التسليمُ المطلقُ أَسَاسُ الوعي للمؤمن

 

د. يوسف الحاضري

يطوفُ الناسُ حول الكعبة ويقبّلون الحجرَ الأسودَ ولا يعلمون لماذا يقومون بذلك غير أنه ناتجٌ عن تسليمهم المطلق لله سبحانه وتعالى، كما أنهم يقاتلون في سبيله ويسفكون دماءهم وأرواحهم غير أنهم يعلمون لماذا يقومون بذلك في إطار أَيْـضاً التسليم المطلق لله -سبحانه وتعالى- في إطار الوعي، فالتسليم الواعي هو جزء من التسليم المطلق لله -عز وجل- وهناك تسليمٌ لأنبيائه وأوليائه.

كلُّ مخلوقات الله في السماوات والأرض تحت قدرة وإدارة وقوة الله -سبحانه وتعالى-، وأعطيت جميعها بمن فيهم الإنس والجن والملائكة الخيار في التسليم لله عز وجل، بين أن تسلم له طَوعاً أَو كرهاً فاستجابت السماوات والأرض طوعاً: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهناك من الجن والإنس من أصبح في إطار التسليم وهو غير راغب، أي أنه في حالة عصيان وانحراف غير أن ذلك لا يمنعُه أَو يعطيه قدره ليخرجَ عن إطار قدرة وقوة الله وسيطرته: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَـمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيجزي الذي سلم له طوعاً بالحسنى ويجزي الذي سلم له بالإجبار بالعذاب.

وهنا يأتي التساؤلُ الهام جِـدًّا عن كيفية التسليم لله -سبحانه وتعالى-، وهنا يأتي دور الكتب السماوية والرجال الذين يوضحونها ويعلمونها للناس متمثلين في الأنبياء والرسل والأولياء، فيحركون الناس بالقرآن الكريم وليس بغيره على الإطلاق، حَيثُ إن القرآن ما فرّط الله فيه من شيء وتأتي ما تسمى أحاديثُ النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- في نطاق القرآن الكريم أنها جزء من القرآن وليست منهجية بحد ذاته منفصلة أَو مكملة عن القرآن، فالنبي مسلِّمٌ تسليماً كاملاً لله سبحانه وتعالى في كُـلّ أوامره ونواهيه: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وهناك قضايا كان النبي يعلم خلفياتها فيوضحها للناس وهناك قضايا كان لا يعلم خلفياتها في تلك اللحظة أَيْـضاً فيأمر الناس والنتيجة النهائية هي التسليم المطلق للنبي الذي هو تسليم مطلق لله؛ لأَنَّ النبيَّ لن يتقوَّلَ عن الله شيئاً بعيدًا عما يريد الله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) ومصداقية النبي هي تعكس مصداقية من اختاره أي مصداقية الله لذا وجب علينا أن نسلم تسليماً مطلقاً للنبي سواءً وعينا وفهمنا خلفيات الأمور أم لم نعرفها؛ لذا جاء الله بقصة نبي الله موسى مع الرجل الصالح ليوضح الله لنا من خلالها أن هناك قضايا قد تؤلمنا وتوجعنا غير أن نتائجها عظيمة وخيرٌ لنا وما علينا إلا أن نسلِّمَ لله -سبحانه وتعالى- في كُـلّ جوانب حياتنا شرط أن نكون متحَرّكين كما يريد الله -عز وجل- واثقين بالعقبى أنها خير.

وبالمثل ينطبقُ الحالُ على الذي يختارهم النبي محمد من بعده ليمثلوه في فترات عدم تواجده حتى آخر الزمن (تركتُ فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً… كتاب الله وعترتي أهل بيتي فَـإنَّ العليم الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وآلُ بيت رسول الله مصداقيتُهم من مصداقية رسول الله الذي هو مصداقية الله، أي الإمام علي ومن اختاره من بعده مُرورًا إلى يومنا متمثلاً بالسيد عبدالملك الحوثي، الذي تتجسّدُ فيه كُـلُّ علامات وأدلة وبينات ولي الأمر الذي يتحَرّك بالقرآن كتحَرُّك الرسول محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- والذي لا يمكنُ بأي حالٍ من الأحوال أن يأتيَ بأي تحَرّك أَو توجّـه خارجٍ عن القرآن كتلك الأُطروحات المنحرفة وإن جلد ظهرك وأخذ مالك؛ لأَنَّ هذه منهجية خط الانحراف في الأُمَّــة وهنا اتضحت الرؤيا لمن يجب أن نسلّم لهم تسليماً مطلقاً في كُـلّ أمورنا التي تتضح لنا ويوضحها لنا وتلك التي لا تتضح لنا ولكن نثق في نتائجها المستقبلية ومن أمثلة ذلك: (تحالفه مثلاً مع عفاش وكيف كانت كثير من النفوس متضايقة غير أن النتائج جاءت بما لم نكن نتوقعه في الجانب الإيجابي).

