فلسطين والاستعمار والشرق الأوسط الجديد

عملت المجموعة الوزارية التي أوجدها رئيسُ وزراء بريطانيا في العام 1915 على تقسيم الشرق الأوسط وتفكيكه إلى خمس ولايات

“وعد بلفور” كان أخطر ما هدّد فلسطين والفلسطينيين والعرب وهو الذي وعد الصهيونية بوطن قومي في فلسطين

تمكّن اليهود وبمساعدة قوية من القوات العثمانية من طرد الفلاحين الفلسطينيين من عشرات الآلاف من الدونمات بمنطقة طبرية واستولوا عليها

مشروع الشرق الأوسط الجديد مبنيٌّ على أَسَاس تجاوز الهُوية والأيديولوجيا وقضية فلسطين

المسيرة: محمد ناجي أحمد

لم تتحولِ الأساطيرُ اليهوديةُ إلى فكر صهيوني إلّا مع القرن التاسع عشر، حين كان نابليون بونابرت على أبواب عكا، حين استعصى عليه إسقاطُها وظلت أسوارُها صامدةً في وجه جيشه، صرح بوعد لليهود بأنهم إذَا ساعدوه على احتلال عكا والشام فسوف يعطيهم فلسطين وطناً قومياً لهم، حينها لم يستجب اليهود؛ لأَنَّ الاستجابة لدعوة كهذه كانت بحاجة إلى تمهيد فكري ومنظمات يهودية بدأت في العمل مع نشاط هرتزل، لتنظيم الحركة الصهيونية في البحث عن وطن قومي لليهود، قيل في البدء في أوغاندا ثم كانت الاتّفاق على أن تكون فلسطين؛ لما يتطلبه الاستعمار البريطاني من دور للأساطير اليهودية في أورشليم، مما يحقّق هدفَ الاستعمار في إبقاء الأمة العربية منقسمةً ومفككةً، وفي خاصرتها شرطي صهيوني يحرُسُ المصالحَ الاستعمارية في المنطقة.

ومع كتاب (تيودور هرتزل) (الدولة اليهودية) الذي نُشِــرَ في فينا ولايبزغ في 14 فبراير 1896م، أي قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عُقد بزعامة هرتزل في مدينة بازل بسويسرا يوم 29 أغسطُس 1897م، وَكانت محاولاتُ هرتزل بالتواصل مع السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، إلا أن تحَرّكه ونشاطه لم يمنحه سوى بضع هجرات إلى فلسطين، وإنشاء بعض المزارع اليهودية هناك.

ومع الحرب العالمية الأولى وانتصار بريطانيا وفرنسا، كان تصريح اللورد بلفور عام 1917م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد كان الغربُ الاستعماريُّ بحاجة إلى أن يصطنعَ لنفسه ذراعاً امبريالية في المنطقة، يمنع العرب من التوحد والنهوض، ويجعلهم دويلات ومشيخات لا تقوم لهم قائمة، ويظلون في خدمة الاستعمار.

وكان للثورة البلشفية في روسيا الدورُ الرئيسيُّ الذي سرَّعَ في تقاسم الشرق الأوسط مع فرنسا، وإعلان إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كُـلّ ذلك لتشكيل طوق ضد الثورة البلشفية، وللتحكم بالعالم اقتصاديا، فالتحم بالخليج والشرق الأوسط هو منطلق وأَسَاس التحكم بالعالم.

وهكذا فإن الوعود التي أعطتها بريطانيا للشريف حسين عن طريق مراسلاته مع مكماهون -مدير المكتب العربي بالقاهرة– لم تكن سوى لغرض وحيد هو تطويق وإسقاط الدولة العثمانية، وهزيمتها في خليج العقبة عن طريق الشريف حسين، وابنه الأمير فيصل الذي قاد الجيش العربي في معركة العقبة، واستطاعت بريطانيا بذلك أن تشغل حجماً كَبيراً من الجيش العثماني في تلك المعركة، حتى تتفرَّغَ لهزيمتها في عمق تركيا. ما يعني أن “الثورة العربية” والوعودَ بتحقيقها لم تكن سوى خيالات في رأس لورانس وبضعةِ مراسلات مع سفير بريطانيا في مصر، لكن الواقع الذي ترويه الوثائقُ يحكي قصة وخديعة استعمارية كبرى للعرب.

