مذاهبُ التنمية والتحديث الاقتصادي

عبدالملك العجري

في كتابِهما (لماذا تفشلُ الأمم؟.. أصول السلطة والازدهار والفقر) خَلُصت مقاربةُ خبيرَي التنمية الدوليَّين اسيموجلو وروبنسون، إلى أن ما يحدِّدُ المصيرَ الاقتصادي لأُمَّةٍ من الأمم ليس الثقافات والعقائد التي يدينُ بها الأجدادُ، ولا الجغرافيا والموارد الطبيعية، ولا حتى جهلُ الحكام بالسياسات الجيدة، إنها المؤسّساتُ هي من يصنعُ الازدهارُ أَو الفشل، وَهي من يجعلُ دولاً ثريةً وَمزدهرةً وأُخرى فقيرةً وفاشلة.

والمؤسّساتُ المعنية هنا هي المؤسّسات الشاملة (رأسمالية السوق وليبرالية السياسة)، فهذه المؤسّساتُ هي التي جعلت الولايات المتحدة مزدهرة اقتصاديًّا، وَجعلت المكسيك التي لا تختلف عنها في الخصائص الجغرافية لكنها أقلُّ ازدهاراً وأكثرُ فقراً، وهي التي جعلت كوريا الجنوبية أكثرَ ثراءً من الشمالية رغم اشتراكهما قبل التقسيم في ذات الخصائص جغرافياً واجتماعياً، ورأسمالية السوق كانت وراء الثورة الصناعية في إنجلترا ومنها إلى كُـلِّ أُورُوبا والعالم، وهي من أنتجت كُـلَّ هذا الثراء الهائل والازدهار “وقوى منتجة تفوقُ بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيالُ السابقة كلها مجتمعة”، وَنقلت البشرية من العالم القديم إلى العالم الحديث ومن المرحلة الزراعية إلى المرحلة الصناعية، والسبب أنها توفر نظاماً فعّالاً للحوافز يقوم على تعظيم المنفعة الشخصية (المحرك لسلوك الإنسان في المذهب الرأسمالي)، وتحفز على الإبداع والابتكار من خلال إتاحة حرية اختيار المهن للأفراد والأنشطة الاقتصادية التي تتناسب وَمهاراتهم، والاستمتاع بثمار أعمالهم وجهودهم، وتشجّع على المبادرات الفردية وَالمشاركة الفعلية من جانب القطاع الأكبر من المواطنين ومن ثم تشكك في مذاهب التنمية الأُخرى كالمذهب الاشتراكي فهو وإن حقّق ازدهاراً وتنميةً اقتصادية نظير ما حقّقه الاتّحاد السوفيتي لكنها غير مستدامة وتصل إلى طريق مسدود ولا توفر نظاماً فعالاً للحوافز يشجّع على الابتكار اللازم للنمو الاقتصادي؛ بسَببِ غياب الملكيات الفردية.

لكن رأسمالية السوق لا تكون قادرة على الاستمرار في إنتاج ومراكمة الثروة والنمو الاقتصادي ما لم تكن مدعومة ومعززة بليبرالية سياسية ومؤسّسات ديمقراطية، فالليبرالية الاقتصادية لا تنفصل عن الليبرالية السياسية، وَغياب الحريات الاقتصادية يعني غياب الحريات السياسية، وغياب الحريات السياسية مع حرية الاقتصاد يعني افتقاد الاقتصاد الحر للفوضى الخلاقة والقدرة على البقاء والاستمرار، ولذلك فَـإنَّ تبني الأنظمة السلطوية لنظام السوق الحر يضع حداً لما يمكن أن يفعله نظام السوق.

مقاربةُ اسيموجلو وروبنسون تأتي في سياق محاولة التيارات الليبرالية أسطرة نظام السوق كنموذج أبدي متجاوز للتاريخ وإعادة تأكيد صلاحيته كمذهب عالمي للتنمية، وما على الدول الراغبة في التنمية والثراء إلَّا اللحاق برَكْب السوق ونظام التبادل الحر أَو كما يقول سمير أمين، إعادة إنتاج ما تم إنتاجُه في الغرب الصناعي، وَرغم تبنيها التفسيرَ المؤسّسيَّ للتاريخ لكنها لا تؤمن بوجود قانون حتمي أَو منطقي للتحول والانتقال الاقتصادي يمكن تعميمه على كُـلّ البلدان لإعادة إنتاج الازدهار والتصنيع الغربي في البلدان الأُخرى ومن ثم تشكّك في عملية هندسة الازدهار والانتقال السياسي التي تتبناها بعضُ المؤسّسات الدولية والولايات المتحدة وتفرضها على الدول النامية من خلال ما يسمى سياسات التكييف التي يتباها البنك الدولي، فلا يحدث الانتقال لمُجَـرّد تبني الليبرالية الاقتصادية أَو السياسية، فعملية التحول عملية احتمالية تخضع لكثير من الظروف والسياقات المصاحبة التي قد تساعد أَو تعيق الانتقال السياسي والاقتصادي.

