رسولُ الله.. أعظمُ قائد عسكريّ عرفه التاريخ

منذُ زمنٍ بعيدٍ عمل الأعداءُ على فصل الأُمَّــة عن نبيِّها ورموزها ومُقَــدَّساتها بدءاً بترسيخ المفاهيم المغلوطة والتصوُّرات الخاطئة وتغييب الأَشْيَاء الهامة جِـدًّا من حياة الرسول وتقديمه بصورة مغايرة لشخصيته الحقيقية.

وقد تجلت رؤيةُ المستعمرين، تجاه الرسول وتجاه معالم الأُمَّــة ورموزها وتراثها الصحيح في أدبيات وممارسات الحركة الوَهَّـابية بكل تفريعاتها التي تقومُ على ضرب المعالم واستهداف الرموز وتصوير العَودة إليها أَو إحياءها بالشرك والبدع والكفر والشدِّ إلى بدائلَ ضعيفة وخاطئة.

يأتي ذلك في سياق طمس الهُوِيَّة الإسلامية وَمحو الآثار التي تشُدُّ الناس إلى أصالتهم ورموزهم الخالدة، وكان للمؤرخين وأصحاب السير دورٌ سلبيٌّ في تغييب شخصية الرسول الله صلوات الله عليه وعلى آله كقائد عسكريٍّ ورجلٍ قرآنيٍ يتحَرّك بحركة القُــرْآن فهيئوا للمغالطات والتقول عليه مقارنة بفهمنا له كشخصية قرآنية وشخصية قيادية في كُـلّ المجالات.

لذلك كان مهما جِـدًّا أن نتعرَّفَ على الرسول من خلال القُــرْآن الكريم، فالقُــرْآن لا يعرِّفُك بمُجَــرّد حركات الرسول فقط، بل بمشاعر الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) يعرفك بتفكيره, فتفهم كيف كانت نظرته للمجتمع الذي هو فيه كيف كان تخطيطُه وتكتيكُه وتعاملُه وتقييمُه للوضعيات وللأشخاص وللمجتمعات، وكيف كانت قيادته العسكريّة المتميزة.

 

المسيرة: محمد محسن الفرح

 

الرسولُ صلوات الله عليه وعلى آله هو الشخصيةُ العسكريّةُ الفذةُ:

لقد كان من أخطر ما رسّخته تلك السيرُ في أذهان المسلمين، أن الرسولَ شخصٌ أشبهُ ما يكونُ بفقيه أَو قاضٍ أَو مُفْتٍ أَو مُجَــرّد شخص يقدم المواعظ ولا يمتلك أية رؤية عسكريّة وليس لديه أية خِبرة قتالية أَو توجّـه ميداني أَو حنكة سياسية أَو صلاحية عملية.

فنجدُ الكثيرَ من الروايات المتعلقة بميدان الجهاد وحتى فيما يتعلق بحياته الخَاصَّة تقدم أن فلاناً هو من يوجهه بأَنْ يكونَ على النهر حتى يكونَ قَريباً من الماء ويسبقهم إليه! فيقدمونه شخصاً بسيطاً لا يعرف شيئاً‍!

بينما القُــرْآنُ الكريمُ يقدِّمُه شخصاً حكيماً وقديراً ذكياً فاهماً، وقائداً على أعلى مستوى للقيادة ويمثِّلُ أنجحَ وأعظمَ قائد في التاريخ قائداً لديه معرفة عالية ويعتمد عليه بشكل كبير في ميدان المواجهة {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} (آل عمران: من الآية121) يقاتل ويخطط ويعبئ المسلمين (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ).

ومما يعد معجزة له في هذا الشأن أنه استطاع في عقد من الزمن أن يذوب ألد الخصوم من أهل الكتاب على هامش حركته ويقضي على أعظم الإمبراطوريات القائمة في ذلك الزمن الفرس والروم واستطاع أن يقضي على الشرك ويدمّــر الأوثان ولم يغادر الحياة الا وقد أسلم أغلب سكان الجزيرة العربية.

