وقفةٌ مع بعض معالم القيادة في شخصية الإمام الهادي

عبدالرحمن محمد حميد الدين

تُعرَفُ القيادةُ بأنها: “الفَـنُّ الذي تستطيعُ بواسطته التأثيرَ على الآخرين؛ لتوجيههم إلى هدف معيَّنٍ بطريقة تحصل بها على ثقتَهم، واحترامَهم، وطاعتهم، وتعاونهم المخلص”[1].

وكان الإمامُ الهادي يحيى بن الحسين (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) يتقِنُ هذا الفنّ بجدارة عالية جدًا، وذلك من خلال امتلاكه للمؤهلات القيادية في كافة جوانبها، وكذلك من خلال سيرته العظيمة التي أسس فيها لمرحلة إسْــلَامية جديدة، ولمنعطف كان له أثرُهُ الكبير والإيجابي على الجزيرة العربية خَاصَّـةً، وعلى العالم الإسْــلَامي عامة.

لقد قاد الإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) أَكْبَــرَ وأعظمَ ثورة ثقافية واجتماعية وسياسية وعسكريّة في تأريخ الإسْــلَام، ولولا حنكته السياسية وتكتيكاته العسكريّة التي تَــدُلُّ على نضج القائد، وحكمته، بالإضَافَـة إلى سعة علمه، وورعه، وتقواه، وشجاعته، لما تحقّـق أي تغيير يُذكر في اليمن.

ويشهدُ الواقعُ اليمني الذي ينتهجُ الإسْــلَامَ الأصيلَ، على أنّ الإمامَ الهادي كان أنجحَ قائد عرفه اليمنيون، والذي لا تزال بركاتُه في اليمن حتى اليوم، وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن الجانبين: الإداري والعسكريّ للإمام الهادي في إدارته للدولة الإسْــلَامية، ولو بشكل موجز.

 

الإمامُ الهادي واهتمامُه بالرعية وإصلاح ذات البين:

كان الإمامُ الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) على غاية من العلم، والورع والتقوى، والشجاعة والمقدرة العسكريّة، وقد اجتمعت في هذا الإمام العظيم معالمُ الكمال القرآني فيمن يتولى شأن أمر هذه الأمة، فكان يراعي حقوق الله وأحكامه بلا تهاون ولا تساهل، ويرعى الأيتام ويحدب عليهم، وفي كثير من الأحيان يطعمهم بنفسه، ويفت لهم الطعام بيديه الشريفتين، ويتفقد المساكين والضعفاء، ويسهر على تنفيذ الأحكام وتطبيقها. وهذه الخصال لا نجدها على الإطلاق في حكام وأمراء الأمة، وكما يقول الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) في الدرس الثاني من دروس سورة المائدة: “من يهمه أمر فقير هو من سيهمه أمر الأمة كلها، فيعمل على أن يوفر لها ويؤثرها على نفسه في جميع شؤون حياتها، على يد مثل هذا يتحقّـق بناء الأمة، تأتي المشاريع، تأتي الخدمات على أرقى ما تكون عليه، والواقع يشهد بهذا”.

ومنذ مجيء الإمام الهادي إلى اليمن، وهو يعملُ في أَكْثَــرَ من مسار لإصلاح شأن القبائل اليمنية، فعمل على لملمة شعثِها، وإصلاحِ ذات البين، وعمل على تصحيح الواقع الثقافي المغلوط الذي تأثر بالأفكار المنحرفة، والحركات الدخيلة على الإسْــلَام، كما عمل في نفس الوقت على الاهتمام الكبير بالفقراء والمساكين.

وكان (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) في كثيرٍ من الأحيان يأمُرُ بعضَ أعوانه أن يُنادِيَ في الناس ممَّن له حاجة، أَوْ مظلمة، حيث يقولُ علي بن محمد العباسي العلوي نقلًا عن أبيه: “رأيتُه وقد صلى الجمعة ثم انصرف، فقام رجلٌ قد أمره أن يُنَادِيَ في المسجد: أين الفقراء، أين المساكين، أين أبناء السبيل، أين مَن له حاجة؟، هل من سائلٍ فيُعطى، أَوْ طالبِ حاجة فتُقضى؟ فقام رجلٌ غريب، فقال: يا ابنَ رسول الله أنا عُريان، فوقف معه طويلاً في المسجد حتى تكلمَ بجميع ما أراد، ثم أمر له بكسوة ونفقة سابغة ثم انصرف”. [2]

