الجهاد في فكر وواقع حياة الإمام الهادي إلى الحَــقّ يحيى بن الحسين عليه السلام في ورقة عمل مقدمة في ندوة نظمها المجلس الزيدي (2 _ 3) .. حظر الجهاد مع جميع مَن خَلَق الله تعالى من العباد إلا من اصطفى

الدكتور خالد القروطي

 

تابع للمبحث الأول: الجهاد في فكر الإمام الهادي

التعوذ من عدم القيام بفريضة الجهاد:

وفي إشارة بليغة يُلفِتُ الإمامُ الهادي ذهن كُـلّ مسلم واعٍ إلى خطورة التخلف عن الجهاد في سبيل الله من خلال تعوذه من ذلك التصرف.

يقول: (ونعوذ به من الإعراض عن جهاد الفاسقين، الذي لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فإن من أعرض عن جهادهم فقد برئ من الله، وبرئ اللّه منه، وبَعُدَ من حزب الرحمن، وصار من حزب الشيطان، (أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ).

 

الحسرة والندم عن التخلف عن الجهاد:

وهنا نجد الإمام يبين أن الحسرات والندامة الناتجة عن التخلف عن الجهاد لا يعدلها شيء، حيث يقول: (فيطلبون حينئذ الرجوع إلى ما كانوا فيه من الفناء، ويتمنون الموت والبلى، ويقولون: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون)، فحينئذ تقطع قلوبهم حسرات، وتراكم عليهم الغموم والندامات على ما فرطوا فيه من العمل بما أمر هم الله به، والقيام بأكبر فرائضه، من الجهاد في سبيله، والمعاداة لأعدائه، والموالاة لأوليائه).

 

حظر الجهاد إلا مع من اصطفاه الله، وبيان الأسباب المترتبة على مخالفة ذلك:

وَلما كان الجهاد بهذه القيمة والمنزلة العظيمة في فكر الإمام الهادي، فإنه قد حظر الجهاد مع كُـلّ داعٍ إليه، ممن لا تتحقّق فيه شروط الولاية على الأمة.

يقول: (ثم إنَّ الله، جل جلاله عن أن يحويه قول أَوْ يناله، حظَرَ الجهاد مع جميع مَن خَلَق من العباد إلا من اصطفى، وأؤتمن على وحيه من عترة رسوله صلى الله عليه وعليهم، الذين هدى بهم الأمة من الضلالة والهلكة).

لما في الجهاد من القتل والقتال، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، وهتك الحريم، وغير ذلك من الأحكام، وذلك فلا يكون إلا بإمام مفترض الطاعة.

 

العُذرُ للإمام عند تخاذل الأتباع:

ولم يغفل الإمام أيضاً الحديثَ عن العُذر المجيز لإمام المسلمين المحق عن ترك الجهاد، وذلك هو عدم وجود الأتباع الذين يقوم بهم هذا الأمر، أَوْ تخاذلهم وتهاونهم وتقصيرهم وتفريطهم.

مستدلاً على ما يقول ومهتدياً بسيرة أسلافه العظماء من أئمة أهل البيت المطهرين، وهو القريب منهم، والجامع لعلومهم.

يقول: (كذلك فعل الحسن بن علي حين خولف وعُصِيَ ولم يجد على الحَــقّ متابعاً ولا ولياً، فخرج لما أن أخرج وترك لما أن ترك، ثم كان من بعد ذلك متربصاً راجياً طامعاً بالأعوان المحقين ليقوم بما ألزمه الله من جهاد الظالمين، فإذا صار الإمام من خذلان الرعية له والرفض لأمره وقلة الأنصار على حقه إلى ذلك فعل كما فعل الحسن من قبله).

 

الجهادُ لا يسقط عن الفاسقين:

وفي كتاب الأحكام الجامع لمسائل الحلال والحرام عقد باباً لبيان جواز الاستعانة بالفسقة من هذه الأمة على الجهاد، وأن فسقَهم غيرُ مانع لهم ولا لإمام المسلمين في ذلك.