ومع أن محاولة استكشاف كيف ظهرت وتطورت المؤسّسات الليبرالية في الغرب الصناعي وما إذَا كان هناك منطقٌ يحكم ظهورها وتطورها يمكن تعميمُه كقانونٍ طبيعيٍّ لكل التحولات في العالم استغرقت معظمَ فصول الكتاب وَعلى أهميتها في الإرشاد لطرائق التنمية الملائمة إلَّا أن ما يهمنا في هذه المقالة هو مناقشة كفاءة رأسمالية السوق والتبادل الحر ومدى صلاحيته لكل الظروف المكانية والزمانية.

أولاً: في مقابل تأكيد مقاربة المؤلفين على أن رأسمالية السوق هي المسؤولة عن ثراء وازدهار الدول الصناعية وأن غيابها السبب في تخلف الدول النامية، فَـإنَّ خصومها من كُـلّ التوجّـهات يحملونها بنفس القدر مسؤولية التفاوت واللامساواة وغياب العدالة في التوزيع بين دول الغرب الصناعي ودول الجنوب، وكما كانت سبباً في صناعة الازدهار للشعوب الغربية كانت مسؤولة عن تخلف وفشل وفقر شعوب أُخرى، وَإذَا كانت تعيب على الاشتراكية غياب نظام فعال للحوافز يعاب على رأسمالية السوق غياب نظام فعال للعدالة، فهي بطبيعتها تقوم على قاعدة “طرف يربح طرف يخسر” وليس على قاعدة الكل يربح.

وكما لا تتيح لكل الأفراد على الصعيد الوطني أن يكونوا أغنياء لا تتيح لكل الدول أن تكون صناعية أَو مزدهرة، ومع أنها أَدَّت إلى مستويات لا يمكن تصورها من الثروة والتقدم التكنولوجي في السابق، إلا أنها لم تكن قادرة على استخدامها لتلبية احتياجات الجميع، وكما أنها تجعل البعض أثرياء وآخرين محدودي دخلٍ وعاملين فَـإنَّها على المستوى الدولي ستكرس هذا التفاوت بين الأمم والدول في الازدهار والنمو وفرص دول سيكون على حساب فرص دول أُخرى وستحاول الدول المزدهرة تعزيز وتطوير فرصها على حساب الدول الأضعف وإعاقة أية محاولة للتقدم نحو الأمام وهناك حقيقة ظاهرة وهي أن التباين بين البلدان المتطورة والمختلفة يزيد بوتيرة أسرع والدول الغنية تصير أكثر غناً والفقيرة أكثر فقراً.

الإمبريالية بتركيزها المفرط على الربحية على أية اعتبارات أخلاقية أَو اجتماعية أطلقت الوحش بداخل الإنسان والتنافس المنفلت بين الدول القوية على استغلال الشعوب الأُخرى والتسابق للاستحواذ على ثرواتها وحاجتها لأسواق واسعة لتصريف منتجاتها كانت أَسَاس الإمبريالية الغربية

ثانياً: أنها بتركيزها المفرط على الربحية على أية اعتبارات أخلاقية أَو اجتماعية أطلقت الوحش بداخل الإنسان والتنافس المنفلت بين الدول القوية على استغلال الشعوب الأُخرى والتسابق للاستحواذ على ثرواتها وحاجتها لأسواق واسعة لتصريف منتجاتها كانت أَسَاس الإمبريالية الغربية –وباعتراف المؤلفين- فحركة الاستعمار الأُورُوبي في أفريقيا لم تضع التحديثَ في اتّجاه معاكس وإنما قضت على أي احتمال بالإصلاح المؤسّس والأسوأ أنها تركت أفريقيا ميراثاً مؤسّسياً أكثرَ تفككاً وتعقيداً، وتسببت الضغوط العنيفة للإمبريالية في تدمير القطاعات المنتجة الاقتصادية الزراعية والصناعية، وليس من قبيل المبالغة القول بأن العولمة الاقتصادية هي الشكل الجديد للإمبريالية الغربية للحفاظ على مركزية الثروة والقوة بأيدي دول المركز الصناعي، ونظراً للضريبة الباهظة للتحديث الليبرالي يوصي عالم الاجتماع بارينجتون مور، أن نكون حذرين بشأن من يعدون بالفردوس نتيجة لاقتصاد السوق والنظام البرلماني.