وهناك الكثيرُ من المواقف التي تشهدُ للإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) على اهتمامه بأمر الناس، وعلى قدرته العالية على التوفيق بين القبائل اليمنية المتناحرة، والتي عشعش الثأر فيها لعقود طويلة، حتى جاء (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) وكان إصلاح ذات البين أولوية من أولوياته، وننقل للقارئ الكريم أول عملية للمِّ شعث القبائل في محافظة صعدة والتي كان لها شرف الاستجابة ومن ثم القتال بين يدي الإمام (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ):

حيث يقول محمد بن عبيد الله العلوي – ابن عم الإمام وأحد رفاقه -: “وصلنا إلى صعدةَ لستة أيّام خلونَ من صفر، سنة أربع وثمانين ومائتين، فقدّمنا على خولان وبينهم فتنة عظيمة، قد فُني فيها الرجال وذهبت فيها الأموال، وقحطت البلد، وجدبت الأرض، وكان ذلك وقت الزرع، فرأيت الزروع قد يبس بعضها عطشًا، ورأيت البهائم تهافت موتًا. فلما قرب يحيى بن الحسين من البلد، ضرب مضاربَه قريبًا منها، وأمرنا بالنزول فيها، فنزلنا، وخرج الناس إليه طوعًا، لم يُكره أحدًا إلى الخروج إليه، ولم يرسل لأحد يستقبله، فخرج أهلُ صعدة الذين كانت بينهم الفتنة، وهم: سعد والربيعة، والتقوا بأجمعهم إليه، وسلموا عليه، فسلم عليهم، وأمرهم أن يسلم بعضُهم على بعض.

ثم ابتدأ فخطب خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وذكَّرهم بالله، ووعظهم بمواعظ كثيرة، فرأيت الناس وبهم رجَّة، وهم يبكون مما سمعوا من كلامه ومواعظه، ويضجّون كما يضجّ الحجاج عند بيت الله الحرام، ثم أمر بمصحف، فاستحلف بعضّهم لبعضٍ بترك الفتنة والعداوة، فحلفوا على ذلك، ثم أحلفهم هو لنفسه على الطاعة له والمناصرة والقيام بأمر الله والمعاضدة، فبايعوه في موضعه ذلك، واختلط الفريقان جميعًا، وكبَّروا ودخلوا بأجمعهم صعدة كأن لم يكن بينهم فتنة، وكأنهم إخوة!!…”، إلى أن يقول الراوي: “ولقد خبرني جماعة من أهل صعدة، منهم: الحسين بن علي، وعبدالله بن الحسين الفطيميان، ومحمد بن حجاج، وعلي بن صباح، ومحمد بن أبي الزبير اليرسميون، وجماعةٌ غيرهم من أهل اليمن: أن قواد آل يعفر كانت تأتيهم فتحاول الصلح بينهم فلا يقدرون على ذلك، ولقد أخبرني بعضهم أن قائدًا لآل يعفر كان معه ألوف من العسكر، أتاهم فاراد الصلح بينهم، وإنهم لَيقتتلون وهو بينهم واقف ماله فيهم حيلة!! حتى وقع بينهم عشرون قتيلاً، ما استوى له الصلح بينهم، فأصلح الهادي إلى الحَـقّ يحيى بن الحسين (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) بينهم بأسهل الأمور، وأرفقها، وأيسرها، وأهونها، فاختلط الناس بعد الفرقة، واجتمعوا بعد المنافرة، وتحابّوا فيما بينهم، وأشفق بعضُهم على بعض، وأنزل الله عليهم السماء مدرارًا، فأخصبت بلدهم، وصلحت ثمارهم، واصطلحت دوابهم، ورخصت أسعارهم، وأمنوا في طرقهم، وأصلح الله ذات بينهم.. “[3].

وهكذا كان الإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) يتعاطى بأولوية مع مبدأ إصلاح ذات البين، ولملمة الجراح، مع كُـلّ منطقة يدخلها، ومع كُـلّ قبيلة يلقاها، وهناك الكثير من المواقف، والشواهد على هذه الخصلة العظيمة في سياسة الإمام مع سائر الأمة، ولكن المقام لا يتسع لعرضها، وهي مبسوطة في كتب التأريخ والسيرة الهادوية.

