فرضيات لمعارك البحار والمحيطات المقبلة.. الحربُ والنظريات البحرية والبرية والجوية (الحلقة الثامنة)

المسيرة – عباس الزيدي *

 

1- القوة البحرية للفريد ماهان

عاش ماهان في فترة كانت فيها بريطانيا تملك أسطولاً بحرياً تجارياً وحربياً قوياً استطاعت بواسطته تكوين إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فرضت سيادتها على البحار والمحيطات وقد ساعدها موقعها البحري والثورة الصناعية وتحديداً توظيف الحديد وقوة البخار في بناء أساطيلها التي بواسطتها سيطرت على أجزاء كبيرة من العالم، لذلك كان يعتقد الفريد ماهان بأنه يصعب أن تكون هناك قوة تنافس بريطانيا حول زعامتها على العالم، أضف إلى ذلك أنه كان صحفياً وتاجراً وبحاراً ومهتماً بالجغرافيا لذلك كانت نظرته إلى البحار تختلف عن غيره، كما أن تمتع الولايات المتحدة بمميزات قريبة لتلك التي تتمتع بها بريطانيا منها ظهير قاري واسع يضم ثروات كبيرة مما يجعله جاذباً نحو اليابس، وَعدد من السواحل الطويلة.

وكان يرى أن الولايات المتحدة وبريطانيا يمكنهما السيطرة على العالم عن طريق القواعد الأرضية المنتشرة على هوامش أوراسيا، نظراً لسهولة الحركة البحرية بالمقارنة بالحركة على اليابس، كما توقع أن أي تحالف بين الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وبريطانيا يمكن أن يكون رادعاً في المستقبل للصين وروسيا.

كذلك يرى أن روسيا تتمتع بالسيادة القارية في قلب آسيا، وبالتالي يصعب اقتحامها بخلاف الدول الساحلية وفي نفس الوقت أن قوة بحرية يعتد بها تجعل من الصعب وصول روسيا إلى ما يسمى بالمياه الدافئة لترتبط بالبحر، وقد أمكنها فعلاً الوصول إلى البحر الأسود الذى ربطها بالبحر الأبيض المتوسط جنوباً، ثم الوصول إلى بحر البلطيق الذى ربطها ببحر الشمال وبالمحيط الأطلنطي غرباً.

ومما يؤكّـد وجهة نظر ماهان في أهميّة القوة البحرية ما قامت به إسبانيا والبرتغال من قبل عند سيطرتهما على بحار العالم بفضل الأسطول البحرى، وكذلك دور بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، فقد أمكن عن طريق سيطرة بريطانيا على البحار حصار قوى المحور، كما أمكن نقل الإمدَادات والرجال من المناطق البعيدة لتنزل في فرنسا وبريطانيا والبلقان لمواجهة قوات ألمانيا البرية، وكانت القوة البحرية في هذا الصراع هي العامل الحاسم في الانتصار.

كما قضت القوة البحرية البريطانية على طموحات فرنسا بعد أن احتل نابليون مصر في نهاية القرن الثامن عشر عندما هاجمت بريطانيا القوات الفرنسية بأسطولها البحري في الإسكندرية، كما قطعت عنها الإمدَادات التي تأتيها من فرنسا عبر البحر المتوسط، وبذلك كان الأسطول البحري هو العامل الأَسَاسي في الانتصار على فرنسا وإرغامها على مغادرة مصر تحت هذه الضغوط.

ولتلك الأسباب كانت اهتمامات نظرية ماهان تنصب على القوة البحرية التي تأثرت بها قوى أُخرى مثل ألمانيا النازية التي شرعت ببناء غواصاتها وسفنها البحرية.

وطرح ماهان ستة شروط لإنشاء قوة بحرية:-

1-ميزة التموضع الجغرافي.

2-شواطئ مناسبة للموانئ وموارد كبيرة ومناخ مناسب.

3- مساحة كبيرة من الأرض.

4- كتلة سكانية تسمح بالدفاع.

5- مجتمع مولع بالبحر والتجارة.

6- حكومة راغبة بالهيمنة على البحار.

وقد وجد ماهان من يشجعه في الولايات المتحدة أمثال ((وليم سيوارد)) الذى كان يشغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس لنكولن.

