خطابُ الرئيس لهيئة المظالم.. الرؤية والتوجّـه

 

عبد الرحمن مراد

حمل خطابُ الرئيس المشاط مضامينَ متعددةً معبرةً عن التوجّـه الذي عليه المسيرة القرآنية في دفع الظلم ورفع المظالم عن كاهل الناس، وجاء خطاب الرئيس أمام هيئة المظالم كامتدادٍ لذات المنهج في مكافحة الفساد والحد من ظواهره في حياة الناس والمجتمع.

وقد لفت نظري تأكيدُ الرئيس على تحديدِ المفاهيم وهي المدخلُ الأَسَاسُ لمعرفة الإشكاليات في كُـلّ القضايا الشائكة، فالظلمُ انحرافٌ عن الفطرة السليمة، يتداخل بشكل أَو بآخر مع الفساد الذي يدُلُّ مفهومُه على ذات المدلول كانحراف عن الفطرة السليمة؛ ولذلك نجد الظلمَ في أبسط تعريف له أنه وضعُ الشيء في غير موضعه وهو الجور، وقيل هو التصرف في مِلك الغير ومجاوزة الحد.

ويُطلَقُ على غياب العدالة أَو الحالة النقيضة لها، وقد يكون الظلم ناجماً ببساطة عن اتِّخاذ قرار بشري خاطئ وفي المفهوم العام للشريعة هو عبارة عن التعدي والميول من الحق إلى الباطل.

والظلم والعدل حالتان نسبيتان متداخلتان محكومتان بالقياس الأخلاقي والقانوني الذي يتواضعُ عليه الناسُ أَو الأممُ في زمنٍ ما أَو حقب تاريخية، وهو محكومٌ عندنا بالفطرة السليمة وبالشريعة التي حدّدت البُعد القيمي والأخلاقي للفرد والمجتمع وكان للعلماء وللفكر صولات وجولات فيه.

والظلمُ يلتقي عندَ ظاهرة الفساد في الدلالة الاجتماعية والسياسية، فالفسادُ في معاجمِ اللغة العربية، من الفعل فسد ضد صلح، وهو البُطلان فيقال فَسَدَ الشيء أي بطل وَاضمحل.

واصطلاحاً هو انحرافُ أَو تدميرُ النزاهة في أداءِ الوظائفِ العامةِ من خلالِ الرشوةِ والمحاباةِ، واختلال في قيم المجتمع ينتج عنها ظلم للإفراد أَو الجماعات.

ويرى البنك الدولي أنّ الفسادَ هو استعمالُ الوظيفة العامة للكسب الخاص غير المشروع (ليس له أيُّ مبرّر قانوني).

ومن هنا يصبح الفساد علاقة وسلوك اجتماعي، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة، لهذا يصنف المختصون في قضايا الفساد أنواعه إلى واسع وضيق.

هناك أنواعٌ متعددةٌ للفساد، فمنها الفساد المالي، والفساد الإداري، والفساد الأخلاقي، وأشدُّها خطورةً وتأثيراً الفساد السياسي، والفساد هنا يوازي الظلم فهما صنوان؛ ولذلك كان تأكيد الرئيس على المفاهيم.

لقد كان الرئيسُ مدركاً أننا وصلنا إلى مرحلةٍ من الالتباس في المفاهيم، وتفسّخ القيم، وتماهيها، والتحلُّل الأخلاقي، وكاد مثل ذلك أن يتحولَ إلى ظاهرة ثقافية في أذهان الكثير، إلى درجة سماعك عبارات التأنيب واللوم في الوسط الاجتماعي، لأُولئك الذين ينأون بأنفسهم عن مستنقعات الرذيلة وهو الأمر الذي كان على تناص كامل في الخطاب وحذر من الوقوعِ في مستنقعه لكون الدافع إليه المصالحَ الشخصيةَ وليس الصالح العام.