وبيّن شروط ذلك، واستدلَّ على ما ذهب إليه بأفعال رسول الله وأفعال أمير المؤمنين علي في ذلك، كما سنبينه في موضعه من كلامه: باب القول في الاستعانة بالمخالفين على الظلمة الفاسقين.

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: (لا بأس بأن يستعان بالمخالفين الفاسقين على الفجرة الكافرين).

وفق شروط حدّدها الإمام بقوله: (إذا جرت عليهم أحكام المحقين، وأقيمت عليهم حدود رب العالمين، وكانوا في ذلك غير ممتنعين، وكان مع الإمام طائفة من المحقين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويخيفون من خالف ذلك ممن كان في العسكر).

ثم قام الإمام بعد ذلك ببيان الحُجّة على جواز الاستعانة بهم قائلاً: (ولو لم يجز ذلك لما كان نصر الحَــقّ والمحقين فرضاً من رب العالمين على جميع الفسقة المخالفين، والجهاد فهو أفضل فروض رب العالمين، ولو سقط فرض الجهاد عن الفاسقين مع الأئمة الهادين لسقط عنهم ما هو دونه من أعمال العاملين من الصلاة والصيام وغير ذلك من أفعال الأنام، بل فرائض الرحمن واجبة على كُـلّ إنْسَان في حال الفسوق والإحسان، وأحكام الله قائمة جارية في ذلك كله عليهم، وعلى الإمام حثهم وأمرهم بجميع طاعة ربهم، والجهاد فأفضل فرائضه سبحانه فعليه أن يأمرَهم به، ويحُضُّهم عليه، وإن كانوا للحق مخالفين وعن طريق الرشد حائدين إذا جرت عليهم الأحكام وعلا على باطلهم نورُ الإسْلَام).

وشرَعَ لبيان ما ذهب إليه في ذلك ببيان السيرة والسّنة العملية للنبي صلوات الله عليه وآله ولأمير المؤمنين قائلاً:

(وقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الجهاد ويأمر به جميع العباد، ويستعين على الكافرين بكثير من الفسقة المنافقين الظلمة المخالفين، وكذلك كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقاتل من قاتل بمن معه من الناس وفيهم كثير من الفسقة المخالفين الظلمة المنافقين الخونة الظالمين).

وفي ذلك ما روي عنه من قوله بعد رجوعه من صفين وهو يخطب على المنبر بالكوفة فتكلم بعض الخوارج فقال: لا حكم إلا لله ولا طاعة لمن عصى الله، فقال رحمة الله عليه: «حكم الله ننتظر فيكم، أما إن لكم علينا ثلاثاً ما كانت لنا عليكم ثلاث، لا نمنعكم الصلاة في مسجدنا ما كنتم على ديننا، ولا نبدؤكم بمحاربة حتى تبدأونا، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا»، فقال: «أيديكم مع أيدينا»، يريد في المحاربة لعدونا، فدل بذلك على الاستعانة بالمخالفين ما جرت عليهم أحكام رب العالمين.

حدثني أبي عن أبيه: أنه كان يقول في الاستعانة في محاربة الباغين بمن فسق من أهل الملة والموحدين فقال: يستعان بهم عليهم إذا أعانوا ثم لا سيما إذا ما خضعوا لحكم الحَــقّ واستكانوا؛ لأن الله سبحانه فرض عليهم معاونة المحقين وإن كانوا ظلمة فجرة فاسقين، كما فرض عليهم وإن فسقوا غير ذلك من الصلاة وغيرها من فرائض الدين.

وفيما فرض الله عليهم سبحانه من فرائضه وإن فسقوا أدل دليل على ذلك من أمرهم وأبين تبيين، وكيف لا يستعان بالفاسقين عليهم والمعاونة واجبة من الله عز وجل على الفاسقين فيهم ولا يحل لها في دين الله من مؤمن ولا فاسق تعطيل ولا ترك، وتركها وتعطيلها عند الله لعنة وهلك.