ثالثاً: الديناميكيةُ التي تتيحُها حريةُ المنافسة للصعود والهبوط والمشاركة التي يمتاز بها الاقتصاد الحر ويفترض أنها تسمح للدول المتخلفة بتغيير وضعها الاقتصادي تميل للتلاشي مع تنامي الاحتكارات العملاقة، وَبالتالي تبدد أية فرصة عادلة للتنمية والتبادل المتكافئ، ذلك أن الرأسمالية الاحتكارية والتركيز البالغ لرؤوس الأموال سينقلب في النهاية على الأَسَاس الفلسفي لنظام السوق الحر القائم على سيادة أوضاع الحرية على كُـلّ مجالات النشاط الاقتصادي حرية التملك وحرية الإنتاج وحرية حركة الأسعار، فالاحتكارات الكبرى تهمش المنافسة وتضيق مجالاتها، وقدراتها الفائقة في التحكم بآليات العرض والطلب أتاح لها التحكم في الأسعار، وَرأسمالية الشركات العابرة للقارات تحل محل رأسمالية الدولة، والملكيات الفردية تتحول لعائلات اقتصادية وراثية كالعائلات الإقطاعية، وسياسات المؤسّسات الاقتصادية العالمية التي تنظم حركة السوق والنشاط الاقتصادي تحل محل عفوية قوانين السوق التي يفترض أنها تعمل ذاتياً كما تعمل قوانين الطبيعة من تلقاء نفسها وتنظم ذاتها بذاتها، فما يسمى بالاقتصاد الحر هو فكرة خيالية لا وجود لها في الواقع وما هو موجود وقائم اقتصاد على درجة عالية من التخطيط، حَيثُ وفرت ثورة المعلومات للشركات والاحتكارات العملاقة قدرة فائقة في التحكم بالأسواق العالمية.

رابعاً: أن شروطَ التنمية تغيرت على نحوٍ جوهري والظروف التي ساعدت التنمية في البلدان الصناعية الغربية ليس من السهل تكرارها، والفرص أمام الاقتصادات المتأخرة عقيب الحرب العالمية الثانية بعد استقرار الاقتصاد الرأسمالي العالمي أصبحت أكثر صعوبة في ظل التبادل غير المكافئ والاحتكارات الرأسمالية، وكثير من الحوافز والفرص التي كانت متاحة وساهمت في النهضة الغربية واليابانية لم تعد متاحة أَو لم تعد سهلة المنال في ظل تغير قواعد اللعبة الدولية والفرص التي تملكها البلدان المتقدمة هي تحديات بالنسبة للبلدان المتخلفة حتى لو كانت مؤسّساتها ليبرالية والفرص التي تمنحها السوق الرأسمالية باليمن تسلبها باليسار، وحرية المنافسة لها جانبان جانب الحق الذي ينص عليه القانون وجانب القدرة التي توفرها الفرص.

إنجلترا بلد القوة الصناعية كيف كان مصيرها بدون المستعمرات في أستراليا وَأمريكا والهند والثروات المنهوبة من أفريقيا وآسيا، والثروات الكبيرة التي راكمتها في القرن السادس عشر من القرصنة وتجارة الرقيق والمستعمرات الأمريكية والمركز التجاري الهندي وغيرها من الثروات التي حصلت عليها بطرق غير مشروعة كانت متاحة لها عندما كانت تتحكم في قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية.

خامساً: لا يمكنُ إرجاعُ فشل نظام السوق ولا التخلف الذي تعانيه بلدانٌ كثيرة في العالم بشكل أَسَاسي لأسباب داخلية من قبيل تأخر في تطور القوى المنتجة، والسمات الداخلية للمجتمعات الشرقية وكما يقول بريان تيرنر، شروط التطور في الأطراف الرأسمالية تغيرت جوهرياً بعد تأسيس المراكز العالمية للرأسمالية الإمبريالية، فلا يمكن رصد تطور مجتمعات الأطراف الرأسمالية أَو بمعزل عن اقترانها وتبعيتها لنمو التطور غير المتكافئ بين المراكز والأطراف.