في عالم اليوم الذي أفسدته قيمُ النظام الرأسمالي، أصبح الملتزمُ قيمياً وأخلاقياً، شاذاً، وعفيفُ اليد أحمقاً، وأصبح المنصبُ غنيمةً وفيداً، والتبس مفهومُ الدولة والسلطة، وتداخلا.. مما تسبب في ضياع قيم الانتماء الوطني، وأضعف مشاعر الولاء والحب للوطن، وضاعف كُـلّ ذلك من فقدان الهُـويَّة، وأدى إلى شلل الأمانة والمسئولية، فشاع الظلم والفساد، وتأصّلا كثقافة في أذهان المجموع.

هذه الثقافة تماهت مع طبيعة الإنسان العربي التي تميل إلى الفوضى واللاانتظام وهي طبيعة هدامة، كما قال عنها ابن خلدون في مقدمته، ولا يمكنها الانتظام إلَّا بعاطفة دينية.

لذا يتوجبُ في البدء تزكيةُ الروح وإخراجُها من درن الفوضى إلى عقد الانتظام، عن طريق إحياء القيم والمثل الدينية، الرامية إلى التهذيب والتزكية والتعليم ونشر العلم والثقافة عن طريق استثمار كُـلّ الوسائل والإمْكَانات المتاحة، وإحياء دُور المسرح والمنابر، وتجديد الخطاب بما يتواءم ومعطيات العصر، والاهتمام بالدراما والفنون وتوظيفها في إصلاح المسار الأخلاقي.

كما يتوجبُ تعزيزُ دور مؤسّسات المجتمع المدنية في مكافحة الفساد وبناء قدراتها في هذا المجال، إذ أن ثمة مؤشراتٍ متناميةً لبعض المنظمات غير الحكومية في رصد حالات الفساد والدفاع عن المجتمع إزاءها، قد بدأت تؤتي أكلها، من حَيثُ فضح الممارسات الفاسدة، وتعبئة الرأي العام للضغط في سبيل وضع سياسات قوية لمكافحة الظلم والفساد.

ويبقى الوعيُ والتوعية القانونية ضرورةً ملحةً في حاضرنا ومثل ذلك مسئولية جماعية، ولا بد أن تجاوز فتوى ابن تيمية –باعتبَارها حملت تبريراً تداخل في البناء الثقافي والسلوك العام في المراحل السابقة- التي تبرّر الانهزام الأخلاقي أمام سطوة الواقع وجبروته من خلال تمتين المسار النظري الذي اختطته الإمام علي عليه السلام وقد كان ذلك واضحًا من خلال خطاب الرئيس الذي استلهم هذا المسار عبر الكثير من المقولات النظرية للإمام علي عليه السلام وللحسن والحسين عليهما السلام، حَيثُ ورد في الخطاب “يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم”، وهي مقولة مشهورة للإمام عليه السلام في نهج البلاغة.

كان خطابُ الرئيس امتداداً واضحًا لمنهج آل البيت في تحقيق الحدود الكافية من العدل في بنية المجتمع، وهو اشتغالٌ متوالٍ للرئيس بدءًا من إعلانه الحرب على الفساد وانتهاءً في مأسَسَة هيئة المظالم التي كانت كمؤسّسة مدنية، ولعل كلام الرئيس في الفقرة التي تقول:

“مثلُ هذه الورش هي فرصةٌ مهمةٌ جِـدًّا لتلاقُحِ الأفكار والخروجِ برُؤًى موحدةٍ؛ لأَنَّه قد تكونُ لدى أحد منا إشكاليةٌ والآخر لديه الحلُّ، الورشُ هي تأتي علاجاً لمثل هذه الإشكالات التي طُرحت أَو التي طرحتموها ولم تُطرَحْ في هذا الاجتماع، هذه حالةٌ طبيعيةٌ جِـدًّا”.