نظرية ماهان كانت موضوعاً للنقد من قبل العلماء مثل ماكندر الذى رأى أن موقع الجزر البريطانية القريب من القارة الأُورُوبية هو الذى أعطى الأسطول البريطاني تلك القوة التي يسيطر بها على السياسة العالمية، كما أن فوست الإنجليزي انتقد نظرية ماهان في تناقص مساحة المنطقة التي تسيطر عليها القوات البحرية مقابل اتساع المناطق الخاضعة للقوات البرية، وكان يرى أن تسيطر القوة البرية على الممرات والمضايق البحرية ذات الأهميّة الاستراتيجية كذلك السياسي هارولد سبروت تعرض إلى الفرضيات الجيوبوليتيكية المتأثرة بالتطورات التكنولوجية الحديثة، فقد أشار إلى أن ماهان لم يراع في وقته التغيرات السريعة والمُستمرّة في مجال الصناعة والنقل خلال القرن التاسع عشر، ولا سيَّما تطور وسائل النقل البرية واستخدام الطائرات، ولذلك حكم على الأحداث التي وقعت في نهاية القرن التاسع عشر بعقلية القرن السابع عشر، فهو لم يدخل في تقديره تزايد القوة الجوية في فرض الحصار والهجوم على الأقطار الجزرية، وأن النقل البرى سينافس النقل البحري، وبذلك ترجح الكفة لغير صالح القوة البحرية المتمثلة في بريطانيا وقتها.

أيضا انتقد ولتر ملز نظرية القوة البحرية لماهان من خلال تجارب الحرب الكورية ومظاهر التسابق في التسلح بين الدول بأنه أعطى للقوة البحرية درجة أكثر فاعلية في أحداث التأثيرات، فقد أعطاها-صفة الاستقلال في إحراز النصر، بينما يرى ملز تعادل القدرة المؤثرة لكل من القوة البحرية والقوة البرية في الهجوم والحصار، فكما تستطيع القوة البحرية ممارسة قوتها في الحصار والتدمير وإغلاق الطرق المائية، فَـإنَّ القوة البرية يمكنها عمل كُـلّ هذه المهام أَيْـضاً.

واعتبر استخدم ماهان لمصطلح «القوة البحرية” غير واقعى؛ لأَنَّ البحار والمحيطات تكتسب أهميتها من خلال ارتباطها بالقوة البرية وأن هدف الحرب هو احتلال الأرض والسيطرة على مواردها وسكانها.

كذلك انتقد ملز ادِّعاء ماهان بإمْكَانية السيطرة على البحر بصورة كاملة بفضل القوة البحرية؛ لأَنَّ من الصعب السيطرة على البحار كما يصعب السيطرة على الجو بكامله أَيْـضاً، فقد ثبت صعوبة إصابة الأهداف في كثير من الحالات من قبل القوات الجوية أَو البحرية نظراً لزيادة القدرة على المقاومة في السنوات الأخيرة.

 

2- النظرية البرية -القلب -ماكنيدر

الذي كتب ورقة بعنوان “المحور الجغرافي للتاريخ”. وَاقترح فيها أن السيطرة على أُورُوبا الشرقية أمر حيوي للسيطرة على العالم والتي عرفت فيما بعد باسم نظرية هارتلاند أَو القلب والتي افترض فيها ماكنيدر ما يلي:

1- من يحكم أُورُوبا الشرقية يسيطر على هارتلاند.

2- من يحكم هارتلاند يأمر جزيرة العالم.

3- من يحكم جزيرة العالم يأمر العالم.

القلب -إشارة إلى المنطقة المحورية كجزء أَسَاسي من أوراسيا، واعتبر كُـلّ أُورُوبا وآسيا باسم جزيرة العالم.

ماكندر أحد مؤسّسي (الجيوبوليتك)، وهو العلم الذي يفسر العلاقات الدولية على أَسَاس المواقع الجغرافية لمختلف البلدان والتي يمكن إيجازها بالتالي:-

أن البحار تغطي حوالي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية في حين أن اليابسة لا تزيد عن ربعها، وفي هذا الجزء من اليابسة تقع منطقة عمرانية يشغلها حوالي سدسها من السكان وهي آسيا وأُورُوبا وأفريقيا، وتتميز هذه المناطق الثلاث من اليابسة بخصائص رئيسية هي:

1- أنها تمثل أكبر منطقة مستوية في العالم ممتدة من سهل آسيا إلى باريس.

2- يتخلل هذه اليابسة مجموعة من الأنهار.

3- تعمر اليابسة أراضي زراعية وهي تيسر انتقال الشعوب فيها.