كانت مروحةُ خيارات الرأسمالية الغربية والثورة الصناعية في معالجة مستلزمات وتحديات التنمية والتصنيع واسعة من ناحية الفائض المالي والمدخرات المحلية التي راكمتها من التجارة الكولوينالية والسيطرة على الأسواق العالمية ونهب الفائض الاقتصادي للدول المستعمرة، كما صادفت نهضتها وثورتها الصناعية فراغًا عالميًّا ساعدها في التحكم بوضع القواعد الدولية ومراكمة قدراتها وخبرتها في التحكم بآليات السوق وَالقواعد للمؤسّسات الدولية التي تدير النشاط الاقتصاد الدولي في جوانبه المالية والنقدية وتنظيم التمويل التنموي والتنافس التجاري، بينما كانت التنمية في الدول النامية أمام خيارات محدودة ومحكومة بقواعد دولية سياسية واقتصادية وموازين قوى لم يكن لها أي دور في تشكيلها، ودرجة عالية لتمركز رأس المال والاحتكارات الدولية وعلاقات تبادل غير متكافئ وبشكل عام أصبح اقتصاد هذه الدول واقعاً تحت التأثيرات الخارجية للاقتصاد الرأسمالي.

 

رأسمالية السوق تجعل البعض أثرياء وآخرين محدودي دخلٍ وعاملين وستكرس التفاوت بين الأمم والدول في الازدهار والنمو وفرص دول سيكون على حساب فرص دول أُخرى وستحاول الدول المزدهرة تعزيز وتطوير فرصها على حساب الدول الأضعف

سادساً: كُـلُّ الآليات التي أنتجتها الرأسماليةُ لتجديد نفسها لم تستطع التغلب على التناقضات النابعة من أحشاء الرأسمالية المتمثلة في التقلبات السوقية وَجعل الإنتاج يعمل لصالح الجميع وتناقض مصالح الرابحين والخاسرين، وكأن الرأسمالية لا يمكن الجمع بينها وبين العدالة أَو الجمع بين الكفاءة والتوظيف والتوزيع العادل للدخل.

أشار مؤلفُ كتاب “الرأسمالية تجدِّدُ نفسَها “إلى أن قدرة الرأسمالية المتقدمة على مواجهة الأزمات لا تعني منع اندلاع الأزمات الاقتصادية المختلفة بقدر ما تعني إدارتها ونقل أعبائها إلى البلدان النامية من خلال آليات اقتصادية محكمة، وأهم آليتين يعتبران مصدر أغلب مشاكل البلدان النامية هما آلية التجارة الخارجية، وآلية المديونية الأجنبية، ومن خلال ما يسمى الاعتماد المتبادل فَـإنَّ الحلقة الأضعف هي التي تتحمل الأعباء.

حاولت الدول النامية الحصول على شروط عادلة للتبادل من خلال التفاوض مع الدول الرأسمالية لإدخَال نظام عادل في علاقات التبادل الاقتصادية في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (انكتاد) 1964 بالتركيز على التجارة المتكافئة لزيادة الموارد النامية، واعتبار التنمية والعمالة والعلاقات المتكافئة محور إعادة بناء العلاقات الاقتصادية الدولية ولكن الولايات المتحدة والدول الصناعية كانت تتعذر بآليات السوق القاهرة واستخدمت نفوذها لإجهاض تطلعات الدول النامية إلى استغلال رشيد لموار الدول وتوزيع المكاسب التجارة.

إن محاولة إقناع الرأسمالي بالتنازل عن أرباحه لن تكون مجدية ما لم يشعر أنه معرض لخسارة أكبر، وكما يقول سمير أمين، الرأسمالية ليبرالية دائماً عندما تستطيع ذلك أي عندما لا تردعها القوى الاجتماعية للخضوع إلى متطلبات مختلفة مما يستجوب البحث عن الردع المباشر والردع الأقصى.

سابعاً: الفرضية التي تصور النجاح الذي أحرزته النمور الآسيوية كشاهد على التنمية المعتمدة على السوق مغالطة كبرى والحقيقة أن التنمية في هذه الدول كانت بقيادة الدولة بصورة مباشرة والعقود الإدارية والقطاع العام أَو بالاستراتيجية التنموية التي توجّـه السوق.

