في ورقة عمل قُدمت خلال ندوة حول أسس الإدارة والرقابة للدولة في فكر الإمام علي:

أُسُسُ الحكم الصالح في عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر (2 – 2)

محمد محسن الحوثي

وينقسِمُ عهدُ الإمام عليٍّ -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- حسب هذه الدراسة إلى خمسة أقسام رئيسية +الختام، وهي:

أولاً: الوظائفُ الأَسَاسيةُ للوالي (الدولة) أَو الركائز الأَسَاسية التي تلتزمُ الدولةُ بأدائها وهي (جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها).

ثانياً: البنيةُ العليا للنظام ممثلاً في الوالي الحاكم ووظيفته وكيفية اختيار المستشارين والوزراء وخاصته/ بطانته، وتوضيح النماذج السلبية والسيئة التي يتجنبها عند اختيارهم وفقاً لعدد من المواصفات، وعدم المساواة بين المحسن والمسيء.

إضافةً إلى العلاقة بين الوالي/ الحاكم والرعية، وفي مقدمتها ترسيخ عامل الثقة عن طريق: الإحسان إلى الرعية، وعدم تحميلهم الأعباء، وترك استكراههم على ما ليس له عندهم، ونتيجة ذلك يقطع عن الوالي التعب.

وحذر الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- من:

  • الملح لمعايب الناس (المخبر) بالمعنى المعاصر “لأن في الناس عيوباً على الوالي سترُها”.
  • النمام بمعايب الناس (الواشي)؛ “لأنه غاش وإن تشبّه بالناصحين،. فإبليس عندما خدع أبانا آدم جاء له في هيئة الناصح، فكان سبباً في إخراجه من الجنة.

وأمر الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- أن لا يدخل في مشورته ثلاثة:

  • البخيل: لأَنه يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، وكما يقال أن البخيل أَسَاس الذل.
  • الجبان: لأَنه يضعفك عن الأمور.
  • الحريص: لأنه يزيّن لك الشَّرَهَ بالجور.

والبخل والجبن والحرص غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله.

كما حذر أن لا يكون من بطانته من كان للأشرار من قبله وزيراً؛ لأَنَّهم أعوانُ الأَثَمَة وإخوانُ الظَّلَمة.

ثم تشيرُ إلى إحدى ركائز العمل الجيد/ الحكم الصالح، ممثلاً في استمرار السنة الصالحة التي عمل بها في صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية.

  • ومن ضمن خَاصَّة الوالي الحاكم، وما يجبُ عليه مدارَسةُ العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر البلاد، وإقامة ما استقام به الناس قبله، وهنا يثبت أحد أَهَـمّ عناصر الحكم الصالح (العلماء والخبراء)، والآلية متروكة لحال ووضع الأمة، فقد تكون جمعيات كما هو في جمعيات العلماء أَو مجالس الحكماء والخبراء أَو روابط كرابطة علماء اليمن… إلخ.

والإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- يحث على طلب العلم قفال:

“إن من نصّب نفسَه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكُنْ تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس”([1]).

ثالثاً: طبقاتُ الرعية([2]) والعلاقة فيما بينها: وهو مفهومٌ أوسعُ مما هو عليه اليوم فيشملُ الأمورَ السياسيةَ والعسكريةَ والقضائيةَ، والاقتصادية والاجتماعية… إلخ، وتتكامل فيما بينها ولا يصلح بعضها إلا بالبعض الآخر.

واشتمل العهدُ في هذا القِسْمِ على جزئين الأول عبارةٌ عن مقدمة موجزة وضح فيها الطبقات وقوامهم، والثاني يتضمن الوظائف والمسؤولين ومواصفاتهم. ومعايير اختبارهم وصفاتهم وحقوقهم وواجباتهم، ومن خلال الجزء الأول يتضح أن الطبقات هي:

  • جُنْدُ الله: وهم حَالياً المؤسّسة العسكرية والأمنية ومن في حكمهم، فهم:

(حُصُون الرعية، زين الولاة، عز الدين، سبل الأمن).

ولا قوامَ لهم إلا بالخراج، يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم.

