومنهم محسن فقد عرف أن الغارة أتت قاصدةً أخاه.. ليقترب محسن من المكان فيرى علياً قد خضبتهُ الدماء وغطى وجههُ البشوش وملامحه الهادئة أثر الغبار.. لم يكن سهلاً على محسن أن يرى ذلك الموقف أمام ناظريه دون أن يصنع شيئاً لأجل أخيه، فحاول إسعافه رغم منع عليٍ لهُ، ورجائهِ لمحسن أن يبتعد عن المكان وأن يرجع من حَيثُ أتى قائلاً له: (ارجع الطيران سيعاود القصف واحد ولا اثنين! ابقى أنت ما عاد إلا أنت).. !

أمّا محسن في ذلك الحين لم يكن ليبالي بكلام علي أَو أنهُ وقتها لم يكن يسمعهُ فروحهُ أبت إلا أن تبقى مع روح أخيه!

لم يكن هذه المرة مُحسِناً، بل كان عبّاساً!

فقد تقدّم بخطوات تملأها الرجاء والثقة بالله أن يحمي أخاه! أخذاً بكلتا يديه جسد علي حتى وصلا على متن الطقم لتأتي الغارة الثانية فتحوّل ذلك الطقم ركاماً وترتقي أرواحهما الطاهرة معاً.. بنفس اللحظة والدقيقة والثانيه.. اختلط الدمُ مع الدم.. وتلاقت الأمانيّ.. فعباسٌ قد ضحى لأجل حسين!

ليجسدا بذلك أعظم موقف في الأخوة الإيمانية، ليكونا بذلك نور الله في الأرض ورحمة الله علينا في بؤس هذا العالم..

لقد سطروا بدمائهم ملاحم لا تمحوها الأيّام ولا تبليها الأعوام..

أما بعد شهادة هؤلاء.. فحقهم علينا جميعاً أن نُنْصفهم وأن نكشف للعالم وجوههم المنيرة، وحقائقهم الصافية، وعطاءاتهم العظيمة، حق الشهيد على الأمه أن تعرفهُ؛ مِن أجلِها لا؛ مِن أجلِه!

لم تكن الحياة يوماً هدفاً لهم أَو غاية كانت أرواحهم ترمقُ شيئاً أكبر وتهفو لما هو أبقى وأعظم!

واذا أطلت ناظراً أعينهم ستجد ملامح النصر تتجلى واضحةً!

لقد رسموا لنا لوحةً فنيةً في التضحية والإباء والصدق والحب ما عجز عن رسمه من يملكون الحس الفني بكل أدواته.. وأضاءوا لنا الطريق بعد أن كان مُعتِماً.. وإن الشمس لتخجل أن تقف في حضرتهم فنورهم قد طغى جميع أنوار الأرض..

في الشهداء ستجد دروساً عظيمة لن تجدها في أعظم جامعات العالم.. هم منهجٌ بحد ذاته ودستور حياة وقرآن يسير في الأرض.. ربّما بعض الشهداء لم يتعلموا في المدارس ولافي الجامعات..

ولكن كانوا طلاباً في مدرسة الاصطفاء الإلهية.. في مدرسة الشهادة فتجد في وصاياهم ما يلامس القلوب أكثر من نظم الشعراء وترى في وصاياهم إرشادات لم يذكرها الحكماء..

أن تبقى لدقائق في حضرة الشهيد متأملاً عطائهُ اللامتناهي وتضحيتهُ الجبّارة وصدقهُ وعظمة وفائه لهو أعظم لك من كُـلّ ساعات الدنيا التي تمرُ عليك..

باعوا أنفسهم واللهُ أشترى فنعمَ البائع ويا لعظمة الذي اشترى..

التجارة الوحيدة التي يسودها الربح والفوز والنجاة وتنتهي بمكسب عظيم!

إنهم كانوا الأكثر فهماً للدنيّا وحقيقتها.. فلذلك رحلوا منها شهداء..

فسلام الله على الشهيد محسن زيد محسن زيد الغيلي (أبو حيدر)..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com