 

الرأسمالية لم تستطع التغلب على التناقضات النابعة من أحشائها المتمثلة في التقلبات السوقية وَجعل الإنتاج يعمل لصالح الجميع وتناقض مصالح الرابحين والخاسرين، وكأن الرأسمالية لا يمكن الجمع بينها وبين العدالة أَو الجمع بين الكفاءة والتوظيف والتوزيع العادل للدخل

المذهبُ الاجتماعيُّ في التنمية (الطريق الثالث)

إذا كانت الليبرالية تضع ثقتها في السوق، والاشتراكية تضع ثقتها في الدولة فَـإنَّ الطريق الثالث يحاول التوسط بينهما والجمع بين إيجابياتهما حسب أبرز دعاتها العلامة جيدنز فمن جهة لا تريد التضحية بمكاسب السوق وَفي ذات الوقت كيف يمكن أن نجعل الأسواق تعمل لصالح الناس من الوجهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبمعنى آخر هو كيف يمكن أنسنة الرأسمالية؟.

عملت سياسات الطريق الثالث على إعادة بناء دولة الرفاه (الكنزية)، فالهدفُ من تدخل الدولة ليس تحمل المسؤولية عن حياة الناس كما كان يفعل الديمقراطيون الاشتراكيون القدامى بقدر ما هو إيقاف الناس على أقدامهم من جديد من خلال الاستثمار في رأس المال البشري والنهوض بالموارد البشرية وتحسين جودتها كلما كان ذلك ممكناً وليس توفير الخدمات الاقتصادية بشكل مباشر وبمعنى آخر تبني دولة الاستثمار الاجتماعي بدلاً من دولة الرفاه وفي إطار مجتمع الرفاه الذي ينبغي أن يحل محل دولة الرفاه، حَيثُ سياسات الرفاه على شبكة من روابط وجماعات القطاع الثالث (الأسرة، الكنيسة، الأصدقاء، الجماعات غير الربحية).

وقد تفاوتت الآراء حول الطريق الثالث ففي حين يرى جيدنزي فيها محاولة لتجديد الديمقراطية الاشتراكية، لا يرى فيه آخرون إلَّا تعبيراً عن تحول اليسار في وقت متأخر ولكن بصفة كلية نحو ليبرالية السوق، ويعد أليكس كالينيكوس أبرز ناقدي الطريق الثالث، إذ لا يرى فائدة من المعالجة السطحية للمشكلات العميقة التي تولدها الرأسمالية وأن هذه الوسطية تظل بمحاولة شكلية بلا محتوى، وَيمكن القول إنها استراتيجية اقتصادية -أكثر منها نظرية-لتجاوز أزمة الرأسمالية -وكما جاء في رؤية كلنتون، ال غور -استراتيجية قومية تؤمن بالمشروع الحر وسلطة قوى السوق لكن باستراتيجية تعطي الأولوية للناس والاهتمام بالطبقة الوسطى، وعلى حدهما-سياسات جديدة ومختلفة لا ليبرالية ولا محافظة لا ديمقراطية ولا جمهورية ولا يحصد مكاسبها الأغنياء فقط، وفي كُـلّ الأحوال لم يحقّق ما يسمى باليسار الجديد تقدما كَبيراً لأنسنة الرأسمالية وبدلاً عن ذلك اتجه نحو القضايا الحقوقية السهلة مثل قضايا النوع الاجتماعي والمثلية والبيئة ونحوها.

 

الفرصُ أمام الاقتصادات المتأخرة عقيب الحرب العالمية الثانية بعد استقرار الاقتصاد الرأسمالي العالمي أصبحت أكثر صعوبة في ظل التبادل غير المكافئ والاحتكارات الرأسمالية

 

المذهبُ الصيني في التنمية

التجربةُ الرائدةُ للصين والتي أصبحت تقدِّمُ نموذجاً اقتصاديًّا منافِساً من خلال ما يسمى نظام السوق الاشتراكي ذي الخصائص الصينية والتي بدأت مع الإصلاحات المتدرجة التي دعا لها الزعيم الصيني دينغ تشيا وينغ، نهاية العشرية السابعة من القرن الماضي وذلك من خلال دولة واحدة ونظامين يجمعان بين رأسمالية الدولة وَرأسمالية السوق وَتوازن بين دور الحكومة والسوق في توزيع الموارد ورغم الصعوبات والتحديات التي واجها نظام السوق الاشتراكي إلَّا أن تجربة الصين تميزت بالمرونة والديناميكية واستطاعت تطوير وإدخَال التعديلات والاستفادة من البيانات التي تقدمها السوق في تطوير تجربتها وعلى حَــدّ الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ، في كتابه حول الحكم والإدارة أنه في أكثر من عشرين عاماً عقيب المؤتمر الوطني الرابع عشر للجزب ظلت الصين تبحث عن تحديد علمي وجديد للعلاقة بين الحكومة والسوق على أَسَاس تطور الممارسة وتعمق الفهم -وعلى حده- فَـإنَّ دور السوق كان يتطور باستمرار تطوراً تدريجيًّا من لعب دور أَسَاسي في توزيع الموارد إلى لعب أدوار أكبر.