بحسب كتاب (سلام ما بعده سلام) لـ (دافيد فرمكين) ترجمة: أسعد كامل إلياس-ط3-2001م-فإن سنوات 1914-1922م هي سنوات تثبيت الخرائط وفقاً للحدود التي وضعتها بريطانيا وفرنسا “لقد كان عصراً اصطنعت فيه بلدان الشرق الأوسط وحدوده في أوروبا. فالعراق وما نسميه الآن الأردن، على سبيل المثال هما اختراعان بريطانيان. والخطوط رُسمت على خارطة بيضاءَ من قبل سياسيين بريطانيين بعد الحرب العالمية الأولى، بينما أُنشئت حدودَ المملكة السعودية والكويت والعراق من قبل موظِّف مدني بريطاني عام 1922، ورسمت فرنسا الحدود بين المسلمين والمسحيين في أرمينيا وأذربيجان” ووضع العقيد (وهاب) عبدالواهب الحدودَ بين شطرَي اليمن، وبين القبائل والسلطنات والمشيخات، وبين حضرموت ونجد.

إن سير مارك سايكس -وهو عضو في البرلمان البريطاني، والمشهور باتّفاقية سايكس / بيكو ومسئول شؤون الشرق الأوسط في لندن عام 1916م- “قام برحلات واسعة إلى آسيا، واستهل أحدَ الكتب التي ألّفها بالتساؤل: “كم من الناس يدركون عندما يتحدثون عن تركيا والأتراك أن لا وجود لمكان كهذا أَو لشعب كهذا…؟، لقد أصبح موطنُ الشعوب التركية القديم تركستان في حوزة روسيا والصين. وأكثر من نصف الشعوب التركية الآسيوية تعيشُ إما هناك أَو في أماكنَ أُخرى خارج الامبراطورية العثمانية، بحيث أن قيصر روسيا كان بوسعه أن يكونَ أحقَّ من السلطان العثماني في ادّعاء تمثيل من هم من أصل تركي” (ص51- سلام ما بعده سلام).

كانت رؤيةُ قادة بريطانيا في عام 1914م “هي أن دخول العثمانيين الحرب كانَ الخطوة الأولى على طريق إعادة تشكيل الشرق الأوسط، أي في الحقيقة إلى خلق الشرق الأوسط الحديث” (ص85- سلام ما بعده سلام).

تعاملت بريطانيا بخصوص منحها فلسطينَ وطناً قومياً لليهود على النقيض من وعودها للشريف حسين، فمبدأها السياسي: ليس هنا كسياسة دائمة ولا تعهد نهائي، وأن الصدق عندها ليس خطاً مستقيماً بل هو خطٌّ منحن.

عملت لجنة دوبونسيت، وهي المجموعة الوزارية التي أوجدها رئيس وزراء بريطانيا في 8 نيسان / أبريل 1915 على تقسيم الشرق الأوسط وتفكيكه إلى خمس ولايات، وهي اللجنةُ التي كانت بقيادة مارك سايكس، وسيكون “النفوذ أَو الإشراف البريطاني مستحسناً وجودُه في حزام واسع يمتدُّ عبر الشرق الأوسط من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج الفارسي” (ص174- سلام ما بعده سلام).

كان مارك سايكس بيكو مع مشروع “كيان عربي واحد يحكمه روحياً الشريف حسين، ويحكمه دنيوياً واسمياً ملك مصر، وهو ملكٌ منصِبُه رمزيٌّ، على أن تدار شؤون الحكم من القاهرة ومن قبل المندوب السامي البريطاني –الذي كان يفترض أن يكونَ اللورد كيتشنر-“، وكان تشالرز هاردينج نائب الملك في الهند يرى أن هذه مقترحات “خيالية بالمطلق” وأنها “ميتة تماماً” وقد رفض فكرةَ استقلال العرب مهما كان اسمياً ويرى أن تضم بلاد الرافدين لنائب الملك في الهند، وهكذا نرى أن الشريف حسين قد تعامل مع آراء موظفين بخصوص الوعود، ولم يتعامل وفق اتّفاقيات واضحة مع حكومة بريطانيا! بحسب مؤلف كتاب (سلام ما بعده سلام) وهو قولٌ فيه مغالطةٌ واضحة، فليس للموظفين البريطانيين في المكتب العربي بالقاهرة أن يتعاملوا مع الشريف حسين بآرائهم وإنما بما تملي عليهم الحكومةُ البريطانية؛ ولهذا وجدت بريطانيا نفسَها كحكومة مضطرة إلى أن تتخلص من الشريف حسين ومطالباته، وذلك بدعم أمير نجد عبدالعزيز بن سعود، ثم نفي الشريف حسين إلى خليج العقبة، ثم نفيه إلى قبرص، وتهميشه وإهانته والتعامل معه بإذلال وصل إلى حَدِّ عدمِ تغطية مصاريف معيشته، بل واستدانته، ليعودَ قبل شهرين من وفاته إلى الأردن، بترجيات من ابنَيه الملك فيصل، ملك العراق والملك عبدالله ملك شرق الأردن. ثم دفنه في القدس بحسب وصيته، ففي وصيته أن يُدفَنَ في القدس إصرارٌ على أن فلسطين عربية، وجزءٌ أصيلٌ من المملكة العربية التي وعدت بريطانيا أن تساعدَ العربَ على استقلالها من الدولة العثمانية!