4- القارة الأمريكية فموقعها بالنسبة إلى هذه المنطقة أشبه بموقع إنكلترا بالنسبة لأُورُوبا، وتوازن صاحب النظرية بين اليابسة والمياه فيقول: (إن اليابسة قابلة للتمليك أما البحار فلا تدخل في ملكية أحد، والدول الواقعة على البحار تغلب عليها الروح التجارية بينما القائمة على اليابسة تغلب عليها روح تملك العقار واستغلاله.

ويؤكّـد أنه لو نشبت حرب بين دولة بحرية وأُخرى ليست بحرية فَـإنَّ الانتصار يكون من نصيب الدولة البحرية إذَا استطاعت أن تسيطر على الموانئ ومداخل البلاد.

ومن الأفكار التي نادى بها أصحاب هذه النظرية أن الذي يسيطر على أُورُوبا الشرقية تسهل عليه السيطرة على المنطقة الرئيسية ومن يسيطر على المنطقة الرئيسية يمكنه أن يحكم العالم أَو الجزيرة العالمية، وقد تأثرت الحركة النازية في ألمانيا بهذه النظرية وكان يراد من وصول الجيش الألماني إلى قلب هذه المنطقة السيطرة على بقية جهات العالم.

وتعتبر نظرية ماكندر ليست مهمة حَـاليًّا نظراً للاختراعات العلمية التي مكنت الدول المتقدمة من السيطرة على بقية دول العالم اقتصاديًّا وسياسياً.

كذلك أثرت على التفكير الاستراتيجي للقوى الغربية خلال الحرب الباردة بين الاتّحاد السوفييتي والولايات المتحدة، حَيثُ كان الاتّحاد السوفيتي يسيطر على دول الكتلة الشرقية السابقة.

كذلك تعرضت تلك النظرية للكثير من النقد والتصويب.

 

3- نظرية القوة الجوية (للكسندر سفرسكي)

وتستمد نظرية القوة الجوية صياغتها الفكرية من افتراض مفاده أن السيطرة على الجو تتيح إمْكَانية عالية للسيطرة على الأرض.

ورغم بساطة النظرية فقد غيرت الكثير من مفاهيم السوق العسكري ومحاور القوة الجيوبوليتيكية والجيواستراتيجية ذلك أن الخصائص الاستراتيجية للمجال الجوي تعالج في الواقع مضمونه الجيواستراتيجي معتبرة إياه مجالاً ينطوي على أهميّة فائقة تتجاوز المجالين البحري والبري.

واعتبر القوة الجوية مفتاح البقاء والسيطرة على العالم من خلالها، حَيثُ رسم سفرسكي خريطة ذات مسقط قطبي “القطب الشمالي” ووضع فيها الأمريكيين جنوب القطب وأوراسيا وإفريقيا في شمال القطب، (العالم القديم والعالم الجديد) وعلى ضوء ذلك فَـإنَّ، السيادة الجوية الأمريكية تشتمل على كُـلّ الأمريكيتين بينما منطقة السيادة الجوية السوفيتية تغطي جنوب وجنوب شرق آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

لكن منطقتي النفوذ الجوي تتلاقى وتتصادم في مناطق أُخرى هي أُورُوبا الغربية وشمال إفريقيا والشرق فضلاً عن أن نفوذ القوة الجوية الروسية يغطي أمريكا الشمالية، وبالمثل تغطي القوة الجوية الأمريكية الهرتلاند الأوراسياوي، ومنطقة تداخل السيادتين الجويتين البرية والبحرية والذي سماها سفرسكي -بمنطقة المصير- فهي منطقة الحسم في أية معركة بين القوتين كما أنها المناطق الجيواستراتيجية الأهم في العالم وقد عبر عن ذلك بمبدئه القائل:

ومن يسيطر على مناطق تداخل النفوذ الجوي يصبح بيده مصير العالم.

إجمالاً هذه أهم النظريات التي شهدتها الحروب العالمية الأولى والثانية وحتى في حقبة الحرب الباردة ويبقى للتفوق العلمي والتكنولوجي الحاصل الأثر الكبير في حسم نتائج الحروب خُصُوصاً بعد التطور الحاصل في البرامجيات وتقنيات المعلومات والأقمار الصناعية وتطور الأسلحة الحرارية والليزرية والنووية والتقدم في جميع المجالات العلمية كذلك هناك تأثير لا يقل أهميّة عن درجة التسليح والجاهزة الأُخرى يكمن في التطور الفلسفي والمذاهب الجديدة ومدى معرفة وَتأثير الجيوبولتيك في الصراع وتسخيره المعركة حسب التوجّـه الاستراتيجي والجيوسياسي في تحقيق الأهداف.

  • كاتب عراقي- رفيق الشهيد أبو مهدي المهندس
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com