 

الإمام الهادي القائد العسكريّ:

والحديثُ عن الجانب العسكريّ في شخصية الإمام الهادي مهم جدًا، ومهما حاولنا أن نعطيَ هذا الموضوع ما يستحقه، فلن نفيَه ذلك، وللقارئ الكريم أن يتأملَ من خلال قراءة سيرة هذا الإمام العظيم كيف كانت شجاعتُه وحنكتُه وتكتيكاتُه العسكريّةُ، والتي كانت من منطلق استشعاره للمسؤولية، ومن منطلق تقواه، وورعه، ورحمته بالناس، ومن منطلق علمه الواسع.

فلم يكن الإمام الهادي مثلَ أولئك الذين نصّبوا أنفسهم حكَّامًا للأمة، وانزووا بأنفسهم عن الرعية، وأوكلوا مهامهم العسكريّة، والإدارية إلى وُلاتهم، والتهوا بملذات الحياة، ورغدها، ولا يفقهون من القيادة إلا اللقب والعرش!! فالإمامُ الهادي كان قائدًا ربانيًّا، وفي نفس الوقت كان جُنديًا من جنود الله، لا يغمضُ له جفن، ولا يهدأ له بالٌ حتى يُقيمَ لله حُجَّةً، وكان يقول (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ): “واللهِ لئن لم يَسْتوِ لي في اليمن أمرٌ، لا رَجعتُ إلى أهلي، أَوْ أضرب الشرق والغرب حتى أقيم لله حُجَّتَه”. [4]

ومن المعلوم في تأريخ المدرسة العسكريّة الإسْــلَامية أن أول فنون المعارك كان في «غزوة بدر»، وكان أول تشكيل مسير للمعركة عندما خرج المسلمون من المدينة في تشكيل يُعدّ قمة في تطور فنون القتال، فقد قسم الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) قُــوَّاته إلى حرس مقدّمة، قُــوَّات رئيسية، حرس جوانب، وحرس مؤخرة، وذلك التشكيل للمسير هو حالياً من أحدث فنون تشكيل المسير في الحرب الحديثة.

وقد تم دفع دوريات استطلاع أمام القُــوَّات وعلى جوانبها، ومهمة تلك القُــوَّات رصد أخبار العدوّ وإعطاء الإنذار المبكر في الوقت المناسب حتى يتسنى للقُــوَّات فتح التشكيل للاستعداد للاشتباك.

وكذلك كان يفعل الإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ)، حيث كان حريصًا في سائر معاركه على إرسال العيون لمعرفة عدد وعدة العدوّ، وإقامة الحجة بإرسال الرسل بالإنذار والعودة إلى الله، وتنظيم الصفوف وتعبئتها بنفسه، وعندما سُئل عن ذلك، أجاب بأن رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله): كان يفعل ذلك في غزوة بدر.

وينقل مؤلف السيرة الهادوية (علي بن محمد العلوي) أنه: “عندما وَفَدَ جماعة من أشراف نجران وهم شاكر، وثقيف، ووادعة، ويام، والأحلاف وجماعة من بني الحارث، فأجابهم يحيى بن الحسين إلى ما طلبوا من ذلك، وقد كانوا كتبوا إليه وهو ببلده يطلبون ذلك منه، فلما كان آخر يوم من جمادي الأولى من سنة أربع وثمانين ومائتين أمرَ بجمع الناس، ثم خرج بهم إلى خارج صعدة، فعبأهم بنفسه ميمنة، وميسرة، وقلبًا، فقال رجل من همدان: ما رأيتُ مثل هذه التعبئة، فقال له يحيى بن الحسين: هكذا عبَّأ رسولُ الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) أصحابَه يوم بدر أَوْ قال: يوم أحد، ثم جعلَ يحيى بن الحسين يصف القتال، وكيف يطعن بالرمح، وكيف يضرب بالسيف، ثم أخذ الرمح فأراهم ما وصف لهم، فسمعت الهمداني وهو محمد بن بهار، وهو رجل مذكور بالفروسية والشجاعة، وهو يقول: ما رأيت مثل يحيى بن الحسين، وما يقدر أحدٌ يقول فيه شيئًا، يعني من فروسيته، فأجابه أحمد بن عباد الأكيلي، وهو رجل يُذكر بالفروسية، وهو يقول: ما يقوى أحدٌ يعمل بالرمح كمثل ما يقوى عليه يحيى بن الحسين”[5].

