“ملزمة ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى”

عندما يقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} معناها أيضًا – فيما نفهم – أنه أيضًا هم لن يقبلوا منك إلا أن تتخلى عن ملتك التي أنت عليها، وعن أمتك التي أنت منها، هذه حقيقة، آيات الله حقائق، وفي نفس الوقت سيأتي الواقع يكشفها، فيقول في آية أخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)، سنريهم آياتنا سواء كانت آيات جديدة، أو شواهد على آياته، شواهد تكون هي مصاديق لما نطقت به آياته داخل كتابه الكريم، {فِي الْآفَاقِ} في آفاق الدنيا، في أقطار السموات والأرض {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} يتبين هو، يظهر، تظهر الحقائق بشكل تفرض نفسها على كل من يعاند، حقائق تتجلى للناس الفاهمين، وتفرض نفسها أيضًا حتى على المعاندين فيقطعون بأن تلك الآيات هي الحق، ويقطعون أن هذا الكتاب الكريم هو الحق، ويقطعون بأن هذا الدين هو الحق، ويقطعون بأن كل ما أخبر الله عنه هو حق، مع الزمن سنريهم آياتنا مع الزمن في الآفاق وفي أنفسهم، الكثير من المتغيرات تحدث على يد الإنسان نفسه، فتبرز الشواهد، نحن قلنا في دروس سابقة أنه ما من شيء إلا ويحدث فينا ما يشهد له، ما من شيء من الأشياء التي هي آيات من آيات الله، أمر من دين الله، ونحن لا نكاد نصدق به، أو نحن نستبعده، أو قد نرفضه، هناك في واقعنا وفي ممارساتنا، وفي تصرفاتنا ما يشهد بأنه الحق، لكن المشكلة عندما يكون الإنسان في هذه الدنيا يعيش عمرًا طويلًا سنة بعد سنة، وفي السنة الواحدة كم تحدث من متغيرات، كم تحصل من أشياء، من أحداث تشهد بصدق ما أخبر الله به، تشهد بالحقائق التي داخل كتاب الله الكريم، ولكن لا يلتفت الإنسان إليها، لا يلتفت إليها، يكون في واقعه معرض، والإنسان الذي يضع لنفسه برنامجًا معينًا في هذه الدنيا يأخذ عليه كل ذهنه، وكل اهتمامه، لن يبصر الأشياء الأخرى بالشكل الذي يفيده فيزيده بصيرة، ويزيده معرفة، ويزيده هدى ونور.

فيما أتصور هكذا حياتنا، كل واحد منا يضع لنفسه برنامجًا معينًا مرتبط بأمور معيشته، إما أنه قد قرر أن يشتغل في التجارة، فهو يفكر في الدكان، ويفكر في البضاعة من أين يأخذها، وهكذا ذهنه معظمه يتجه إلى هذا الجانب، أو يفكر في أن يبيع ويشتري في [القات] مثلًا ليله ونهاره تفكيره حول موضوع القات، أويفكر في الزراعة.

وهذا في الواقع هو ظلم للنفس، ظلم للنفس؛ لأن الله سبحانه وتعالى وهبنا مدارك واسعة، وهب الإنسان قدرة على أن يستوعب إدراكه وذهنه الأشياء الكثيرة من حوله، فيمكنه أن ينشغل في التجارة، يعمل في التجارة، أو في الزراعة، وفي نفس الوقت ما يزال في ذهنه، ما يزال في مداركه سعة، ما يزال هناك مجال واسع جدًا لأن يدخل الأشياء الأخرى ويهتم بها ويدركها ويتأمل فيها، نحن من نضيق على أنفسنا نظرتنا، الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4) في شكله، في مداركه، باستطاعته أن يستوعب الأشياء الكثيرة.

يقول علماء في هذا العصر: بأن الإنسان يتعمر عمرًا طويلًا ويموت ولا يكون قد استغل من دماغه إلا نحو 10% دماغه لا يكون قد استغل منه إلا نسبة بسيطة هي ما تساوي 10% أي العشر، وبقية الأشياء، هم يقولون هكذا: دماغه على أساس أنهم يعتبرون أن الدماغ هو مركز لكثير من الإدراكات والمشاعر والمعلومات، وهناك الذاكرة التي تحفظ الأشياء الكثيرة من المعلومات، المهم معنى هذا سواء أكانوا مصيبين بأن الدماغ هو المسؤول عن هذا، أو أن المقصود أن الإنسان لديه مدارك واسعة جدًا، ولديه قدرة وهبها الله له يستطيع أن يستوعب بها أشياء كثيرة جدًا، فيشغل ذهنه هنا، ويشغل ذهنه هنا، وفي مجالات متعددة.

الإنسان المؤمن، الإنسان المسلم بمعنى الكلمة هو من يستفيد من كل شيء حوله، من متغيرات الحياة، من الأحداث المتجددة في الحياة، أي حادث في أي بقعة من الدنيا تأكد أن فيه شاهدًا هو فيه آية، هو شاهد على آية وفيه آية، وفيه عبر كثيرة، ألم تكن تلك الأحداث التي وقعت في الأمم الماضية، ألم يأت القرآن الكريم يقصها علينا وعلى النبي نفسه (صلوات الله عليه وعلى آله)؟ ليقول للجميع: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: من الآية111) لأولي الألباب: الناس الذين هم لديهم لب، أي لا ينظرون إلى الأشياء نظرات سطحية، هم يتفهمون الأشياء، هم يتأملونها وينظرون ما فيها من عبر فيستفيدوا منه.