فإن قال قائل: كيف بما لا يؤمنون عليه مما حرم الله من الفجور والظلم، قيل له:

إن صاروا في ذلك إلى شيء حكم عليهم فيه بما يلزمهم فيه من الحكم، ولو حرمت الاستعانة بهم من أجل ما يخافون عليه من ذلك في الباغين لحرمت الاستعانة بهم على قتال المشركين؛ لأنه قد يخاف في ذلك من فجورهم وغشمهم ما يخاف على الباغين مثله سواء من ظلمهم.

وقد استنفر الله تبارك وتعالى المنافقين في سبيله وذمهم في كتابه على التخلف عن نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعن المؤمنين، وقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المشركين.

والمنافق أحق وأولى بأن يخاف ويتقى من موحد وإن فسق وتعدى وكان فاجراً مفسداً.

ولو حرمت على المؤمنين معاونتهم للزم المؤمنين طردهم فيها ومحاربتهم.

ولو كان في معاونتهم لهم اجتياح جميع الظالمين وفي تركهم الاستعانة بهم هلاك جميع المسلمين، لما حلت للمؤمنين منهم ما كانوا فاسقين معاونة ولا مناصرة.

ولا يحق على الفاسقين أن يكون منهم للمؤمنين إجابةٌ ولا مظاهرة وكيف يرونه يقول من قال بهذا القول أَوْ ذهب إليه في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه لو كان اليوم حياً سوياً في أهل ملته وفي من بقي اليوم من الأمم المختلفة، أيدعوهم وهم على ما هم عليه اليوم من الحال، بل إن دعاهم فاستجاب له طائفة منهم من الضلال إلى أن يقيم حق الله فيهم وفي العوام فهل يلزمه ذلك أن يحكم بينهم بما أمره الله به من الأحكام، أَوْ لا يحكم بأحكام الله عليهم لما بأن له من الفسق والضلال فيهم، أم يلبث فيهم ومعهم وبين أظهرهم ما أقاموا على ضلالهم وفسقهم أبداً مقيماً.

فكيف يكون ذلك وقد قال الله سبحانه: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا).

وإذا ترك الظالمين وهو يجد السبيل بهم وبالمسلمين إلى تغيير ظلمهم وجنايتهم وما أسخط الله منهم فذلك من أكبر سخط الله في المخاصمة والمجادلة عنهم، وقد قال الله سبحانه في مثل ذلك أيضاً وفيما أوجبه على رسوله فرضاً: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً) فنهاه تبارك وتعالى أن يجادل عن الخائنين أَوْ يكون لهم خصيماً، والمجادلة عنهم والمخاصمة دونهم أقل لهم في أنفسهم نفعاً وأضعف في نفعهم موقعاً من تركهم هملاً للخيانة وعليها ومن تعطيل حكم الله عليهم فيها.

فكفى بهذا على ما قلنا به شاهداً ودليلاً، وبما بأن به من سبيل الهداية وفيه لمن أنصف سبيلاً، وما به تبين هذا الباب وينير فأكثر والله محمود من أن يحصى له تفسير.

 

جواز إجبار وقهر الفاسقين على الجهاد والاستعانة بهم في ذلك:

ولم يكتفِ الإمامُ الهادي بما أورده في ذلك في الأحكام، ولكنه زادنا بياناً ووضوحاً في مجموعه الأصولي ليس فقد عن جواز الاستعانة بالفاسقين في الجهاد ودفع كيد الأعداء ولكنه هنا يجيز إجبار وقهر هؤلاء الفسقة على الجهاد جبراً وقسراً كما يقسرون ويجبرون على أداء سائر ما افترضه الله عليهم، قائلاً: (وهو أن يقال لمَن أنكر الاستعانة بالظالمين: أيها الجاهل هل عذر الله أحداً، وأطلق له ترك فرض من فرائضه، أَوْ أطلق له ترك إقامة طاعة من طاعته، فاسقاً كان المتعبد، أَوْ مؤمناً، أَوْ ظالماً أَوْ محسناً).