  • القضاة: -مؤسّسة القضاء- والعمال والكتاب -الجهاز الإداري والتنفيذي-.
  • طبقة الكُتَّاب هم الذين يتولون تحريرَ الرسائل العامة والخَاصَّة، في مختلف شؤونهم وينقسمون إلى:
  • كُتَّـاب العامة، الذين يعملون في الرسائل الخَاصَّة بالشكاوى والمظالم، ومنهم الكُتَّـاب في المحاكم والمحاسبون والمحامون… إلخ.
  • كُتَّـاب الخَاصَّة: ويتولون تحرير المذكرات والرسائل الخَاصَّة بالوالي في مختلف الشؤون المتعلقة بالحرب والسلم والأصدقاء والأعداء ويتولون إعلام الوالي بالمذكرات والرسائل الصادرة إليه ووضع الردود عليها.

ووضع الإمامُ عليٌّ -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- قواعدَ صارمةً لاختيار هؤلاء الكُتَّـاب؛ لأَنَّ أي عيب أَو تجاهل يرتد على الوالي.. ووضع معاييرَ علميةً لاختيارهم، فلا يقبل الفراسة وحسن الظن “لأنهم يتصنعون أمام الولاة وحقيقتهم غير ذلك، ووضع مواصفات لمن يكون قائداً لهم (مدير).. ([3]).

  • التجار وذوي الصناعات (رجال المال والأعمال/ القطاع الخاص).
  • الطبقة السفلى (ذوي الاحتياجات الخَاصَّة) هم أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكُلٍّ على الوالي حقٌّ بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك.

وكان الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لا يهدأ له بالٌ وفي الناس محتاج إليه، جاءه يوماً ابنُ التياح عاملُه على بيت المال، فقال يا أميرَ المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراءَ وبيضاءَ، فقال “الله أكبر” ثم قام متوكئاً على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول “يا صفراء يا بيضاء غرِّي غيري هاء وهاء” حتى ما بقي في بيت المال دينار ولا درهم -وزعه كله على المحتاجين- ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين([4]).

وكانت وصيته وهو على فراش الموت “اللهَ اللهَ في الأيتام فلا تعفُ أفواههم، ولا يضيعن بحضرتكم.. الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، الله الله في الفقراء والمساكين اشركوهم في معايشكم”.

رابعاً: واجبات الوالي / الحاكم المباشرة:

  • الإنجاز: “وامض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه”، ودائماً ما تردد المقولة لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد؛ لأَنَّ في ذلك تراكم للقضايا والحاجات، ومن ثم ضياعها، ويترتب عليها مظالم كبيرة، ويدخل ضمن الإنجاز ما يسمى تبسيط الإجراءات.
  • الاهتمام بالجانب العبادي، والرحمة بالمؤمنين في الصلاة “.. صل بهم كصلاة أضعفهم”.
  • عدم الاحتجاب عن الناس: لأن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أَو طلب إنصاف في معاملة.
  • التعامل مع الخَاصَّة والبطانة والمقربين بقطع أسباب الاستئثار، وعدم محاباتهم أَو منحهم قطيعة أَو غير ذلك، والتزام الحق من لزمه من القريب أَو البعيد.
  • توضيح الموافق الملتبسة –الشفافية- “وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، وأعدل عنك ظنونهم بإصحارك”، كما فعل الشهيد الرئيس/ صالح الصمّاد –رحمه الله- بقوله في خطابه قبل استشهاده بعشرة أيام ما معناه: “لو يستشهد الصمّاد اليوم، ما به أين يسيروا أولاده، إلا يرجعوا صعدة”، علماً أن منزله في صعدة تم تدميره بغارات طيران تحالف العدوان!

خامساً: الحرب والسلام مع العدو: الصلح فيما يرضي الله مع الحذر من العدوّ، والوفاء بالعهود؛ في هذا الجزء لا يأتي الصلح إلا في الحرب.

