أوقفت دراستي الجامعية وانطلقت للجهاد في ميادين العزة والشرف كي لا تفوتني فرصة تسجيل الموقف العظيم عند الله
كلُّ شيء في هذه الحياة يشغلنا لا يمكن أن يفوت علينا لكن إعلان الموقف أمام الله في ظل هذا العدوان الجائر هو من سيفوت ونخسر مع فواته
الوقتُ وقتُ عمل ومن يحاول استغلال موقعه في المسؤولية لصالحه الشخصي فإنَّ الله -سُبْحَانَـهُ وتَعَالَى- لن يرحمَه
المجاهد الجريح عبدالعزيز عامر في حوار مع صحيفة المسيرة يروي حكايةَ انطلاقه للجهاد:
الجهادُ في سبيل الله مدرسةٌ متكاملةٌ تربّي المؤمنَ كيف يحصل على العزة والكرامة من طريقها الصحيح
ينزف اليراع حبراً وعيون الكلمات تذرف منها الدموع، تبكي تارةً وتنزف أُخرى، أمام أرجوحة الصبر وآفاق العطاء ومجرّات التضحية والفداء، توقفت أمام ما رأتــه من موقفٍ قاسٍ يواجه تلك الشخصية الفذّة العظيمة.
شخصية أحد صقور المواقع وفرسانها الذي عاد من بين ثغورها جريحاً يــنزف إصراراً وَعزيمةً.
لقد قدّم أعزَّ ما يملك، قدّم روحه ودمه؛ قرباناً لله ولنصرة وتأمين أبناء بلده، بينما الآخرون ممّن ذهب لتأمينهم لم يعطوه مقابل تضحية ما قدّم حتى بضع دقائق من وقتهم.
وفي حضرة الجرحى العظماء، كان لا بُدَّ من الوقوف قليلاً لنرشفَ رشفةً ولو بسيطةً من نهر عطائهم السخي؛ لنستمد العزيمةَ والإصرارَ والفداءَ من ملاحمهم الأسطورية.
المجاهد الجريح عبدالعزيز عامر الذي ترك دراستَه الجامعية، بعد أن أوقف قيدَه بكلية الهندسة، لينطلق إلى المواقع؛ ليفكَّ القيودَ عن الشعب اليمني، ويقتص من دماء الأطفال والنساء.
المجاهد الجريح، يحكي في حواره كواليسَ تعرّضه لإصابة في الحوض، وأُخرى لم يشعر بها، مُشيراً إلى الألطاف الإلهية، وجملة من القضايا نستعرضها في الحوار التالي:
حاورته| خولة العُفيري
– بدايةً، نرحّبُ بشخصكم الكريم المجاهد الجريح/ عبدالعزيز عامر، كما نأمل أن تعرّف قراءَنا الكرامَ عن شخصك الكريم؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة على رسول الله وآله الطاهرين.
حيّاكم الله جميعاً.. أنا عَبدالعزيز عامر أحد مجاهدي الجيش واللجان الشعبيّة، طالبٌ في كلية الهندسة.
أُصبت إصاباتٍ بالغةً، ما أدّى إلى إعاقتي عن الحركة في جبهة حرض.
– ما هو الدافع الذي جعلك تتركُ دراستك الجامعية وتلتحق بالجبهة؟
قال تَعَالَى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) صدق الله العظيم.
من منطلق هذه الآية الكريمة، فقد جاء العدوانُ فجأةً على شعبنا اليمني دون سبب يذكر، وقد كانت بدايةُ العدوان بجريمة وحشية بحقِّ المواطنين في حي المطار بالعاصمة صنعاء، وكان القصفُ جنونياً وهستيرياً أرعب المواطنين والأطفال، وكان القصف يومياً، ولا يمرُّ يومٌ إلا بجرائمَ عدة يرتكبونها، وكنت أشاهد صورَ الجرائم أشلاء مقطعة وجثثاً متناثرة، ولم أكن أتوقع أن هذا سيحصل بأبناء شعبنا، فكانت صورُ الجرائم تظلُّ في خيالي حتى أثناء دراستي في قاعة الجامعة.
