أدوارُ السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وحركتُها الرسالية

 

المسيرة| د. محمد البحيصي*

قال اللهُ تعالى: “وَلَقَدْ أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” إبراهيم(5).

الآيةُ الكريمةُ تتحدَّثُ عن أَيَّـام لله، مطلوبٌ التذكير بها، وإحياء أمرها، وهذه الأيّام لا بُـدَّ وأنها ذات شأن عظيم من حَيثُ نسبتها إلى الله، وإلّا فكل الأيّام كما هو كُـلّ الوجود لله وينتسب إليه إيجاداً وإمدَاداً.. ومن هذه الأيّام أَيَّـام مولد الأنبياء العظام -صلوات الله عليهم- الذين جاؤوا لإخراج البشرية من ظلمات الشرك والجهل إلى أنوار التوحيد والعلم والعدل، وقد حفل القرآن العظيم بذكرى هؤلاء العظام، ليلفت الانتباه إلى دورهم ورسالتهم في هذه الحياة..

ومن الشخصيات العظيمة التي أَدَّت دوراً مركزياً في حياة الإسلام والمسلمين تأتي السيدة فاطمة الزهراء (ع) في المقدمة؛ لأَنَّها:

1- واحدة من الخمسة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهم أصحاب الكساء..

“… إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا” الأحزاب 33

2- وهي سيدة نساء أهل الجنة، وسيدة نساء هذه الأُمَّــة، وسيدة نساء العالمين، كما ثبت في الروايات الصحيحة.

3- وهي موافقة للحق في كُـلّ شئونها بدليل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(إن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها).

ولأنها كذلك وكانت (جامعة الفضائل) اتخذ الإمام الخميني (قدس سره) من يوم مولدها يوماً عالميًّا للمرأة، لتكون عنواناً لكل القيم والدلالات التي تمثلها المرأة في الحياة، ولكل الكمالات التي تمثلها حركتها في خط الرسالة، ولتكون الأنموذج التي أعطت في كُـلّ المجالات والأطر والأدوار الإنسانية المثلى..

لقد تنزّل القرآن على الناس وهم في الدرك الأسفل من مراتب القوامة والاعتقاد وخَاصَّة فيما يتعلق بمسألة المرأة، وكان من وظائف القرآن التعليمية والأخلاقية، استعادة التوازن للحياة الاجتماعية من خلال تصحيح المفاهيم التي رسمتها ورسختها المجتمعات (الذكورية) عن المرأة، وإعادة إنزالها المنزلة التي تستحقها والتي هيأها الله لها على ثلاثة مستويات:

 

  • المستوى الأول: مستوى الخلقة

حَيثُ قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثيراً وَنِسَاءً…” النساء1.

فأصل الخلقة في الرجل والمرأة واحد، وَإذَا لاحظنا بعض الفروقات العضوية، فَـإنَّما هي فروقات وظيفية لا علاقة لها بالتفاضل أَو التمايز، وبمجموع هذه الفروقات تتحقّق الوحدة العضوية للمخلوق الآدمي، وبدونها يحدث الخلل والقصور عن أداء ما هو مرسوم لهذا الكائن..

 

  • المستوى الثاني: مستوى الدّور

قال تعالى: “… لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ..” النساء32.

وقال سبحانه: “… وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ…” البقرة 228.

وقال سبحانه: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً..” النحل97.

وهنا نجد الحديث عن دور الرجل والمرأة على حَــدّ سواء في الحقوق والواجبات.

 

  • المستوى الثالث: مستوى المسؤولية العامة:

قال تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئك سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” التوبة71.

وقال تعالى: “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مبينًا” الأحزاب35-36.

وقال تعالى: “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ…” آل عمران195.

وبناءً على فهم الأوائل من المسلمين السابقين لكل هذه المستويات رأينا نماذج راقية للمرأة المسلمة التي وقفت جنباً إلى جنب مع الرجل في تحمّل الرسالة وأعبائها والقيام بمسؤولياتها.