وفيه بحث الوالي على الصلح إذَا دعاه إليه العدوّ، لله فيه رضا، لما في الصلح من راحة للجنود، والأمن، مع الحذر كُـلّ الحذر من العدوّ بعد الصلح، كأن الإمام علياً -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-– يشخص الواقع الراهن؛ فالعدوّ يفعل ذلك؛ بغرض المكر والخديعة فإن فعل فخذ بالحزم.. ثم ينتقل إلى العهد والوفاء به.. فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه.. ثم ينهاه أن لا يعقد عقدًا تجوز فيه العلل، بمعنى تحويله على غير المراد، ولا تعولن على لحن القول، أي يقبل التوجيه كالتورية والتعريض، بمعنى لا يحتمل إلا ما يفيد الكلام الواضح.. ثم يحذره من سفك الدماء بغير حلها، ولا يبني سلطانه بسفك دم حرام؛ لأَنَّ ذلك بضعفه وبوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر عند الله في القتل العمد؛ لأَنَّ فيه قودَ البدن، وفي الوكزة فما فوقها مقتلة..

سادساً: الختام (أحكام عامة توصيات عامة… إلخ):

في هذا الجزء مجموعة من الآداب التي على الوالي أن يتحلى بها، وفيه التفات لتحذيرات سابقة بإيجاز ووضوح ثم الدعاء بالتوفيق والختام.

 

أُسُسُ الحكم الصالح في العهد العلوي:

في المعنى المعجمي (أس) (الهمزة، والسين، يدلّ على: الأصل والشيء الوطيد الثابت).

(أسس: الأُسُّ والأَسَس والأَسَاس: كُـلّ مُبْتَدَإِ شيءٍ.

والأُسُّ والأَسَاس: أَصل البناء، والأَسَسُ مقصور منه، وجمع الأُسِّ أَسَاس مثل عُسّ وعِساس، وجمع الأَسَاس أُسس مثل قَذال وقُذُل، وجمع الأَسَس أَسَاس مثل: سبب وأَسباب.

والأَسيس: أَصل كُـلّ شيء).

والظاهر أن المعنى اللغوي والاصطلاحي هو نفسه عند مستعمليه، حيث أنه ليس ثمّة اصطلاح للمستعملين سوى ذلك، فالمهندس المعماري وغيره من مستعملي هذه المادة اللغوية، لم يتناولوا معنىً آخر يتجاوز حدود ما تقدّم ذكره. وهي بالتالي تعني ـــــــــ أي كلمة الأَسَاس ـــــــــ المرتكز والقاعدة.

وليس من السهل الكتابة عن الإمام علي (ع) ودوره الفكري في ترسيخ أسس بناء الدولة الإسلامية، على الرغم من أن الكُتّاب والباحثين قد أغنوا المكتبات العامة والخَاصَّة بكتاباتهم في الموضوع، ولن يتوقفوا عند حَـدٍّ معين في البحث والدراسة، وتظل مفتوحةً إلى ما يشاء الله، بعضُ الكُتابات استنبطت الأسس ووزعتها على المجالات “السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، العسكرية”، وكتابات وضعتها في قسمين “الأسس الدينية، والأسس الدنيوية”، أَو أسس العلاقة بالمجتمع، وكتابات توسعت وعددت الأسس إلى أكثر من عشرين مرتكزاً، وكتابات أُخرى كيفتها على أسس النظم الاشتراكية، أَو الليبرالية في صورتها الغربية… إلخ، كُـلّ ذلك دليل على تضمن العهد العلوي على كُـلّ الأسس المعنوية والمادية، فمن يتناوله وفق المنهج الأخلاقي سيجد حاجته، ومن يستخدم المنهج الواقعي يجد ما يريد، ومن يستخدم المنهج السلوكي يجد ضالته فيه، نضع نماذج منها كما يلي:

 

الأسس القانونية: وتتضمن:

–        سيادة القانون، واحترام الإرادة الشعبيّة، احترام حقوق وحريات الرعية(المواطنين).

–        محورية السلطة القضائية باعتبارها السلطة المخولة بالوقوف أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية.

–        التكامل بين الطبقات والسلطات الرسمية وغير الرسمية.

–        الشفافية والعدالة، الرقابة… إلخ.

الأسس الاقتصادية: وتتضمن:

–        إصلاح إداري.