وللأسف الشديد عندما غاب التحليلُ القُــرْآني لشخصية الرسول وغابت الدراسات الإسلامية التي تهتم بمعرفة تخطيطه وتكتيكه القتالي والابتكارات التي أدخلها إلى الساحة العسكريّة والتي نحن في أَمَسِّ الحاجة لها إلى وقتنا الحاضر لم تستفِد الأُمَّــة منه كما ينبغي، بينما تجد آخرين ممن هم غير محسوبين على أُمَّــة محمد حللوا شخصيته القيادية بتأمل وانبهار بمؤهلاته العسكريّة، حَيْــثُ ذكرت إحدى الدراسات التي قدمها المؤرخ العسكريّ “ريتشارد جابريل يقول عن الرسول صلوات الله عليه وآله ((كان عسكريًّا من الطراز الأول، فقد قام في عقد واحد من الزمن بقيادة 8 معارك عسكريّة، وشن 18 غارة، والتخطيط لـ38 عملية عسكريّة محدودة وتذكر الدراسة أن الرسول أصيب مرتين أثناء مشاركته في المعارك.

ولم يكن الرسول صلوات الله عليه وعلى آله قائداً عسكريًّا محنكاً وحسب، بل ترى الدراسةُ أنه كان “مُنَظِّراً عسكريًّا” و”مفكراً استراتيجياً” و”مقاتلاً ثورياً”، ويرى أُستاذ التاريخ والسياسة في الكلية الملكية العسكريّة بكندا (بأنه بدون عبقرية ورؤية الرسول محمد العسكريّة الفذة ما كان ليبقى الإسلام ويصمُدُ وينتشِر ُبعد وفاة الرسول. وأنه لولا نجاحُ الرسول محمد كقائد عسكريّ، ما كان للمسلمين أن يغزوَ الإمبراطورتين، البيزنطية والفارسية، بعد وفاته). لقد غاب الحديثُ عن الرسول كقائد عسكريّ حتى أصبح شيئاً جديداً للكثيرين من أمته فاستفاد من تكتيكه وتخطيطه وأساليبه القتالية الآخرون أكثر من غيرهم.

يُذكر تاريخياً أن سر نجاح الجنرال الفيتنامي “فونجوان جياب” خلالَ حرب فيتنام أنه تبني نفس التكتيك والاستراتيجية العسكريّة التي كانت قائمة في صدر الإسلام وهي ما يُطلَقُ عليها اليوم “حرب الشعب جيش الشعب والتي تتطلب لنجاحها قوات مسلحة قوية، وشعباً يدعم جيشه.

وكان الرسولُ هو أولَ قائد في التاريخ يتبنى ذلك من خلال التعبئة العامة والجهوزية القتالية لدى كُـلّ فرد في الأُمَّــة والاستعداد العالي للتضحية من الجميع إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم) التوبة، فلا يعد من المؤمنين من لا يحمل هذا الشعور ومن لم يصل إلى الاستعداد للتضحية في سبيل الله تعالى.

 

المميّزاتُ القيميةُ والمبدئيةُ للقيادة العسكريّة للرسول:

لقد كانت قيادةُ الرسول صلوات الله عليه وعلى آله للجيوش وقيادته للأُمَّــة قائمةً على الحَــقّ والعدل وعلى القيم والرحمة والشفقة والتواضع، فلم يكن الرسولُ صلوات الله عليه وعلى آله قائداً متجبراً على أُمِّته أَو ظالماً لها، بل كان يعاملُهم بالرحمة، ويتحَرّك على أَسَاس هذه القيم وبهذه الروح كرحمة من الله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّـهِ لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّـهِ﴾ [آل عمران:159] وحين ينهزم افراده ويتفرقون عنه فهو لا يعاملهم بالقسوة والجفاء وإطلاق الألفاظ النابية عليهم بل يستغفر لهم ويؤانسهم بالمشورة وفي نفس الوقت يتحَرّك في مواجهة الطاغوت، وَالظالمين والمفسدين بعزيمة عظيمة وبعزَّة قال عنها الله: ﴿وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون:8].

فكان عزيزاً يأبى أن يخضعَ لباطل، ويأبى أن يُذَلَّ، ويأبى لأمته أن تُذَلّ، وربَّى أمتَه على أَسَاس العزة ومفاهيم العزة، وألَّا تكونَ لديها القابليةُ للإذلال والقهر والاستعباد، فتحَرّك في جميع حروبه لا ظالماً ولا متجبراً ولا مستكبراً ولا طاغياً، بل تحَرّك على أَسَاس العدل، ولأجل الحَــقّ وواجه الطاغوتَ العربي واليهودي والنصراني وخاض العديدَ من وحرَّك الجيش الإسلامي في السرايا والغزوات والحروب حتى رست رايةُ الحَــقّ وتحقّق العدل، وعمَّ الخير، وانتشر نورُ الله، فأصبح واقعُ الأُمَّــة واقعاً عظيماً، حين استبدلت الذُّلَّ بالعز وأصبحت أُمَّــةً كريمة، وأمةً لها قضية مُقَــدَّسة ومشروع عظيم.