لم يكن المكتبُ العربي بالقاهرة –وهو مكتب تشكل بناء على اقتراحات سايكس- لم يكن هيئة مستقلة كما أراد سايكس، بل غنمٌ تابعٌ للمخابرات البريطانية في مصر.

وكان من اقتراحات سايكس إنشاءُ “المكتب الإسلامي لمكافحة دعاية تركيا في الهند وفارس وأفغانستان، لكن نائب الملك في الهند عارض إنشاءَ أي مكتب غايته التدخل في مجالات تقع في نطاق اختصاصه.

إن وعد بلفور (تصريح بلفور) 1917م “كان أخطر ما هدّد فلسطين والفلسطينيين والعرب الآخرين صدور وعد بلفور عام 1917م باسم الحكومة البريطانية، وهو الذي يَعِدُ الصهيونية بوطن قومي في فلسطين.

كانت الصهيونية منذ بداياتها مشروعاً غربياً امبريالياً، وقد عارض القوميون العربُ المذهبَ الصهيوني والامبريالية الغربية معاً. ونظر هؤلاءِ القوميون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى ظهور إسرائيل على أنه تهديدٌ مباشرٌ للأمة العربية وأداةٌ بيد الامبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة؛ لتجزئة العرب واستغلالهم والسيطرة عليهم، وكذلك اعتبر دعاة الإحياء الإسلامي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وكانوا حديثي العهد سياسياً، أن الصهيونية وإسرائيل والهيمنة الغربية (الأمريكية بخَاصَّة) في المنطقة تمثل تهديداً للإسلام والأمة الإسلامية. ويعتقد كثيرون من المسلمين في الناشطين سياسياً أن من الواجب مقاومةَ الهيمنة الغربية والإسرائيلية في المنطقة بكل قوة وعزم. (ص29- فلسطين والفلسطينيون – الدكتور سميح فرسون- ترجمة: عطا عبدالوهاب – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى – بيروت، نيسان/ ابريل 2003م).

بعد صدور تصريح بلفور بسنتين، قال اللورد بلفور: “إننا لا نقترحُ في فلسطين حتى ولا المضي في الشكل الخاص باستشارة رغبات السكان الحاليين للبلاد. إن الصهيونية، سواءٌ أكانت على حَقٍّ أم على باطل، سواءٌ أكانت صالحةً أَو طالحة، متجذرةً في تقاليد عريقة القدم، وفي حاجات الحاضر وآمال المستقبل التي هي من الأهميّة بما هو أعمق بكثير من رغبات وتحيزات العرب البالغ عددهم سبعمِئة ألف نسمة، الذين يقطنون الآن تلك الأرض السحيقة في القدم” (ص38- فلسطين والفلسطينيون).

موقفُ الكيان الصهيوني هو ذاته موقفُ الامبريالية الغربية في تجاهل وجود الفلسطينيين، هذا ما قالته جولدا مائير “رئيسة وزراء إسرائيل، عام 1969م، حين قالت “لا وجود للفلسطينيين” أو ما قاله ليفي أشكول الذي خلفها في رئاسة الوزراء: “من هم الفلسطينيون؟ فحين جئنا إلى هنا (أي إلى فلسطين) كان هناك رُبع مليون من غير اليهود، وأغلبهم من العرب والبدو، كانت صحراء، وأسوأ من هذا أنها غير متطورة. لا شيء”، وخلال غزو إسرائيل للبنان في عام 1982م –وكانت بالدرجة الأولى حرباً ضد الفلسطينيين والمنظمة– قال مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل إن الفلسطينيين هم “بهائم وحشية تسير على رجلين” فنشرت وسائل الإعلام الأمريكية قوله على نطاق واسع” ص38- فلسطين والفلسطينيون.