–        التوازن بين الإيرادات والنفقات بما فيها نفقات إعمار البلاد (المشروعات الخدمية)، والاهتمام بالمزارعين، والثقة فيما يقولونه عن الخراج.

–        الرقابة على السلع والخدمات، ومنع الاحتكار.

ـ          الاهتمام بالتجار وذوي الصناعات.

 

الأسس الاجتماعية: وتتضمن:

–        ترسيخ مبدأ المساواة بين الرعية (المواطنين).

–        ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص في التعيين في الوظائف العامة، لاسيما وظائف ا الجهاز الإداري لعليا (الاختيار اختباراً) أي معايير الكفاءة والنزاهة.

 

الأسس الإدارية:

–        الوصف الوظيفي لكل الوظائف العامة.

–        حياد الوظيفية العامة (فلا تمنح الوظائف وفق المحاباة والقرابة والمحسوبية.. الخ).

 

الشكل من إعداد الكاتب بناءً على دراسة: علي سعد تومان عدوة، “أسس بناء الدولة الإسلامية في فكر الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-“، أطروحة دكتوراه، (النجف الأشرف: مكتبة الروضة الحيدرية) متاحة على شبكة الإنترنت.

نموذج5

اعتبر المهام التي أمر بها الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- مالك الأشتر حين ولاه على مصر مرتكزات الحكومات قديماً وحديثاً، ووضعها كما يلي:

المهام في العهد جباية خراجها جهاد عدوها استصلاح أهلها عمارة بلادها
البنى المؤسّسية المالية العامة الدفاع والداخلية وما يرتبط بهما الشؤون الاجتماعية، والصناعة والتجارة والري، وما يرتبط بها الإسكان والتعمير وما يرتبط بهما
وأضاف إليها البعد الروحي والبعد المادي.

مستخلص من دراسة: خضير كاظم حمود؛ “السياسة الإدارية في فكر الإمام علي بن أبي طالب بين الأصالة والمعاصرة”، (بيروت: مؤسّسة الباقر، ط1، 1999م)، متاح على شبكة الإنترنت.

وتقتربُ الكتاباتُ والدراساتُ من تكييف العهد ومضامينه وفق التوجّـه أَو النظام السائد، كما ذكرنا سابقا، ولن تنتهي عند حَـدٍّ؛ لأَنَّ كُـلّ باحث يجد حاجته فيه، ويجيب على تساؤلاته، وافتراضاته.

وتسهم الورقة بمحاولة استنباط أَهَـمّ الأسس من العهد باعتباره من أَهَـمّ النصوص الحضارية؛ بغرض دفع الباحثين والمهتمين للمزيد من البحث والدراسة الموضوعية، والاستفادة العملية منه:

أولاً: تضمَّنَ العهدُ بشكل واضح على الأسس التقليدية للدولة، (الأرض والشعب والحكم، والسيادة).

وذلك في المهام الأربع التي أمر بها الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- مالك الأشتر حين ولاه على مصر، وفصلها في مضامين نص العهد وكيفية الحفاظ عليها وفق الحكم الصالح.

ثانياً: تضمن العهد الأسس والمرتكزات وفق الدراسات الحديثة، التي تركز على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أَو الدولة والمجتمع، وإضافة إلى الأسس التقليدية، بمكن الإشارة بإيجاز إلى ما يلي:

أولاً- اختيار الوالي/ الحاكم (الصالح) القوي العادل القادر (وهي من صفات الله عز وجل”، ونعتبر أولَ ركيزة لبناء نظام الحكم الصالح، أي بمثابة قُطب البناء، وإقامة الدولة الصالحة جزءٌ من رسالة الإسلام، وأوصاه بتقوى الله وطاعته، والعمل بما أمر في كتابه، ونصرة الله بيده وقلبه ولسانه، وهي أسس إيمانية-عقدية، وتشير إلى هوية الدولة، وهي أبلغ في التعبير من المصطلح المتداول (الأيديولوجية)، يليها الأسس النفسية للحاكم، وتتمثل في السيطرة على النفس وكبحها عن الشهوات.