فإن قال: نعم! قد عذرهم الله في ترك فروضه، وأطلق لهم في وقت فسقهم وظلمهم رفض شيء من حدوده.

فقد كفر القائل بذلك، واجتزي بكفره عن مناظرته في شيء من دينه؛ لأنه يزعم أن الله سوغ للظالمين شيئاً من معاصيه، وأجاز لهم ترك فرائضه التي فرض، وهذا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله.

وإن قال: لا لم يجز الله لظالم في وقت ظلمه، ولا لفاسق في وقت فسقه ترك شيء من أداء فرائضه، والفرض لازم لهم، واجب عليهم.

قيل له: فأي فرض أكبر من الجهاد في سبيل الله، والقيام بمحاربه من عَنَدَ عن أمر الله، والمعاونة لأولياء الله؟

فإذا قال: لا فرض أكبر من ذلك.

قيل له: فمن أين أجزت لهم القعود عن نصره؟ ومن أين أجزت للإمام أن يدعهم من أداء هذا الفرض؟ ولم يجز له أن يكرههم عليه في حال فسقهم فضلاً عن أن يأتوه طائعين، ولحكمه مسلمين.

فإن أجزت للإمام أن يدع إلزامهم فرض الجهاد الأكبر وقد أتوه طائعين، ولفرض الله في الجهاد معه مسلمين، أَوْ أجزت له أن يترك الاستعانة بهم من طريق القهر لهم إن قدر على ذلك، أَوْ قلت لا يجوز أن يقهرهم على ذلك إن أطاق قهرهم، فضلاً عن أن يسلموا أَوْ يطيعوا، فيجب عليك أن تقول: إنه لا يجب على الإمام أن يقهرهم على طاعة الله كلها أَوْ فرائضه من الصلاة، والصيام، وغير ذلك مما هو دون الجهاد.

وقد أغنى الله من عقل بما كان من فعل رسول الله في ذلك، من الاستعانة بغير أهل الملة من اليهود، وغيرهم من مشركي الحبش، وكان يستعين باليهود في حربه، وبالمنافقين الكافرين به المستهزئين بحقه.

وكتاب الله يبين ذلك له من أمرهم، وينزل عليه بكرة وعشياً، وأمر صلى الله عليه وآله أصحابه الذين آمنوا به، وهم اثنان وسبعون رجلاً، أن يمضوا ويهاجروا إلى بلاد الحبش، وأمرهم أن يستعينوا به، وبطعامه وشرابه على من يريدهم بسوء، فجهزت قريش لما جاءوا إليه البُرد في أمرهم، وبذلوا الأموال في تسليمه إياهم إليهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه يسأله المعونة على قريش لأصحابه وله، وسأله أن لا يسلمهم وأن يعينهم على أمرهم، ففعل ذلك وأهدى إليه حراباً وبغلتين وشيئاً من الذهب، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكانت الحراب تُحمل قدامه وتُركز بين يديه إذا صلى.

وكذلك أهدى إليه ملك قبط مصر جاريتين وبغلةً وحُلَلاً من حلل مصر، فقبل ذلك كله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القبطي، والقبطي مشرك بالله، جاحدٌ لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاتخذ إحدى الجاريتين – ويقال إنهما كانتا أختين – فدعاهما إلى الإسْلَام فأسلمت واحدة، فوطيها فولدت له إبراهيمَ صلى الله عليه، ووهب الأُخْـــــرَى لحسان بن ثابت الأنصاري.

فأية استعانة أكبر من هذا أَوْ حجة أبين مما ذكرنا، والحمد لله، وهذا يجزي لمن عقل عن التطويل، إن شاء الله والقوة بالله.