لقد تمكّنت رابطةُ الاستيطان اليهودية وبمساعدة قوية من القوات العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر من طرد الفلاحين الفلسطينيين من أكثر من ستين ألفَ دونم من الأراضي “واستولت عليها في منطقة طبرية وحدها. إن هذه الحادثة وحادثة أُخرى وقعت العفولة حظيت بتغطية واسعة في الجرائد وأطلقت نذير الخطر من التشريد الذي تنتهجه الصهيونية” ص 107- فلسطين والفلسطينيون.

لقد تنبأ (نجيب عازوري) في كتيب أصدره، ويعتبر من أقدم الوثائق في معارضة الصهيونية –بأن “هناك ظاهرتين مهمتين، وهما متشابهتان في طبيعتهما ولكنهما مع ذلك متعارضتان، ولم تثر أيٌّ منهما انتباهاً حتى الآن، ولكنهما بدأتا بالظهور السافر في تركيا الآسيوية اليوم: هاتان الظاهرتان هما يقظة الأمة العربية والجهود الخفية التي يبذلها اليهود لكي يقيموا وعلى نطاق واسع جِـدًّا مملكة إسرائيل القديمة. لقد قُدِر لهاتين الحركتين أن تتصارعا باستمرار إحداهما مع الأُخرى، إلى أن تسود إحداهما على الأُخرى.

إن مصير العالم بأسره يتوقف على نتيجة هذا الصراع بين الشعبين، وهما يمثلان مبدأين متناقضين” ص108- فلسطين والفلسطينيون.

وبالرغم من أن نجيب عازوري من أوائل من كتب عن اليقظة العربية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلّا أن مماثلته بين أمة حاضرة في جغرفيتها ومتواشجة في تاريخها ومشاعرها ومصالحها، ووحدة لغتها، وبين كيان يتم تلفيقه على أَسَاس الدين وأعراق شتى، وأساطير وهمية عن ملك ومملكة قديمة –هذه المماثلة خاطئة، فالأمة العربية حقيقة في الحاضر وفي التاريخ، واختلاق كيان صهيوني اسمه دولة إسرائيل يظل اختلاقا غربيا، ولمصالح استعمارية في المنطقة، غنها مماثلة بين أمة أصيلة وكيان استيطاني مزروع في قلب هذه الأمة.

يكتب (غسان سلامة) في بحث له بعنوان (أفكار عن السوق الأوسطية) نشر في كتاب (التحديات “الشرق أوسطية” الجديدة والوطن العربي) –الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بطبعته الأولى 1994م، وطبعته الثانية 2000م- فيقول بأن الأمةَ نتاجُ القومية وليس العكس. وهذا القول من وجهة نظري يؤدي بالنتيجة إلى مماثلة بين طبيعة نشأة الكيان الصهيوني ونشأة القومية العربية، وفي ذلك احتيال تطبيعي من بوابة العقلانية وما بعدها، وهجاء لما يطلق عليه بـ”القوموية”، وعلى هذا النهج يصبح نقده للمنطلقات القومية بأنها سلفية وجمود يخدم الطرف الخارجي. فهو يُعرِّف السلفية تعريفاً غيرَ بريء، يصُبُّ في النتيجة في خدمة تغليب الجغرافيا على الثقافة والتاريخ، وكأن الخيار لا يكون إلّا بشرق أوسط جديد، مبني على (العقلانية) و (السوق) بعد نزع الجغرافيا عن مكوناته التاريخية والثقافية!

يقول (غسان سلامة) في بحثه آنف الذكر: “والسلفية منهاجٌ نفسي قد يعبر عنه بمفردات دينية أَو قومية أَو وطنية، السلفية إذن، لا هي أيديولوجيا، ولا بالضرورة دينية، هي بالأَسَاس حالة نفسية انطوائية عقيمة، تدعو إلى الإيمان بشيء ما وإلى الانتماء لجماعة ما، وطنية أَو قومية أَو دينية، وكأن الإيمان والانتماء بذاتهما كفيلان بردع الغاصب وبحل المعضلات، وبدفع الأعراض المرضية. لذلك فالسلفية، أيًّا كانت لغتها، هي أفضل ما يمكن أن يلقاه طرف خارجي: فهي سكونية مرتاحة لتفوقها الأخلاقي، متمرسة ببعض الشعارات البائدة، معتبرة أن نشاط الآخرين وتخطيطهم غير قادرين على المس بموقفها الثابت. وبالذات فالسلفية، أكانت دينية أَو قومية أَو وطنية ليست أبدا ردا مناسبا على المتغيرات الإقليمية والدولية الهائلة أمام أعيننا” ص56-57-التحديات “الشرق أوسطية” والوطن العربي-بحوث ومناقشات –مركز دراسات الوحدة العربية.