نأتي الآن للنوع الثالث الذي تضمنته الآية الكريمة بقولها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) توضح الآية أن هناك طاعة مطلقة لله والمتمثل في القرآن الكريم (الرابط بيننا وبين الله) والرسول (ومن يدخل في مسار الرسول ممثلاً بأعلام الهدى والذي يتحَرّكون بالقرآن) وهناك طاعة غير مطلقة بل طاعة واعية في إطار الحق وهذا يتمثل في أولي الأمر منا (وأولي الأمر منكم) الذين من بيننا في إطار الحق والقرآن ويخرج من هؤلاء من يتولى اليهود والنصارى الذين يتحولون إلى منهم وليسوا منَّا (ومَن يتولهم منكم فَـإنَّه منهم)؛ لذا يكون النوع الثالث هم رئيس الجمهورية ومن تحته من النظام أصحاب القرار والذي وضح الله في سياق الآية أنهم منا أي مستوى وعيهم القرآني مثلما هو مستوانا (منكم)؛ لذا قد يحصل خلاف ونزاع بيننا وبينهم لذا قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ولم يقل وإلى أولي الأمر؛ لأَنَّ النزاع بيننا وبينهم أَسَاساً لذا نعيد المشكلة ليحلها الله عبر القرآن الكريم وولي الأمر الذي يستوعب القرآن أشمل وأوضح وأكمل ويتكلم بالحلول من القرآن والذي يحل كُـلّ مشاكلنا بطبيعة الحال؛ لذا فطاعتُهم تشمل اتّباعهم بالمعرفة والعلم والوعي وليس تسليماً مطلقاً على الإطلاق بل يجب تصحيح أية أخطاء تحدث منهم ونصحهم واستشارتهم وتنبيههم حتى إذَا أصروا على خطئهم نصل إلى حَــدِّ الخلاف معهم ليصل الأمر لعلم الهدى (خط الرسول) ليحل الخلاف وعند حَـلّ الخلاف علينا أن نسلم تسليماً تنفيذاً لتوجيه الله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أنفسهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

نقاط إضافية لمن يضعُ كلاماً أن الأنبياء أَيْـضاً لا يمكن أن يصبروا على أمور لا يفهمون مغزاها وهذا جانبُ الصواب جملةً وتفصيلاً، فنبي الله إبراهيم ونبي الله إسماعيل -عليهما السلام- عندما أمرهم الله بعملية الذبح لم يستوضحوا من الله عن الأسباب بل انتقل الحديث بينهما البين (يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك…).

وكذلك لم يستوضح إبراهيم عن أسباب أمر الله له بأن يأخذ زوجته وابنه إلى وادٍ غير ذي زرع بلا أكل ولا ماء ولا حماية ولا أمن ولا شيء بل استجاب رغم أن الأمرين كانا خارج نطاق منطقنا وعقلنا وقوانينا إلَّا أن نتائجَ الاستجابة المطلقة كانت عظيمة جِـدًّا، كذلك ولي الله طالوت عندما أمر جيشه إلَّا يشرب من ماء النهر رغم أنه ماءٌ حلالٌ زلالٌ وَأَيْـضاً جيش يتحَرّك في مواجهة أعداء أي معركة مفصلية ويحتاجون لأكبر قدر من الإمْكَانية لدرجة أنه طرد الذين شربوا من ماء النهر رغم عطشهم الشديد رغم أنها معركة مفصلية، العقل والمنطق يقول بأن تجمع أكبر قدر ممكن من المقاتلين، غير أن تسليم مَن سلّم له تسليماً مطلقاً من منطلق وعيهم الناتج عن ثقتهم به أنه مسار الربط بالله عز وجل، فجاءت النتائج عظيمةً جِـدًّا، كذلك أهل اليمن في زمننا هذا عندما استجبنا للسيد ولي الله عبدالملك الحوثي للتحَرّك ضد العدوان رغم أن العقل والمنطق يقول ألا نجابهَ هذا العدوّ لفارق إمْكَانيتنا؛ لذا جاءت نتيجةُ استجابتنا المطلقة عظيمةً جِـدًّا، والأمثلة كثيرة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com