وكذلك استعان صلى الله عليه وعلى آله في فتح مكة من أعراب فزارة، وغير ذلك من أعراب البوادي وجفاتهم، ممن هو مسلم لحكمه، غير عارف بحدود ربه).

 

الإعذار إلى العدو قبل الجهاد:

كما عقد الإمام باباً في كتابه الأحكام بيّن فيه للأمة الجانبَ العملي التطبيقي للجهاد، بيّن فيه كيف يفعل إمام المسلمين عند الزحف للقاء العدو سواء في تعليم جيشه المثل والقيم والآداب الإسْلَامية، أَوْ فيما يختص بالعدو من الإعذار والإنذار إليه، وإقامة الحجة عليه.

وذلك من خلال سيرة عملية مارسها، وأحكام شرعية أقامها وطبقها، وألزم نفسه وجيشه بها، وليست مُجَــرَّد افتراض لما ينبغي وكيف يكون.

 

إقامةُ الحُجّة على الأعداء:

أحبَّ للإمام إذا سار إلى لقاء عدوه أن يكتب كتاب دعوة ثانية فيسير رسولاً به أمامه حتى يسبق به إلى عدوه يدعوه فيه إلى ما دعاه إليه أولاً، فإذا نزل الإمام في المكان الذي يلقى فيه عدوه مواجهاً له بعث إليه رجلاً أَوْ رجلين أَوْ ثلاثة من ذوي العلم والفهم والعقل والرأي والدين والرجلة والدهاء والفطنة والتقى إن هو أمنه عليهم، فيصيرون إليه فيدعونه إلى الرحمن، ويزجرونه عن طاعة الشيطان، ويخوفونه بالله وعذابه وعقابه، ويذكرونه بالله والدار الآخرة، ويسألونه حقن الدماء والدخول فيما دخل فيه المسلمون من الخير والهدى، فإن أجابهم فهو منهم، وإن أبى ذلك عليهم رجعوا بخبره إلى صاحبهم.

 

كيفية إعداد الإمام لأصحابه وترتيبه لهم:

فإذا أراد الامامُ تعبئةَ عسكره وصف أصحابه:

فليصفهم صفاً من وراء صف كما يصطف الناس للصلاة، ويسوى بين مناكبهم ويحكم رصهم فإن الله سبحانه يقول: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، فإذا صفهم صفوفاً صفاً بعد صف يكون طول صفوفهم على قدر سعة معسكرهم، ويجعل في الصف الأول خيارهم وحماتهم، ويكون على ميمنته رجل ناصح شجاع، وعلى ميسرته رجل كذلك، ويكون هو في القلب أَوْ بين الصفين في حرجة من الخيل والرجال موثوق بهم متكل على دينهم ورجالتهم..

وإن أراد أن يكون في غير ذلك المكان كان، ويوقف من وراء الصفوف كلها جماعة من الفرسان ترد كُـلّ من شذ من العسكر أَوْ انثنى عن العدو، ويجعل في الصف الأول جناحين كثيفين على قدر قلة من معه وكثرتهم، ويولي على كُـلّ جناح رجلاً شجاعاً ديناً ناصحاً يختار له حماة الرجال وأبطالها وفرهة الخيل وعرابها، ويأمرهم إذا رأوا فرصة أَوْ غرة من عدوهم أن ينتهزوها ويفترصوها، ويأتوا من ورائهم إن أمكنهم فإن أمكنتهم تلك فليأتوا من ورائهم وليحمل الصف الأول عليهم من أمامهم ويتبعه الصفوف شيئاً شيئاً زحفاً زحفاً من غير افتراق ولا اختلاط، وإن لم ير الجناحان الحال حال فرصة ولا نهزة ثبتا على حالهما ولم يبرحا من موقفهما، فإن دهمت الميمنة وغشيت أمدّها الجناح الأيمن بأدناه إليها، وكذلك إن دهمت الميسرة وغشيت أمدها الجناح الايسر بأقربه إليها ولا يتضعضع، وكذلك إن غشي القلب وكثر أمدته الميمنة والميسرة ببعض رجالها.