لم يقل لنا (غسان سلامة) هل يمكن لنا أن نتقدمَ خطوةً إلى الأمام إذَا تخلينا عن فكر الإيمان والانتماء؟ وهل الآخر (الخارجي) بتحولاته الدولية راكم قوته ونفوذه وسطوته واستيطانه واستعماره لمقدرات الشعوب-دون إيمان ودون انتماء؟ أم إنه أجهد ذهنَه بالحفر التاريخي والأسطوري وحشد الخرافات ليؤسس منظومة إيمانه وانتمائه، كسياج يحمي ويعزز نفوذه في فلسطين وجغرافية الشرق الأوسط؟!

تعمل الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة على تغيير وإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية العربية، من مدخل إسقاط العراق واحتلاله وقد أنجزت ذلك، ثم مدخل ما سُمِّيَ بـ (الربيع العربي) إلى تفتيت المنطقة عمودياً، على أُسُسٍ طائفية وعِرقية وجهويةً، ومن ثم تعمل على التركيز على ما أسمته بـ (السوق الشرق أوسطية) ويأتي مشروع ولي العهد السعودي لتأسيس المدينة الاقتصادية التي ستشمل الأردن وفلسطين ومصر والسعودية وصولاً إلى جيبوتي، كحلقة من حلقات استكمال “النظام الشرق الأوسطي” الذي يبنى على الجغرافيا، مزيحاً العلاقة الجدلية بين التاريخ والجغرافيا والثقافة، لصالح الهيمنة الإسرائيلية اقتصاديا وسياسياً على المنطقة!

بمعنى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد هو مشروع (أسرلة) المنطقة العربية والشرق أوسطية، مما يعفي إسرائيل من الحاجة إلى استقدام المزيد من يهود العالم، خَاصَّة مع محدودية جغرافية وثروات فلسطين، فيصبح الاعتماد على الأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة، وعلى فضاء اقتصادي عربي هو البديل الذي يجعل يهود العالم احتياطي استراتيجي، لا يحتاجه الكيان الصهيوني في هذه المرحلة.

مشروع الشرق الأوسط الجديد مبني على أَسَاس تجاوز، الهُوِيَّة والأيديولوجيا وقضية فلسطين، أي أن (السوق الشرق أوسطية “جزء من “النظام الشرق أوسطي” سياسياً.

يقول ماجد كيالي في ندوة / كتاب (التحديات “الشرق أوسطية” الجديدة والوطن العربي –بحوث ومناقشات- ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بطبعته الأولى آذار / مارس 1994م-الطبعة الثانية أيلول/ سبتمبر 2000م –يقول: “… وأصبح من الممكن إعادة النظر في الرؤية التقليدية للمشروع الصهيوني حول “إسرائيل الكبرى “أو بالنسبة إلى دعوة أكبر عدد ممكن من يهود العالم للاستيطان في فلسطين. فبدلاً من “إسرائيل الكبرى” جغرافياً / أصبح من الممكن الحديث عن إسرائيل الكبرى اقتصادياً، التي تعتبر شريكا استراتيجيا للوايات المتحدة في مشروع النظام الشرق أوسطي. ولم يعد ثمة حاجةٌ لجلب معظم يهود العالم إلى فلسطين. لعدم توفر الإمْكَانية الواقعية من جهة، ولعدم الحاجة لذلك، فبضعة ملايين من اليهود في إسرائيل بإمْكَانهم القيام بهذا الدور، وتشغيل اليد العاملة العربية في المشروعات الاقتصادية المشتركة في النظام الاقتصادي الإقليمي للشرق الأوسط، أما يهود العالم فهم ذخرا استراتيجيا لإسرائيل” ص87-88.

عقدت بريطانيا منذ عام 1915م ثلاث اتّفاقيات رئيسية ومتناقضة، مع ثلاثة أطراف مختلفة: الحكومة الفرنسية، وزعيم الثورة العربية الشريف حسين، ورئيس الحركة الصهيونية في بريطانيا اللورد روتشيلد.