لقد كان للإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) أساليب عسكريّة تكتيكية فائقة الدقة، وباهرة التنظيم، تَــدُلُّ على عظمة قيادته للجيش الإسْــلَامي، وخصوصاً في تلك المرحلة التي لم تتواجد فيها وسائل الرقابة والسيطرة الحديثة، مثل: الأجهزة اللاسلكية، وأجهزة الإرسال والرادار، والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار عن بعد، كُـلّ ذلك يدل على فن إدَارَة عظيمة للمعركة.

ولولا الحرص على الاختصار لعرضنا للقارئ الكريم العديد من المعارك التي خاضها الإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ)، والتي تُعدّ دروسًا في العلوم العسكريّة، في الإعداد، والتعبئة، والتكتيك، والحرب الإعلامية، وإدَارَة المعركة.

وكما يُقال في علم القيادة الحديثة أن: “من سنن الحياة وطبيعتها أن يكون هناك من يمثل دور القائد في النشاط البشري، فالقيادة والجنديّة من لوازم العلاقات المجتمعيّة والأنشطة البشريّة المختلفة، وعليهما تنضبط الحياة وتستقيم أمورها، فلا قيادة ناجحة دون جنديّة ناجحة، كما ولا جنديّة ناجحة دون قيادة ناجحة، فالعلاقة بينهما علاقة متلازمة ومتكاملة، بل لا يتقن فن القيادة من لا يتقن فن الجنديّة، وليس بالضرورة أن يكون العكس صحيحاً، فقد ينطبق عند شخص لكن ليس لازماً أن يتقن الجندي دور القائد، بخلاف القائد فعليه أن يتقن فن الجنديّة أولاً؛ لأنَّ القيادة الناجحة متقدّمة في السلوك الإنْسَـاني، ولا يمكن الوصول إليها إلا بتدرج سليم من الجنديّة ثمّ القيادة، إنّ الإسْــلَام كما هو معروف يتناول كلّ جوانب الحياة وكل جوانب الاهتمام البشري، وفيه إتقان صحيح لفن الجنديّة كما فيها نموذج أعلى لفن القيادة، وهناك صفات للقائد الناجح في الإسْــلَام وأثر لوجود القائد الناجح وحاجة لصناعة الجندي وصناعة القائد على حَــدٍّ سواء”[6].

ولا بد لمن يتولى شأن أمر الأمة أن يكون على قدرة عالية وتأهيل كبير في كافة الجوانب، وبالشكل الذي يمكنه من صنع التغيير التربوي والثقافي، وبما يؤهله ليكون بمستوى مواجهة أعداء الدين والمتربصين به فكريًّا، واقتصاديًّا، وعسكريًّا، فقد عُرف الإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) في كافة معاركه في مواجهة أعداء الدين، أنه كان يهتم اهتمامًا بالغًا بالإعداد للمعركة، ودفع عناصر الاستطلاع، ومن ثم إصدار الأمر بالقتال، ثم يقوم بنفسه بإدَارَة المعركة.

ولقد أجاد الإمام الهادي (عَلَيْــهِ السَّــلَامُ) الاستخدامَ الجيدَ للأرض والاستفادة ممَّا قد توفره بعضُ التضاريس من مميزات تكتيكية، بما يمكنه من السيطرة على ميدان المعركة، وتأمين مؤخّرة جيشه.

 

[1]: القيادة في ضوء الآيات القرآنية – محمود الأسطل.

[2]: سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه وآله السلام) – علي بن محمد بن عبيد الله العباسي العلوي – تحقيق د. سهيل زكار – ص: 53 – 54.

 

 

[3]: سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه وآله السلام) – علي بن محمد بن عبيد الله العباسي العلوي – تحقيق د. سهيل زكار – ص: 41 – 42.

[4]: سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه وآله السلام) – مَصْدَرٌ سابق.

[5]: سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه وآله السلام) – علي بن محمد بن عبيد الله العباسي العلوي – تحقيق د. سهيل زكار – ص: 65 – 66 – 67.

[6]: https://mawdoo3. com صفات القائد الناجح في الإسْــلَام.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com