مرّت الأيّام، وزادت الجرائم، وكنت أحاول أن أراجع دروسي، إلا أن مشاهدَ الجرائم تظل أمامي، وكنت أفكر هل هذا في شعبنا، هل هذا في وطني يحصل؟
فما دورنا؟ وما هو المطلوب منا؟ وأين الأحرار لا يتكلمون عن ما يحصل؟ لم تطِب لي الدراسة وسطَ هذا الجو الذي يتلوّن بدماء الأطفال والنساء، وفكرت قليلاً حتى وصلت لقناعة أن لا مجالَ لنا إلا أن نواجه ونقاتل هؤلاء المعتدين، فقلتُ: الدارسةُ باقيةٌ لن تذهبَ، والجامعاتُ باقيات، لكنَّ دماءَ الأبرياء ستذهب والمواقف البطولية ستذهب، وَإذَا لم نقدّم شيئاً في هذا الوقت الذي يمرُّ به شعبنا فمتى سنقدّم موقفاً يحسَبُ لنا أمامَ الله وأمامَ شعبنا، وحينها التحقت بالمجاهدين رغمَ أنهم قالوا لي بأن أواصل دراستي إلا أني أصررت أن التحق بهم وأكون معهم، فأوقفت القيدَ في الجامعة، ومن هنا بدأ المشوارُ بعد خمسة أشهر من العدوان.
– هل شعرتَ أن مسيرتك الجهادية أثّرت على مستواك الدراسي وعلى حياتك بأيٍّ من الجوانب العلمية أَو العملية؟
بالنسبة للتأثير، لا يوجد أي تأثير، وإنما اكتسبنا الكثيرَ من الخبرات العلمية والعملية، وأهمها في الجانب الديني الذي كان له اهتمامٌ كبيرٌ جِـدًّا من قبَل المجاهدين؛ للرقي بالشخص والوصول به إلى الأفضل، وهذا معروفٌ لدى الكثير مِمن التحق بالمجاهدين وسيلاحظ هذا بلا شك.
– كيف جُرحت وأين؟.. حدثنا قليلاً عن معاناتك مع الجراح؟
أثناء اقتحامنا لأحد المواقع التي يتمركزُ فيها مرتزِقةُ العدوان، كان الوقتُ ليلاً، فمشينا بأقدامنا مسافة حوالي ٢ كيلو في منطقة جبيلة مرتفعة جِـدًّا، وكان المرتزِقةُ يتمركزون أعلاها، بدأنا اقتحامَنا حوالي الساعة الثامنة مساءً، وكان الرصاصُ كثيفاً يهوي علينا من قبل المرتزِقة، إلا أن إصرارنا مع المجاهدين أن نواصلَ حتى نصلَ إلى مواقعهم لم يجعلنا نأبه برصاصهم مهما كَثُرت.
جُرح بعض المجاهدين بجانبنا ونحن استمررنا في الصعود حتى وصلنا إلى مواقعهم حوالي الساعة الـ ١١ مساءً، فرّ المرتزِقةُ وتركوا بعض الأسلحة وجثث قتلاهم، وتمركزوا في مواقعَ خلفيةٍ، وحاولوا الهجومَ علينا؛ لاستعادة مواقعهم واستمروا إلى الصباح في زحفهم إلا أنَّ محاولاتِهم لم تلقَ سبيلاً لذلك، ثم جُرحت حوالي الساعة ١٢ ليلاً أثناء مقاومتنا للمرتزِقة وهم يحاولون استعادةَ مواقعهم بعدَ ما وصلت لهم تعزيزاتٌ قوية، زادت من كثافة النيران وغزارتها، ولكن صمود المجاهدين كان أكبر مما توقعوا، فأُصبت برصاص في الحوض والفخذ، وحاولت المقاومةَ حتى الساعة الـ ١ صباحاً، ولكن النزيفَ كان يؤثر على تماسكي ويضعف قوتي، فناديت أحد المجاهدين أن يأتيَ مكاني؛ لكونه حسّاساً حتى لا يلتفّ العدوُّ منه، ولم أخبره أني جريح، ولم يعرف أَيْـضاً؛ لأَنَّ الظلامَ كان شديداً، حتى عندما جُرحت لم أشعُرْ أَسَاساً بأي شيء ولم أعرف أني جريح إلا عندما شعرت أسفلَ قدمي ساخناً، ثم أمسكت قدمي؛ لأتأكّـد ما الذي في قدمي، إذ وضعت يدي على قدمي أحسست بالغرق من الدم، رفعت جسمي مع الظلام الشديد فرأيت سواداً وهو لون الدم ليلاً، رأيته أسودَ، ثم بعدها بحثت أين الجرح فخلعت الجاكت فدخل قليلٌ من الهواء إلى الجرح، فشعرت بالألم وعرفت مكانَ الجرح، إنه في الحوض الأيسر، تركت زميلي مكاني وقلت له: أنا نازل أدي لنا ذخيرة حتى لا يعرف أني جريح، وكان تحتنا ٢ من المجاهدين بحوالي ٣٠ متراً، وصلت إليهما وقلت لهما: اربطا