فكانت أم المؤمنين خديجة -سلام الله عليها- أول المؤمنين، ومن اللحظة الأولى للبعثة وقفت في ذات الخندق الذي وقف فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعها التلميذ الأول لمدرسة الوحي علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي هذا يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مُشيراً إلى موقف خديجة (ع): (ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة) ويؤكّـد على منزلتها التي لم تبلغها أي من نسائه، ورادّاً على بعضهنّ: (ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد وحرمني ولد غيرها).

ولكي نستطيع استيعاب هذا المقام، ومن ثم تقبل المقام الذي بلغته السيدة الزهراء (ع) من بعد، كان لا بّد من تهيئة نفوس الناس، وتوسعة مداركهم، وتصحيح نظرتهم للمرأة، وذلك من خلال ذلك الكم الهائل من التعرّض إلى ذكرها في أقدس كتاب، بل في الكتاب الأوحد الذي تصح نسبته إلى السماء.

لقد مهّد القرآن العظيم في قصصه، وأخباره عن الماضين من النساء، ليصل بتدرجه المعهود إلى محطة التغيير في مفاهيم المجتمعات البشرية عند المرأة الإنسانة، وكثّـف الحديث عنها لإيجاد وعي جديد، وتوازن في العلاقات الاجتماعية، وتعاطي القرآن مع المرأة في مجمل أطوار نشأتها..

فتحدّث عن الفتاة الموءودة منكراً على المجتمع هذا السلوك: “وَإذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ” التكوير 8-9.

ذلك أن حق الحياة من الحقوق التي كفلها الإسلام، وليست مُجَـرّد الحياة وإنما الحياة الكريمة..

وتحدث عن ميراث المرأة في ذلك أسوةً بالرجل وبأنصبة متفاوتة ومنسجمة مع موقعها الاجتماعي..

وتحدث عن الحقوق والواجبات، ومسؤولية المرأة المساوية لمسؤولية الرجل في العلاقات العامة..

وتحدّث عن عفة الفتاة في قصة ابنتي شيخ مدين مع موسى (عليه السلام)..

قال تعالى: “قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ” القصص26.

وتحدّث عن الأخت في نموذج أخت موسى ودورها: “وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ..” القصص11.

وتحدّث عن الأم في نموذجي أم موسى (ع) ومريم بنت عمران (ع) وامرأة عمران..

الأم الموقنة المؤمنة المحصّنة الطاهرة المتبتلة، المنقطعة إلى الله..

وتحدّث عن الزوجة التي اختارت طريق الحق على ما فيه من صعاب، ورفضت زخارف الحياة وبهرجها، وذلك مثال امرأة فرعون.. وتحدّث عن المرأة في موقع السلطة وقدرتها على الإدارة في مثال ملكة سبأ..

وتحدّث عن المرأة التي أعرضت عن الإيمان وكفرت بالرسالة كما في نموذجي امرأة نوح وامرأة لوط.. وهكذا.. لو تتبعنا آيات الكتاب العزيز وسوره نجدها تعتني بالأنثى الإنسانة، وُصُـولاً لإيجاد مفاهيم جديدة في المجتمعات التي تنكر إنسانية المرأة، وتعيد لهذا المخلوق المكرّم مكانته التشريعية والطبيعية التي منحها الله له، وسلبتها منه العادات والتقاليد والانحرافات في التديّن، وما حرّفه الإنسان في الكتب السماوية السابقة للقرآن، وليتعاطى معها كإنسان كامل الأهلية وليست شأناً من شؤون الرجل..