مع الشريف حسين عقدت اتّفاقية مكماهون / الحسين، والموثقة من خلال الرسائل المتبادلة بين مكماهون مسئول المكتب العربي بالقاهرة، والشريف حسين عام 1915م، وفيها أن بريطانيا “على استعداد للاعتراف باستقلال العرب في المناطق كافة ضمن الحدود التي طلبها شريف مكة، وعلى استعداد لإسناد هذا الاستقلال” ص116- فلسطين والفلسطينيون.

ومع فرنسا عقدت اتّفاقية سايكس / بيكو الموقعة في 16أيار / مايو 1916م، قسمت فيه الشرق العربي الذي كان خاضعا للسلطة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا، وجعلته مناطق نفوذ تدار من قبلها، فأصبحت سوريا ولبنان للفرنسيين، وشرق الأردن والعراق للإنكليز، على أن تصبح فلسطين مدوَّلة.

ومع الزعيم الصهيوني اللورد روتشيلد، صرح اللورد بلفور في رسالة بتاريخ 2تشرين الثاني / نوفمبر 1917م من وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور إلى الزعيم الصهيوني اللورد روتشيلد، وينص التصريح على أن “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين التأييد إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين…، على أن يكونَ من المفهوم بشكل واضح ألا يتم القيام بشيء قد يمس بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين” وبعد ذلك أصبح موقف بريطانيا وفرنسا تشجيع تكوين حكومات محلية ممن أسمتهم بالسكان الأصليين في المناطق العربية، بصدور التصريح الأنغلو –فرنسي في 7 تشرين الثاني / نوفمبر 1918م الذي دعا إلى الانعتاق الكامل والمطلق للشعوب ]العربية [التي اضطهدها الأتراك طويلاً، وتأسيس حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من المبادرة والخيار الحر للسكان الأصليين” ص116- فلسطين والفلسطينيون.

من أجل تهجير الفلسطينيين من وطنهم عملت الصهيونية، وعصابات القتل التابعة لها على القيام بعدد من المذابح الجماعية، ليهلع الجميع نازحين، ذلك ما صنعه الصهاينة بدعم وتسليح بريطاني طيلة عقود العشرينات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وتوجوه بمذبحة دير ياسين وكفر قاسم وغيرها من المذابح.

قال جلوب باشا القائد الإنجليزي لشرق الأردن في كتابه الذي تحدث فيه عن سيرته الذاتية بأنه سأل مسؤولاً يهودياً في حكومة الانتداب “عما إذَا كانت الدولة اليهودية ستواجه متاعب داخلية عديدة بالنظر إلى أن السكان العرب فيها سيكون عددهم مساويا لعدد اليهود” يقول غلوب باشا إن ذلك المسؤول أجابه “لا، لا! إن هذا سيجري ترتيبه. فبضع مذابح محسوبة جيَدًا ستؤدي سريعا إلى التخلص منهم” علماً بأن عدد اليهود آنذاك لم يكن مساوياً لعدد العرب رغم الهجرات التي استمرت من القرن التاسع عشر وحتى عام النكبة 1948م. وبحسب الباحثة روماي صايغ فإن الأسباب الأَسَاسية للفرار “واضحة جِـدًّا ولا يمكن إلّا لتعمية متعمدة أن تحجبها عن الأنظار…، وهي الهجوم العسكري المباشر على القرى، والإرهاب، والافتقاد إلى الزعامة، وإلى الأسلحة، إنها باختصار الفوضى والخوف” ص205- فلسطين والفلسطينيون.

وهذا السلوك، وهذه الإجراءات هي دوما متبعة في كُـلّ حالة استيطانية أو عنصرية يراد منها تهجير الناس من مدنهم وأعمالهم، ففي عدن تم من خلال حملات مليشاوية الرمي بالرصاص طرد أصحاب البسطات والمحلات التجارية الصغيرة، مع قتل البعض منهم، وإشاعات خبرية في الإعلام والوسائط الاجتماعية عن عمليات إبادة جماعية لأبناء المحافظات الشمالية الذين يعملون ويعيشون في عدن، وفي الحرب بين ما يسمى بالجيش الوطني والقوات التابعة لما يسمى بالمجلس الانتقالي تم التعامل مع الأسرى بحسب انتمائهم لقراهم ومناطقهم ومحافظاتهم، والتحقيق مع الأسرى وإيصال رسالة للمشاهدين أن ما يجري هو عمليات إبادة للأسرى. كان هناك توظيف للتصوير المباشر، ونقلها في وسائط التواصل الاجتماعي بغرض خلق أوسع عملية تخويف وهلع، ليتم النزوحُ من عدن!

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com