ويوصي الإمام أصحابه بقلة الكلام والصياح والهرج.

فإذا أقام صفوفَه ونشر جناحيه، وأوقف مَن يرد شذاذ العسكر من ورائهم، وأوقف الناس على راياتهم، وولى على الخيل كلها وعلى الرجالة الولاة، وأحكم أمر عسكره.

 

رجوع إلى كيفية إقامة الحجة على العدو قبل مقاتلته:

فليأمر بالمصاحف فلتنشرْ أَوْ تعلق على الرماح، وليبرز بها نفر بين الصفين فينادون يا معشر الناس: ندعوكم إلى ما في هذه المصاحف من كتاب الله، فأجيبوا إليه وأطيعوا الله وأدخلوا فيما دخل فيه المسلمون من الحَــقّ، ولا تشقوا عصا المؤمنين وأحقنوا دماءكم ودماءنا، وارجعوا إلى الحَــقّ الذي أظهره الله لكم ولنا، ولا يستهوينكم الشيطان، ولا يخدَعنكم هذا الإنْسَان الذي يدعوكم إلى حربنا ويريد التلف بينكم وبيننا.

أيها الناس: ندعوكم إلى ما دعاكم إليه الله، ندعوكم إلى أن نحرم نحن وأنتم ما حرم الله، ونحل ما أحل الله، ونأخذ الحَــقّ ونعطيه، وننفي الظلم والجور، ونشبع الجائع، ونكسو العراة، ونصلح البلاد، وننصف العباد، ونجعل الكتاب أمامنا وأمامكم، ونتبع حكمه نحن وأنتم، فالله الله فينا وفي أنفسكم.

فإن أجابوا أَوْ أجاب بعضهم قرب وأكرم وأحسن إليه وعظم، وإن أبوا إلا التمادي في الضلال وإتباع الفسقة الجهال..

فليقل الجماعة التي تحمل المصاحف بأعلى أصواتهم: اللهم إنا نشهدك عليهم ثلاث مرات، ثم لينصرفوا إلى معسكرهم.

وإن أمكن الامام أن ينصرف عن حربهم ذلك اليوم، ورأى لذلك وجهاً ولم يخش على نفسه ولا على أصحابه من أعدائه مكروهاً ولا مكراً فعل، فإذا كان من الغد عبأ عسكره كما كان بالأمس ثم أخرج الدعاة بين الصفين معهم المصاحف وأمر بالكتاب الذي قرئ بالأمس عليهم أن يقرأ اليوم، فإن أجابوا وإلا أشهد الله عليهم وملائكته ورسله ثم انصرفوا إلى معسكرهم، فإن أمكن الإمام ورأى لذلك وجهاً أن يدفع ذلك اليوم دفعه؛ فإن ذلك أكمل للحجة فيهم، وأقرب إلى نصر الله عليهم.

 

رجوع إلى كيفية تعبئة الإمام لجيشه:

(فإذا انصرف فليجعل عليهم الطلائع والجواسيس، وليتحصن في نهاره وليلته بخندق إن أمكنه محيط بكل عسكره ويطرح حسيكا إن كان معه.

فإن لم يمكنه شيء من ذلك أمر القواد بتعبئة أصحابهم والحذر في ليلهم ونهارهم والمحارس وقلة الغفلة، واستعمال التوقع والمخافة لكَيد عدوهم، وأمرهم إن هجم على طائفة منهم إلا يتكلم ولا يصيح خلق من العسكر إلا من كان في تلك الناحية، فإن كان من ذلك شيء أمد موضع الصياح والتكثير بالرجال، وأوقد لهم ناحية من رحله على ساحة ناراً كثيرة عظيمة يأنسون إليها ويعلمون بتدبير صاحبهم لها.