وهنا وفي النموذج الإنساني الأتم تأتي الزهراء (ع) في مقام القُدوة والأسوة ليس للنساء فحسب وإنما أَيْـضاً للرجال، ويأتي الحديث عنها بعيدًا عن الغلو من حَيثُ الخلقة والاستعداد حتى تكون الأسوة والقُدوة قابلة للقياس، وظاهرة الحجّـة، ولا يعتذر البعض بعناوين تحول دون تحقيق هذه القُدوة، ومن مهمة الباحثين في شأن القدرة أن يجسروا المسافة ويضيّقوا الفجوة بين المقتدي والمقتدى به، وهذا منهج قرآني أصيل خطّه القرآن حين أكّـد على بشرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يفتح باب التأسي به عندما يُؤمر الناس بذلك: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ..” الكهف110.

“وَمَا أرسلنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ..” الأنبياء 7.

ويمكننا توجيه الحديث عن سيدة نساء العالمين (ع) على مرحلتين:

 

المرحلة الأولى: فاطمة (ع) في بيت الرسالة (المولد –النشأة –الدور):

أيّاً كان تاريخ مولدها (ع) أكان قبل البعثة بخمس سنين أَو عشر، أَو حتى بعد البعثة.. أيّاً كان فَـإنَّ حياة هذه السيدة العظيمة لم تكن طويلة بحساب الأيّام والليالي، بل كانت (عريضة وواسعة وعميقة) وهذه هي الأبعاد الأهم التي تعطي لعمر الإنسان قيمته الفاعلة والمتحَرّكة والمثمرة وعطاءاته النافعة بغض النظر عن المدى الزمني المعدود..

فتحت الزهراء (ع) عينيها على الحياة في ذلك البيت الرسالي، المهموم بأعباء الرسالة وتحدياتها..

بيت مسكون بالحب والمودة والرحمة، والوفاء والعطاء بلا حدود من جانب، ومن جانب آخر كان البيت الذي رماه الناس عن قوسٍ واحدة، وتألبوا عليه، ومكروا به، وصدّوا عنه، ومن العشيرة الأقربين إلى الأبعدين، يقف أهل هذا البيت غرباء في بيئتهم وقومهم..

أربعة في طريق الحق، لا يستوحشون خواء الطريق، ولا الذئاب التي تعوي عليهم من كُـلّ اتّجاه.. وفي كُـلّ يوم، وفي كُـلّ مرّة يرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اكتسى وجهه الشريف بالحزن والأسف على قومٍ يدعوهم إلى ذكرهم ورفعتهم وعزّتهم في دنياهم وأخراهم، ويأبون إلا الجحود والصدود والعناد والاستكبار..

ويصف الله سبحانه حالة النبي (صلى الله عليه وآله) تلك بقوله سبحانه: “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا” الكهف6،”.. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ” فاطر8.

ترى أباها وهو ساجد يناجي الله وقد جاء ذلك الشقي ليلقي على ظهره أحشاء جزور، وتأتي الطفلة معنّفة ذلك الشقي بما يستحق، وهي تميط الأذى عن ظهر أبيها وتبكي..

وترى أمّاً بحجم (خديجة) سيدة نساء قريش حسباً وثراءً وجمالاً، وقد قاطعتها نسوة القبيلة تضامناً مع أزواجهنّ الذين كذّبوا واستكبروا استكباراً… وتشبّ الطفلة في هذه الأجواء لتستمد من كُـلّ صعوبات الحياة وعياً ونضجاً مبكراً، وهي تعيش الرسالة لحظة بلحظة، وتكسب كُـلّ يوم من المعارف الإلهية، وأنوار الوحي، ما يزيد في نورها ويقينها وبصيرتها، وهي الأولى بتعلّم الكتاب والحكمة، وبالتزكية التي جعلت منها الصدّيقة الكبرى..

وتقرّر قريش محاصرة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المؤمنين في شعب أبي طالب..

وفي شهر واحد من شهور الحصار المرير يفقد الرسول عمّه ونصيره أبا طالب، وزوجه الوفية خديجة (ع).. يفقد ظهير الخارج، ومؤنس ووزير الداخل.. وكان عام الحزن…

وتتحمل الفتاة الصغيرة المسؤولية المباشرة عن الأب المكلوم في بيت النبوة، ومعها ابن عمها القوي الأمين علي بن أبي طالب، الابن الروحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكانت من ملأ الفراغ الذي خلّفه فقد الحبيب والناصر، وكانت بحق كما وصفها النبي (صلى الله عليه وآله).. ((فاطمة أم أبيها)) بكل ما تعنيه كلمة أم من حنان ورحمة وحب وعطاء وتفان وحرص، ومسؤولية..