مقاربةُ الخبيرَين كما سبق تشكك على نحو حاسم في التنمية الصينية وتحاول إغفال حقيقه بادية للعيان وهي أن الصين لو قبلت الدخول غير المخطّط في اقتصاد السوق لكان مصيرها كمصير روسيا عقيب تففك الاتّحاد السوفيتي وتحولها لسوق للسلع الغربية ولما استطاعت شركاتها الناشئة أن تنافس الشركات الغربية في عقر دارها ولما أتاح لمزود الاتصال الصيني هواوي الفوز بمناقصة إنشاء شبكة الاتصالات اللاسلكية من الجيل الرابع في السويد، حَيثُ يوجد مقر اريسكون أكبر شركة رائدة للاتصالات في السويد كما يقول مؤلف كتاب الزما زال الصيني.

 

الخلاصةُ

لا تستطيع الدول العربية والنامية تجاوز مأزق التنمية إلَّا بتجاوز الاستلاب الاقتصادوي على حَــدِّ فكرة سمير أمين ومغادرة مقاربات التنمية التي تندرج تحت عنوان اللِّحاق بالرَكب، صحيحٌ أن الغرب هو الذي شكل العالم الحديث ولديه تجارب تاريخية راسخة ونموذج حاضر بفرض نفسه على كُـلّ أنماط التفكير العالمي لكن كما سبق لا يوجد منطق كلي واحد يحكم كُـلّ التحولات الاجتماعية والاقتصادية (والمشكلة مع الغرب أنه لا يريد أن تكون تجاربه مصدر إلهام للشعوب النامية بل يريد فرض مذهبه في التنمية؛ باعتباره قانوناً كلياً كونياً يتجاوز سياقاته الزمانية وَالمكانية ومحاولة تعمميها بطرق غير شرعية على كُـلّ العالم) وكل عملية تحول هي عملية تاريخية مميزة أَو فردية وكما راينا مع الطريق الثالث ليس أكثر من استراتيجية لتجاوز أزمة الرأسمالية الغربية لا علاقة لها بأزمة التنمية في لدول المتخلفة، والخيار هو باستلهام نموذج اقتصادي يلائم ظروفها والاستفادة من تجارب الآخرين (لا سيَّما الصين ودول شرق آسيا الأقرب إلى ظروفنا) بقدر ما تمليه وليس شروط المانحين أَو المؤسّسات الاقتصادية الدولية، وفي كُـلّ الأحوال فَـإنَّ وجود سلطة مركزية مستقرة ومؤسّسات قانونية قادرة على حماية الحقوق والملكيات شروط بديهية للتنمية، وثانياً أن ظروفَ الدول النامية لا تسمح بأن تعهد للسوق وحده إدارة الاقتصاد والحياة الاجتماعية وَالاستغناء عن دور الدولة في التخطيط وتوجيه السوق قبل أن تستكملَ شروطَ التنمية وتوحيد سوقها القومية وإعادة تأهيلها حتى تكون جاهزة للمنافسة والمفاوضة الفعالة مع المؤسّسات الدولية وتأهيل الرأسمالية الوطنية حتى تكون قادرة على تحمُّل أعبائها في تطوير الاقتصاد الوطني حتى لا تكون مُجَـرّد وكيل محلي للاحتكارات العالمية، وعلى مؤلف كتاب “التنمية في عالم متغير” أسواق الدول النامية غير مؤهلة ومجزئة والرأسمالية المحلية تفتقر إلى تصور تنموي شامل وتتحاشى المخاطرة وتميل للربح السريع وتفضل أن تسير في ركاب الرأسمالية العالمية وكَثيراً ما تقنع بالعمل وكيلاً لها ويتمركز نشاطها على المضاربات المالية العقارية والاستيراد واهتمامها بالإنتاج والصناعات ينحصر في التجميع والتركيب.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com