فإذا كان اليوم الثالث برَزَ إلى عدوه وصف عساكره وعبأ جيوشه وخطبهم ووعظهم وأخبرهم بما أعد الله للصابرين.

ثم أمر الدعاة فخرجوا فوقفوا بين الصفين كما كانوا يفعلون معهم المصاحف منشورة وعلى الرماح مرفوعة.

ويأمُرُ بالكتاب الذي فيه الدعوة فيقرأ على العدو ويدعون إلى ما فيه، فان أجابوا قبلوا، وإن أبوا أشهد الدعاة الله عليهم ثلاثاً ثم يرجعون إلى معسكرهم ثم قد بأن إن شاء الله خذلانهم، ووجب النصر للمؤمنين عليهم، فليزحف عسكر الإمام إليهم زحفاً زحفاً معاً معاً بالنية والبصيرة والمعرفة والحجة الكريمة، بوقار وخشوع وذكر لله وخضوع، يكبرون التكبيرة بعد التكبيرة.

فإن خرجت لهم خيلٌ خرجت إليها خيل، وإن برزت رجالةٌ برزت إليها رجالة، وإن لم يخرج من ذلك شيء زحف القوم معاً حتى يقعوا في عدوهم ويظهروا شعارهم، ويضعوا في أعداء الله سيوفهم، ويسألوا الله النصر والعون عليهم، فإذا نصرهم الله وأيدهم وخذل عدوهم، وأذل مناصبهم فليتحفظوا من أن يدخلهم عجب، أَوْ يخامرهم بغي، وليكثروا من ذكر الله وشكره والثناء عليه وحمده).

 

كيفية التعامل مع الأسرى العدو والفارين من المعركة وأمر الغنائم:

(فإن كان لمن حاربهم فئة يرجعون إليها، وإمام يحامون عليه، ولم يكن معهم، وكان ببلد غير معسكرهم يرجعون إليه ويردون عليه، اتبع المسلمون مدبرهم، وأجازوا على جريحهم حتى يستقصوا في الطلب عليهم، ويقتلوا من لحقوا، ويستأسروا من أحبوا، حتى يفرقوا بينهم، ويشتتوا جماعتهم، ويأمنوا رجعتهم.

وإن لم يكن لهم فئة يرجعون إليها وهو الرئيس الذي يأوون إليه ويردون بعد هزيمتهم عليه، لم يتبع لهم مدبر، ولم نجز لهم على جريح، ولكن يطردون ويفرقون ويشتتون.

ولا يجوز في ذلك أن يقتلوا إذا ولوا وانهزموا.

فإذا هزمهم الله وأخزاهم وعذبهم وأرداهم، أمر الإمام بجمع غنائمهم وضم كُـلّ ما كان في عسكرهم، وحض الناس على أداء الأمانة فيه، وأخبرهم بما أوجب الله عز وجل على من غلّ شيئاً من ذلك.

فإذا جمعه واستقصاه أمر بقسمته على أهل العسكر وتفريقه بينهم، وضرب السهام فيه لهم).

 

ما يجوزُ للإمام اصطفاؤه من المغانم:

ويورد الإمام باباً خاصاً بين فيه السيرة النبوية والهدي المحمدي في ما يجوز لإمام المسلمين اتخاذه لنفسه من المغنم، فقال: (تجمع الغنائم قليلها وكثيرها دقيقها وجليلها، فإذا جمعت كلها وضمت بأسرها، اصطفى الإمام إن أحب منها شيئاً واحداً، إما فرساً، وإما سيفاً وإما درعاً، كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما كان يغنم، وكان يسمى ذلك الصفي، وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه أنه كان يقول للإمام أن ينتقل ويصطفي من الغنائم لنفسه جزءاً أَوْ شيئاً معروفاً كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النفل، فليتنفل من ذلك لنفسه ما أراد).

وبهذا القدر نكتفي في المبحث الأول، سائلين الله تعالى العون والتوفيق لمرضاته.

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com