وهذه الأمومة التي عاشتها السيدة الزهراء (ع) باكراً، امتدت في حياتها (القصيرة) لتفيض على خصوصيتها، ولتتجلى في علاقتها مع أبيها وزوجها وبنيها والناس أجمعين..

 

المرحلة الثانية: فاطمة في بيت الزوجية..

وتنقسم على فترتين:

▪ الأولى: في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيها انتقلت فاطمة (ع) إلى بيت زوجها علي بن أبي طالب (ع)، ولكنها ظلت بعين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يرعاها، ويتابعها، ولا يكاد يمر يوم إلا وهي عنده وهو عندها، والجميع يحيطها بالاهتمام والتبجيل والتوقير، لعلمهم أن في هذا رضا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..

وفي هذه الفترة أثمرت الشجرة المباركة أقمار هذا الوجود ومصابيح هدايته وأعني بهم (الحسن والحسين والحوراء) سلام الله عليهم، وهم من ملأ حياة الزهراء (ع) وعلي (ع) وقبل ذلك قلب جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسعادة والفرح والريحان.

في هذه الفترة وهي في دار الهجرة في المدينة المنورة، كان الزوج وابن العم لا يكاد يغمد سيفه، ولا يكاد ينتهي من معركة حتى يُزجّ في أُخرى، والقتل أقرب إليه من شراك نعله، لا يكاد يفارق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعيش الرسالة في كُـلّ أبعادها وتكاليفها وتضحياتها ووراءه تقف تلك الزوجة الرسالية المجاهدة تصبر وتصابر، وترابط مع زوجها وتعيش كُـلّ آماله وآلامه، في نفس الوقت التي تعطي فيه الأبناء ما ينبغي لمثلها من الكمال أن تعطيه، ولتبني ذلك البيت المسلم الذي سيظل على مدار الدهور مهوى أفئدة المؤمنين، وملاذ المستضعفين، وسفينة نجاة الأُمَّــة، ومصباح هدايتها… فكان لها ذلك الدور المركّب الذي هيأها له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجُبلت عليه، وكيف لا يكون ذلك وهي بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقرب الناس إليه هدياً وسمتاً ومنطقاً…

عشرٌ من السنين عاشتها الزهراء مع زوجها يظللهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل حضوره وفيوضاته، وتحت عباءته في روضة وجوده المقدّس، يرتفع فيها كُـلّ يوم للإسلام بناء، وترفرف له في كُـلّ ساحة راية، ويمثّل بيت النبوة فيه قطب رحى الوجود، ومركز النور والهداية، والمثال الذي يُحتذى به في البرِّ والتقوى والعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

“… وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفسهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..” الحشر 9.

“وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” الإنسان 8.

همهم الأكبر هو استنقاذ الناس من النار، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، مهما كانت المعاناة والمكابرة والتضحية التي عبّر عنها فيما بعد الإمام الحسين (ع) بقوله: {هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله}، وعبّرت عنها زينب (ع) عندما قالت: {اللهم تقبّل منّا هذا القربان}، وقبل ذلك عبّر عنها أمير المؤمنين (ع) حين قال: {لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خَاصَّة}.

▪ وأما الفترة الثانية من حياة الزهراء (ع) في بيت الزوجية فهي التي أعقبت موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أقصر الفترات زمناً، ولعلها كانت الأقسى في حياتها، ولربما أعادتها إلى ذكريات مؤلمة مرّت عليها قديماً في طفولتها المكيّة… وهي القائلة:

ماذا على من شمّ تربة أحمد…. أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائبٌ لو أنها…. صُبّت على الأيّام صرنا لياليا

وقد تغيرت النفوس، وكان ما كان من أمور يحزن القلب ذكرها، نُعرض عنها رحمة بأمتنا التي تعاني ما تعاني من أوجاع وانقسامات ونزاعات لا يسعد بها إلا أعداؤها والمتربصون بها الدوائر..