  • مجموعة من الأسس القيمية (الرحمة، المحبة، اللطف، الإحسان،…).
  • مجموعة القيم الجوهرية للحكم (العدل، الإنصاف، المساواة، الثقة، حسن الظن بالرعية،…).
  • مجموعة القيم التربوية-الثقافية (الأوامر والنواهي، والعبر).

ثانياً- الأُسُسُ المؤسّساتية: العلاقةُ بين الحاكم والمحكوم –الراعي والرعية- نابعة من رباط الإنسانية التي تجمع بين الطرفين، ومن قيم المساواة أمام الله وأمام الشريعة، والعبودية المشتركة لله سبحانه وتعالى، يقول الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-: “فالناس إما أخٌ لك في الدين أَو نظيرٌ لك في الخَلْق”، وأوصى بأن يساويَ بينهم في اللحظة والنظرة –عند التقاضي- دون تفرقة بين المتخاصمين وإن كان الحاكم مع الرعية.

  • الرضا العام: “فإن سخط العامة يجحف برضا الخَاصَّة، وإن سخط الخَاصَّة يغتفر مع رضا العامة”، والعامة من الأمة هم المرتكز الأَسَاسي لتكوين المجاهدين “جند الله” كما يقول -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-: “وإنما عمود الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة”، والشاهد الواقعي المسيرة القرآنية، التي استجاب لها المستضعفون ويبذلون أموالهم وأنفسهم في سبيل الدفاع عن الهوية الإيمانية والوطنية، قبل الخَاصَّة من الناس..
  • الشورى: وهي مرتكز ووظيفة أَسَاسية في بنية الحكم الإسلامي، ومتروك الآلية وتنظيم اختيار المستشارين، واكتفى الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- بأن لا يدخلن في مشورته (البخيل والجبان والحريص) لما يترتب عليهم من أضرار؛، ولأنها غرائز شتى يجملها “سوء الظن بالله”، والمسؤولية العامة في الإسلام قائمة على الارتباط بالله والاعتماد على الله. وإلى جانب المستشارين، أوصى بعقد الروابط مع أهل “الورع والصدق”، وأمر واليه بالإكثار من مدارَسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر البلاد وإقامة ما استقام به الناس من قبل.
  • تنظيم المجتمع وإقامة مؤسّسة النظام: أحد المرتكزات الرئيسية للحكم الصالح، وفيه تفاصيل كثيرة، ابتداءً بتقسيم المجتمع إلى طبقات “فئات” متكاملة فيما بينها، ولا غنى لبعضها عن بعض ومنها يتم اختيار المسؤولين عن الحكم في “السلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، والمؤسّسة العسكرية والأمنية “جند الله”… إلخ، بحسب الاختصاص والكفاءة والنزاهة، واستغرق ما يقارب نصف العهد لما فيه من التفاصيل والمواصفات العملية ومرتكزات بناء الأمة في ظل حكم صالح، كالوصف الدقيق والتوصيف المحكم للمسؤوليات ومن يقوم بها ومن أَهَـمّ ما أكّـد عليه من المرتكزات ما يلي:
  • عناصر القوة المالية والبشرية:
  1. “الخراج” ويمثّلُ إيرادات الدولة، أَو ما يسمى الوظائف المالية؛ لأَنَّه سيتم الإنفاق ليس المرتبات فقط، فهناك الإنفاق على تقوية “جند الله” من أسلحة وتصنيع.. وعلى عمارة البلاد التي اعتبرها الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- وظيفة وركيزة أَسَاسية، كذلك توزيع الأرزاق أَو ما يسمى بالرعاية الاجتماعية، والحقوق التي أكّـد عليها الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- بقوله: “واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض فمنها جند الله، ومنها كتاب العامة والخَاصَّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق –المظالم- ومنها أهلُ الجزية والخَرَاج من الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكتة، وكُلٌّ قد سمى الله سهمه، ووضع على حَدَّه، وفريضةً في كتابه، أَو سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، عهداً منه عندنا محفوظا”.
  2. “جند الله”، ويمثل المؤسّسة العسكرية والأمنية ومن في حكمهم –كاللجان الشعبيّة- في عصرنا الراهن، والمتطوعين؛ لأَنَّهم “حصون الرعية” يدافعون عن الشعب، و”زين الولاة” يحمون الوالي، ويستعرضون القوة في المناسبات،…، و”عز الدين” يدافعون عن ثقافة الأمة ومنهجها، و”سبل الأمن” يحافظون على الأمن ضد التخريب الداخلي
  • القضاء، وعدّد 12 صفة للقاضي، سبق ذكرها، وأوصى أن يمنح الأجر الكافي، والمكانة المناسبة لدى الحاكم وهي ما تسمى حَالياً بالحصانة؛ كي يكون القضاء مستقلاً، والاستقلالية لا تعني الانفصال، وإنما الفصلُ في المنازعات والقضايا دون تدخل من أي كان، وتلك أَهَـمّ صور العدالة.
  • الكُتّاب والعمال، واختيارهم اختبارا، ومواصفاتهم، وتعيين حقوقهم.. إسباغ الأرزاق لهم؛ لأَنَّه قوةٌ على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم.
  • التجارُ وأهلُ الصناعة: وتشملُ الأسواق والوكالات التجارية والصناعية.. وبقدر ما أكّـدَ على الاهتمام بهم، حرّم عليهم الاحتكار ومعاقبة من يقوم به لما ينتج عنه من مضار تمس الأمة
  • وأخيراً الاهتمامُ بالفقراء والمساكين وكل من ورد في الآية الكريمة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة60، ومن في حكمهم؛ باعتبار ذلك حقاً لهم من الله مفروضاً، والإشراف عليهم، والاتصال بهم في تواضع وأرفاق؛ لأَنَّه خازن للرعية ووكيل للأمة.
  • السيطرة “الرقابة”: ركيزةٌ أَسَاسية ومهمة للحكم الصالح في عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-، وتنقسم إلى قسمين:
  1. الرقابة الذاتية: ومركَــزُها الضمير الإنساني، والتعاليم والصفات والشروط المبثوثة في العهد كثيرة وواضحة.
  2. الرقابة الخارجية: وتنقسم إلى قسمين:

– رقابة شعبيّة: ويقوم بها أفراد المجتمع –والآلية متروكة لهم- ويقومون بدور المتابع والرقيب للأخطاء التي تصدر عن الولاة والعمال؛ لأَنَّ بها قوامَ حياة المجتمع وحيويته، وكان الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- يحث الناس على تفعيل الرقابة والنقد البناء.

– الجهاز الرقابي السري “العيون”: قال الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر: “ثم انظر في أمور عمالك ثم تفقّد أعمالهم وابعث العيونَ من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم عدوةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية”، وتؤدّي الرقابةُ إلى اتخاذ الموقف الحازم من الكُتاب والعمال –مسؤولي الوظيفة العامة- الذين لا يؤدون أمانةَ أعمالهم ويعاقب الخائنَ منهم مادياً ومعنوياً، قال الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-: “فإن أحداً منهم بسَطَ يداً إلى خيانة اجتمعت بها أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصّبه بمقام المذلة، فوسمته بالخيانة وعار التهمة”.

تلك أَهَـمّ المرتكزات للحكم الصالح في عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- لمالك الأشتر رضي الله عنه، والعهد كُـلّ مترابط، متكامل، كُـلّ جملة تعبّر عن أَسَاس وقاعدة.

 

ما يشبهُ المقترحات:

  • إذا كانت الأممُ المتحدةُ اعتبرته أحدَ مصادر القانون الدولي، فالأمةُ ونحن منها، أحقُّ بأن نجعلَه من أصول التأسيس؛ لبناء الدولة والحكم الصالح؛ الأصلُ يعني الأَسَاسَ الذي يُبْنَى عليه الشيء، وأصلُ الكلام بمعنى ما ينبني عليه غيرُه، وجمع أصل أصول بمعنى مبادئ، فالأصول والمبادئ تتطابقان في المعنى، وفي معجم “لا لاند” تعني كلمة “Principe” أصلَ الابتداء أَو نقطة الانطلاق، ومن جانبٍ آخرَ عهد الإمام علي أحد النصوص الثابتة، فالنص هو الكلامُ المدوَّن، وثابتٌ يتمتع بثلاث صفات ذاتية “الاستقرار، الوضوح، الصحة”، وهي صفات متوفرة في العهد موضوع الدراسة، والثابت واضح بذاته، صادقٌ بذاته، لا يتغير في المكان ولا في الزمان.. والثابتُ كمحمول له هذه الصفات يتعين أن تكون كاملة الصفات عينها.
  • الاهتمامُ بمثل هذا العهد وأن تأخذ الجامعات ومراكز البحوث بعين الاعتبارِ القراءة العلمية والموضوعية له، وأن يكونَ لمثل هذا العهد نصيبٌ من الوقت والجُهد، وربطه بالواقع والحركة للاستفادة منه، وبإمْكَان المؤسّساتِ العلمية والتعليم العالي أن تعتبرَه مَسَاقاً ضمن المقرّرات الدراسية، ومن ناحية أُخرى تتم القراءةُ الرأسية والأفقية للعهد، أولاً مع ما أنتجه الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- من عهود أُخرى ورسائل، وخطابات… إلخ، وممارسة في الواقع أَيْـضاً، هذا من جانب، ومن جانب آخر، القراءات الأُخرى على امتداد الدولة الإسلامية في أزمنة مختلفة، وانفتاحه أفقياً على الآخر؛ بمعنى أنه نسق يتجاوز الخصوصية والذاتية ليأخذ بسنة التفاعل والتحاور.
  • إنشاءُ هيئة أَو مؤسّسة تُسمَّى المؤسّسة أَو الهيئة الوطنية للنزاهة مثلُها مثلُ الهيئة الوطنية للفساد، مهمتُّها الأَسَاسيةُ إيجادُ معاييرَ ومقاييسَ لوظائف الدولة الحكم الأَسَاسية، وتضع معايير اختبار لمن يشغلها تنطلق من عهد الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-. وترجمة الكليات التي تضمنها العهد إلى إجراءات وعمليات تلائم التغيرات الجديدة، دون الإخلال بالمبادئ والقيم الأَسَاسية، والأحكام الثابتة، يستقطبُ في هذه المؤسّسة/ الهيئة أفضلُ العلماء والخبراء.
  • أخيراً، تمتلكُ اليمنُ مقوماتِ العمل بمضامين العهد العلوي، والفرصةُ متاحة لأَن تقوم بأداءِ رسالة التبليغ بالعودة إلى ذلك النهج المنير؛ لأَنَّه الكفيل بإقامة الدولة الصالحة والعصرية المتحضرة، وبالإمْكَان أن تتبنى إقامةَ مؤتمر عالمي، ويشتركُ فيه العلماء والخبراء من عدد من الدول على المستوى المؤسّسي والفردي، ويفتح باب المشاركة للأمم المتحدة وتذكيرها باهتماماتها بالعهد العلوي ومرتكزات الحكم الصالح/ الجيد، كذلك إبلاغ المسؤولين غير المسلمين الذين اهتموا بالعهد العلوي، وعباراته الشهيرة التي رفعوها في مؤسّساتهم… إلخ.

وبالله التوفيق.

([1]) حامد جامع، مرجع سبق ذكره،

([2]) الطبقة في فكر الإمام علي كرم الله وجهه: “وظيفة اجتماعية من حيث أنها تتسم مع بقية طبقات الرعية في إنجاز وظائف الإصلاح لنفسها ولغيرها من الطبقات في سياق إنجاز الرعية في مجموعتهم للوظائف الأربع المتمثلة في حياته الخراج واستصلاح الشرعية، وجهاد العدو وعمارة البلاد” للمزيد من التوضيح يرجع إلى: أحمد ناجي أحمد النبهاني، رسالة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى الأشتر النخعي: قراءة لنص تراثي في السياسة الشرعية في ضوء الحالة اليمنية، (صنعاء: مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، 2000م). ص69..

([3]) المرجع السابق، ص 77- 78

([4]) أحمد بن عبدالله الأصبهاني (أبو نعيم)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ج1 (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1932) ص122. كذلك: ابن أبي الحديد “مرجع سبق ذكره، ج1ص158.

.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com