لي لقد أصبت، فربطا لي مكان جرح الحوض، بينما الفخذ نسيته ولم أشعر بالجرح هناك، وقلت لهما: أنا سأمشي فأرادا أن يحملاني، قلت لهما: ابقيا هنا مع المجاهدين وأنا سأمشي وحدي فلا زلت بخير، واصلت نزولي من الجبل وأنا أنزف من جرح الفخذ الذي لم أشعرْ به، واصلت نزولي إلى المنتصف فانهارت قواي ولم أستطع المشيَ والظلامُ شديد، وكنت أشعر بالخمول الشديد حتى سقطت في منتصف الطريق وناديت صدفةً قبل أن أدخل في غيبوبة لأحد المجاهدين، وكان هو في نهاية الجبل، وكان صوتي خفيفاً جِـدًّا، وَلكن من الصدفة أن زميلي في الجهة الأُخرى من الجبل، طلعت باتّجاه المجاهدين وسمع صوتي وعرفني فقال: ماذا تريد؟ قلت له: تعالَ.. وصل إليّ وأنا ممتدٌ على الأرض، لم يكن يتوقع أني جريح، فنادى أحدَ المجاهدين وقاموا بحملي إلى الخلفية، وكانت الطريقُ وعرةً وليست طريقاً وإنما يشقون لأنفسهم طرقاً، وأنا على أكتافهم بين الأشواك والشجر، حتى وصلنا إلى مكان خلفي لنرتاحَ قليلاً، قلتُ لهم: أنا أشعر بالبرد الشديد والعطش، قال أحدهم: شدوا الرباطَ فلا يزال ينزف، لم يعرفوا جرحي الآخر الذي أنزف منه، فحركت يدي لأتأكّـدَ من أين مصدر الدم الذي ينزل، فوجدت الجرحَ، وقلت لهم: هذا جرح آخر، اربطوه لي، وكنا منتظرون لسيارة الإسعاف، وكان الطيرانُ يحلق، فانتظرنا حتى الساعة السادسة صباحاً عندَ شروق الشمس، وكانت المسافةُ بعيدةً والطريق وعرة، حتى اختفى الطيرانُ، وصلنا المستشفى الساعة الثالثة عصراً، والحمدُ لله كانت هناك رعاية إلهية، ورعاية صحية جيدة.
– ما هي الرسالةُ التي توجّـهها للمتخاذلين والذي يرون أنّ الحيادية دليلُ وطنية؟! والذين تعدّدت أساليبهم في التكالب على الوطن؟
أنصحهم بأن يتقوا اللهَ في هذا الشعب، ويجب عليهم أن يعلموا أن المرحلة التي نمر بها استثنائية لا تقبل بكلِّ متخاذل ومتكاسل في مهامه الوطنية، وأن مثل هذه الأساليب الملتوية مهما تعدّدت مسمياتها هي خطر على الشخص نفسِه، فلن يسامحه الشعبُ فيما بعد، ولن يظل في مكانه الوظيفي أَو يقوم باستغلال الحالات الصعبة أَو الحرجة لبعض المواطنين، وما كان في السابق لن يعودَ اليوم، وعليهم أن يغيّروا من أساليبهم ونفسياتهم التي كانوا يتعاملون بها في السابق، فالمرحلةُ لا تسمح بمثل هؤلاء أبداً أن يبقوا في أماكنهم.
– هل قصدت وزارة التعليم العالي عندما لم يتعاون معك عميد الكلية؟
لم أقصد الوزارة، وإنما قام العميد بحلِّ مشكلتي بدون علم رئيس الجامعة، وتعاونَ معي بشكل جيّد وتمَّ حلُّ الإشكالية.
– كيف تفسّر هذا التعامل من قِبَل العمادة، وما هي رسالتك لمن يتعامل بهذه الأساليب في أي مجالٍ كان؟
لم يكن العميد، وإنما كان رئيس الجامعة، لا أجد إلا تفسيراً واحداً أن هؤلاء ليس لديهم ضمير أَو لا زالوا على منوالهم السابق، أَو أنهم لم يشعروا بما يعانيه المجاهدون في الجبهات؛ ليحموهم ويبقوهم في مقاعدهم ومناصبهم.
– كلمة أخيرة تختم بها هذا اللقاء.. ولمن تبعثها؟
نشكركم على التفاتتكم الطيبة تجاه الجرحى، ونقول لكلِّ المجاهدين إننا سنظلُّ معهم في الميدان، ولن تُركِعَنا قوى العدوان، ونعاهدُ السيّدَ القائدَ أن نبقى على العهد ماضين حتى آخر قطرة من دمائنا، وكذلك نقول للشعب اليمني: ثقوا أنَّ النصرَ حليفنا، وأن الله معنا، وأن المجاهدين لن يألوا جهداً في الدفاع عن كرامة وحرية هذا الشعب وحمايته من الغزاة والمحتلين.