وإزاء ما حدث من أمور اختلف المؤرخون في طبيعتها مما أساء القوم فيها إلى عليّ (ع) وفاطمة (ع).. فقد نهضت سيدة نساء أهل الجنة (ع) صادعة بالحق، ثائرة، وخطيبة ومحاجّة، ومعارضة، وقد واجهت القوم فوقفت خطيبة في المسجد في خطبة لم يعرف التاريخ نظيراً لها، كشفت عن عميق وعيها وفقهها وعلمها وشجاعتها، واختصرت كُـلّ عناوين الإسلام، وجعلت لكل واحدٍ منها تفسيراً، وبيّنت معناه وحكمته، وفنّدت حجّـة القوم في مسألة الإرث…

وهكذا تحدّثت مع النساء على الأسس التي يرتكز عليها عليّ (ع) في حقّه، من خلال كلمات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن خلال أهلية وكفاءة علي (ع)..

وقد افتتحت (ع) خطبتها في جموع المهاجرين والأنصار التي عُرفت بـ (الخطبة الفدكية) بقولها: (الحمد الله على ما أنعم.. وله الشكر على ما ألهم.. والثناء بما قدّم.. من عموم نعمٍ ابتدأها.. وسبوغ آلاء أسداها.. وتمام منن أولاها.. جمّ عن الإحصاء عددها.. ونأى عن الجزاء أمدها.. وتفاوت عن الإدراك أبدها.. وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها.. واستحمد على الخلائق بإجزالها.. وثنى بالندب إلى أمثالها… إلخ).

وهكذا وعلى هذا المنوال تناولت -سلام الله عليها- كُـلّ العناوين التي اعتنى بها الإسلام…

وبهذا تكون السيدة فاطمة (ع) أول من تحَرّك في المجتمع المسلم في خط الاعتراض على سلوك السلطة الحاكمة تحَرّكاً سلمياً واعياً وهادفاً، وتكون قد سنّت هذا النوع من المعارضة التي تظهر الحقوق، وتحول دون المزيد من الانحراف وخَاصَّة ذلك الذي يتلبس بعنوان الاجتهاد.. فكانت داعية الإصلاح الأولى في الأُمَّــة.. وهي المهمة التي قادها الإمام علي (ع) ومن بعده ولداه الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) حركة ودعوة للإصلاح، ليست للدنيا ولا للسلطة، ولا لعرض زائل، وهل مثل فاطمة (ع) من يخرج لأجل قطعة أرض هنا وهناك، وهي التي رأت أمها خديجة (ع) وكانت تملك شطر ثروة قريش كلها، ورأتها تنفقها جميعها في سبيل الرسالة، وتضعها في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون انتظار جزاءً ولا شكوراً إلا من الله سبحانه؟

ولكنها كلمة الحق التي أخذ الله الميثاق على أوليائه لتبيانها والصدع بها، وهم أحق بها وأهلها: “وَإِذْ أخذ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ…” آل عمران187.

هذه هي فاطمة (ع) جامعة الفضائل وسيّدتها، النموذج الأكمل للمرأة في عقلها، وفي روحها، وفي قلبها، وفي علمها، وفي وعيها، وفي شجاعتها وفي إخلاصها وصدقها ومسؤوليتها…

الابنة والزوجة والأم، الإنسانة التي عاشت للرسالة وصاحبها، وعاشت لله في كُـلّ نبضة من نبضات حياتها… فكانت بحق سيدة نساء العالمين.

* باحث وكاتب فلسطيني، مسؤول هيئة العمل الديني في جمعية الصداقة الفلسطينية –الإيرانية

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com