بين جمال خاشقجي وناصر السعيد: إنه الأسلوب الخاص بمملكة الصمت والذهب! بقلم/ طلال سليمان

عادت إلى ذاكرتي، عبرَ متابعتي “قضية” جمال خاشقجي حادثةٌ مشابهةٌ جرت بالقُرب من مكاتب “السفير” في بيروت مع المعارض بل المناضل السعوديّ ناصر السعيد.

كان ناصر السعيد صديقاً حميماً، وقد التقيته مراراً في القاهرة حيث كان يقيم كلاجئ سياسي.. ثم جاء وقته بعد ثورة اليمن (السلال) في 26 أيلول 1962.. فبعثت به القاهرة إلى صنعاء، حيث تولى الحملةَ على حكام السعوديّة، وهو يعرف الكثيرَ من مآثرهم، أيام كان قائداً نقابياً، ثم مناضلاً سياسياً، قبل أن ينجوَ بجلده فيطير إلى القاهرة..

ومن مآثر هذا المناضل الذي لا يتعب أنه اكتشف بينما كان يجولُ في القاهرة أن ثمة شارعاً باسم الملك عبدالعزيز آل سعود.. فبادر إلى إرسال برقية إلى محافظ القاهرة يطالبه فيها بحذف اسم “هذا الخائن” فوراً. لكن المحافظ لم يهتم لبرقية تأتيه من مجهول، فما كان من ناصر السعيد إلّا أن أبرق إلى وزير الداخلية، ثم إلى رئيس الحكومة، وأخيراً إلى الرئيس جمال عَبدالناصر.. ولا جواب. على هذا فقد توكل ناصر على الله، وحمل على سيارته سُلَّماً وذهب ومعه سطل من الدهان، وأوقف سيارته في أول الشارع المعني، ثم ارتقى السلم وباشر تغيير اللافتة إلى “شارع الجزيرة العربية”..

جاء الشرطي فاستغرب المشهد، وصاح بناصر: بتعمل ايه يا جدع؟!

رد ناصر من دون أن يتوقف عن العمل: وانت مالك، امشي.. هيا!

قال الشرطي لنفسه: اكيد، ده مسؤول.. طيب، وانا مالي صحيح؟!

لكن “الأجهزة” تحَرّكت بعدئذ، فهرب ناصر السعيد، وظل أول الشارع بلافتة جديدة، وآخره باللافتة الأصلية.

بعد أن استقر ناصر السعيد في بيروت، ونشر فيها كتابَه الأخير عن “تأريخ آل سعود”، ظل يتردّد على “السفير” برغم نصائحي بالتستر وعدم الظهور إلّا في حالة الضرورة القصوى..

ذات يوم، جاءني المرحوم سمير فرنجية، فرحّبت به صديقاً جاء يطمئن عليّ في “السفير”.. غير أن سمير فرنجية فاجأني بأنه على موعد مع ناصر السعيد..

وبالفعل، وصل ناصر بعد دقائق، وقد “تنكر” في “ملابس عربية”، وأخفى بعض وجهه بالكوفية، فصرختُ به: وتعطي مواعيد عندي أيضاً ومن دون علمي؟ ماذا بوسعي أن أفعل مع مطارديك، وهل تظن قد تخدعهم بهذا التنكر؟..

تركتُه مع سمير فرنجية، وعدت إلى عملي، بعدُ حين جاء فودعني وخرج من المبنى الذي كانت فيه “السفير”، وهو غير بعيد عن مبناها الحالي.

في اليوم التالي سرت شائعةٌ عن اعتقال ناصر السعيد.. ثم تأكّد الخبر، وثبت أنه كان “لأبي الزعيم” يد في الاختطاف، ونقله إلى المطار حيث كانت طائرة سعوديّة تنتظر فأقلته على عجل، ثم اختفى وكأنه لم يكن.

وقيل إن من في الطائرة قد ألقوه منها، وهو مكبَّل اليدين، فوق صحراء الربع الخالي..

*****

نتمنى، من صميم القلب ألّا يكونَ مصير جمال خاشقجي مماثلاً لمصير ناصر السعيد.. خصوصاً وأن ولي العهد الذي بلغ به النفاقُ اللازم لنجاح المؤامرة، أنه نزل بجلال قدره ليقبلَ قدمَي ولي العهد الأصيل، الأمير محمد بن نايف، قبل أن يخلعَه، ويزج به في السجن، بينما أكرم أمراء آخرين، وصفوة من رجال الأعمال فسجنهم في فندق “الريتز” وهو أحد أفخم الفنادق في العالم، ولا تغير الفخامة طبيعة السجن، خصوصاً وهو يحمل عنوان ظلم ذوي القربى، وهو أشد مضاضة من وقع الحُسام المهند!

هل نقول: رحم الله جمال خاشقجي، كما ترحّمنا على ناصر السعيد؟! نتمنى ألّا يكون ذلك قد حدث.. لكن الأمل يكاد يكونُ معدوماً!

متى تتخلص هذه الأمة من حُكّام الظلم والظلام، والقتل غير المبرّر، وسرقة الكعبة وسائر ما تحتويه الأرض المقدسة التي تزال منها، ومن مكة المكرمة خَاصَّـة، ما يشهد لها بتأريخها الذي لا مثيل له ولا شبيه!

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com