هذا التوجّـه يشجعُنا على القول إن الظلم والفساد حالتان متلازمتان وكل مفهوم المصطلح يصب في حقلٍ دلالي واحد وهو اضطرابُ الفطرة وانحرافُ السلوك وانتهاك قواعد السلوك الاجتماعي فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة، وبالتالي فنحن لدينا هيئة مكافحة الفساد وهي معنية بحماية النزاهة ورفع المظالم فالوظيفة واحدة والهيئة قائمة وتحتاج إلى تجديد وتحديث في الأهداف وتعديل في القانون لتكون أكثر تعبيراً عن المرحلة، وبحيث تكون جزءاً من السلطة القضائية ويتم تزكيةُ أعضائها من المجلس الأعلى للقضاء وتضم نخبةً من ذوي العلم والنزاهة والشرف لتقوم بواجبها الاجتماعي والثقافي والوظيفي، وعلى ذات النسق يعدّل قانون الجهاز المركزي للرقابة بحيث يصبح تابعاً للسلطة الرقابية والتشريعية –مجلس النواب-، فالبناءُ هو عمليةٌ ذاتيةٌ لتعزيز قدرات ومؤسّسات وشرعية الدولة من خلال علاقات الدولة بالمجتمع، وقد نص خطاب الرئيس على ذلك في مضمون الفقرة التالية:

“أُبَارِكُ لكم هذه الورشة، أُبَارِكُ لكم النتائجَ التي ستخرجون بها من خلال مفاهيمَ موحَّدةٍ، وهذا شيءٌ مهمٌّ جِـدًّا، نحن نتحدثُ في السلك التنفيذي للحكومة ومؤسّسات الرئاسة وكل جهات الدولة، من المهم أن نخرجَ بمفاهيمَ موحدةٍ حتى تكونَ آلياتُنا موحدةً؛ لأَنَّه إذَا لدي مفهوم والآخر لديه مفهوم يعني هناك مشكلة في الإجراء؛ لأَنَّ الإشكاليةَ منشاؤُها الفكرُ، منشاؤُها النفسُ، إذَا كان الإشكالية ما زالت موجودة لديَّ في فهم معين، بالتالي ستنعكس على آلياتي وعلى أدائي العملي”.

ومفهومُ بناء السلام الاجتماعي يشيرُ إلى تحديدِ البُنَى ودعمها، في حين أن هذه البنى مهمتُها ترسيخُ وتفعيلُ السلام الاجتماعي وتمكينُه حتى نكفل عدم الانجرار إلى صراعات جديدة، ومثل ذلك يتطلب نشوء ما يُعرف بالدبلوماسية الوقائية، وأَسَاسُ هذا المطلب تعاونُ عدة جهات للعمل كفريق وطني واحد بشكل دائم وواضح المعالم لحل الصعوبات والمعضلات التي تواجه الفرد أَو الجماعة سواءٌ أكانت تلك الصعوبات إنسانيةً أم ثقافية أم اجتماعية أَو اقتصادية؛ كون هذه المشكلات مجتمعة أَو منفصلة هي السبب المباشر في اضطراب السكينة العامة وفي تبعيد المسافة بين الحق والباطل، وهو الأمر الذي يحرص كُـلَّ الحرص على تجنب الوقوع في مستنقعه قائد الثورة الذي بادر إلى تشكيل هيئة المظالم حتى لا تكونَ المظالمُ سبباً في تأخير النصر أَو شيوع الباطل وتمكينه في الحياة.

لقد حمل خطابُ الرئيس مضامينَ ثوريةً على الظلم والفساد والفوضى، وهو دالٌّ على سلامة المنهج وعلى الرؤية السليمة للبناء، ولعل الرئيسَ في معركته لتأسيس بُنَى الدولة الحديثة والعادلة يحتاجُ إلى تظافُرِ الجهودِ التي تُعينُه ولا تخذُلُه في الوصول إلى الغايات والأهداف.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com