 

الرسولُ نموذجٌ للقائد العسكريّ الواعي:

لقد كان رسولُ الله -وبأمر من الله- يلبَسُ لامةَ الحرب، ويحملُ سلاحَ الحرب، نبي له سيف ودرع، ويتحَرّك تحَرّكاً عسكريًّاً، فنجدُه في معظم الغزوات يسافرُ ويقطع المسافات البعيدة، ففي غزوة بدر قطع مسافة أكثر من 160 كيلو متراً، كان جزءٌ كبيرٌ منها مشياً على الأقدام؛، حَيْــثُ كانت وسائل النقل [الجمال ] قليلة لدى المسلمين.

فلم يكن بالإمْكَان أن يكتفيَ بالدعاء، فيقول: [اللهم عليك بهم، اللهم دمّــرهم وزلزل الأرضَ تحت أقدامهم واخسف بهم الأرضَ، اللهم أهلكهم حتى لا ننشغل بهم أبداً، ولا ننزعج بهم ولا ندخل معهم في أية مشكلة].

ومن هنا نجدُ الفارقَ الكبير بين من يدعو في الميدان ومن يكتفي بالدعاء وقراءة يس والفيل دون أَنْ يكونَ له أيُّ موقف ضد أعداء الأُمَّــة وأعداء نبيها ويحسب نفسَه بأنه مرتبطٌ بالرسول الذي كان يشمر عن ساقه ويدعو الله أن يفرغَ عليه الصبرَ حين المواجهة ويثبته في الميدان حتى لا يتزلزل أَو يتراجع فكان يقول وهو يدعو {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}(البقرة250)، دعاء من يريد أن ينزلَ إلى الميدان ويتحَرّك، من موقع المسؤولية، دعاء من له موقف.

فالرسولُ لا يمكنُ أن تسمح له أخلاقياته العالية، وحكمته العظيمة ومكانته الإيمانية بأن يتنصل عن مسؤولياته؛ من أجل التفادي للمشكلة وعدم الدخول في صراع، فالكثير من المتنصلين والمتهربين من المسؤولية، يحاولون التماهي مع تلك السذاجات والمفاهيم الخاطئة التي تصور الرسول بأنه شخص وديع وشخص كاره للسلاح والمواجهة ولا يريد أية خصومة مع أي أحد في الدنيا.

بالعكس كان رسولُ الله يفهمُ واقعيةَ الحياة ويعرفُ ميدانَ الحياة بأنه ميدانُ مسؤولية، وأن هذه الأرض فيها الأشرارُ وفيها الأخيار، وفيها النزاعات، وفيها الصراعات، وفيها العداوات وأن الأُمَّــة التي لا تعد نفسها تبقى أُمَّــةً ضعيفةً ومقهورةً ومستعبدة ومستذلة.

لقد كان قائداً يعي السُّنة الإلهية سُنةَ التدافع وسُنةَ الصراع، وكان يعد العُدة لذلك، ويبقى في حالة جهوزية تامة للمواجهة؛ لأَنَّه ينطلق أَسَاساً من دور ووظيفة رئيسية له كنبيٍّ من عند الله أرسله لإقامة العدل ومواجهة الطاغوت ومحاربة المستكبرين والظالمين ولا بد في ذلك من الصراع والقتال حتى لا يصبحَ واقعُ البشر تحت سطوة الظلم والطغيان والجبروت، وَيغيب العدلُ والحق من الساحة البشرية نهائياً، يقول الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض}(البقرة251) لوصلت الأمور من السوء إلى حَدِّ فساد الأرض وفساد الحياة بكلها، لكن هذا النظامَ الإلهي {دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}(الفرقان20)، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} (محمد4).

وحتى لو حاول البعضُ أن يشطُبَ هذا الجانب أَو يلغيَ هذا التوجّـه فإن الأحداث اليوم وعلى مر التاريخ تفرض فرضاً على الناس أن يتحَرّكوا، وَالكثير من الشعوب والبلدان التي تنصلت وصلت في الأخير إلى قناعة تامة بالمواجهة العسكريّة كسبيل للتحرّر والخلاص والانعتاق من الرق والعبودية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com