قصصهم، ما هو القصص هنا؟ تلك الأحداث التي كانت تحصل، ألم يعرض القرآن أحيانًا كلمة يقولها كبار العشائر في أيام نوح، أو في أيام فرعون، أو في أيام صالح أو هود أو أي نبي من الأنبياء؟ حتى الكلمة الواحدة يسجلها هي حدث ومن وراءها عبرة، وتوحي بالشيء الكثير، مواقف الأنبياء أيضًا.

لأهمية هذه يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} (يوسف: من الآية111) عبرة يعني: دروس كثيرة جدًا، والدروس لا يعني فقط هو مجرد المعرفة، أي عرفت أنه كان هناك نبي، وأنه كان يقول كذا، وقالت أمته له كذا، وانتهى الموضوع، لا، عبرة، فيها دروس كثيرة، تعرف من خلالها نفسية أهل الباطل، تعرف من خلالها ما الذي يحول بين الناس وبين أن يؤمنوا، تعرف من خلالها أيضًا لماذا كانوا ينطلقون بجد واجتهاد لمعارضة نبي من أنبياء الله، تعرف من خلالها كيف كان الأنبياء (صلوات الله عليهم) رحماء جدًا بالأمم، ومخلصون وناصحون، وهم أيضًا أناس اصطفاهم الله وأكملهم.

ثم تستغرب أن كل أمة من الأمم ما سلم نبي من أنبياء الله، أي نبي يبعثه إلى أي أمة من الأمم ما سلم من أن يقولوا له أنه ساحر أو مجنون، مجنون، مجنون ذلك الشخص الذي اصطفاه الله وأكمله، ذلك الذي يتقطع قلبه أسفًا وألمًا على الناس أن لا يهتدوا، ذلك الذي يبذل وقته كله لهداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، يقابل بأن يقال له: مجنون شاعر كذاب مفتري ساحر، وإن أتى بكتاب من عند الله {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان:5).

العبر كثيرة جدًا من خلال الأحداث سواء ما قصه الله في القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية؛ أو من الأحداث التي تطرأ في هذه الدنيا، سواء في تاريخنا القريب، تاريخ الأمة هذه الإسلامية، أو في عصرنا الحاضر، وما أكثر الأحداث والمتغيرات في هذا العصر الحاضر، لكن يبدو أننا لا نرى فيها إلا أنها أحداث مجرد أحداث، خصومة وقعت بين دولتين هنا وهناك حصل ما حصل، ونتابع الأخبار لنعرف ماذا يحدث فقط، كل حدث فيه عبرة، كل حدث هو آية، هو شاهد على آية من آيات الله، هو شاهد على كل ما هو حق سواء كان في كتابه الكريم، أو أخبر به الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله).

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)، هو شاهد على كل شيء، لا يغيب، هو شاهد، فهذه الأحداث التي تحدث هو يعلمها، وهو يعلم ما فيها من عبرة، وكثير منها، كثير منها هي لا تخرج عن سننه التي رسمها في هذه الحياة، تلك السنن التي تقضي بأنه إذا ما عملت أمة هكذا ستكون نتيجة عملها هكذا في هذه الدنيا، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: من الآية53) فهو من سيريكم آياته في الآفاق وفي أنفسكم، حتى يتبين أن كلما ذكره في كتابه الكريم هو حق لا شك فيه، أكرر، نحن كمؤمنين أليس كذلك؟ ونرجو الله أن نكون مؤمنين حقًا، وأن نكون من الصادقين في إيماننا، إذا أردت أن تكون مؤمنًا بمعنى الكلمة فخذ العبر من كل حدث تسمع عنه، أو تشاهده حتى في بلدك، حتى في سوقك، حتى داخل بيتك، كل شيء فيه دروس وفيه عبرة، ليزداد الإنسان بصيرة، يزداد إيمانًا، يزداد وعيًا، والإنسان الذي يعرف يزداد إيمانه ووعيه؛ سيجنب نفسه الكثير من المزالق، سيدرك كيف ينبغي أن يعمل؛ لأنه من خلال تأملاته الكثيرة يعرف أن الأشياء أشبه بسنن في هذه الحياة، ولهذا قال الإمام علي (عليه السلام): (العاقل من تدبر العواقب)، وكيف تستطيع أن تتدبر العواقب، أن تعرف أن أمرًا كهذا تكون عاقبته هكذا إلا من خلال تأملاتك، وتدبرك للقرآن الكريم، ولصفحات هذا الكون في أحداثه المتجددة والكثيرة؟ ولهذا قال في كلام آخر: (العقل حفظ التجارب) التجارب هي الأحداث سواء تجارب تجريها أنت، أو أحداث تقع في الحياة، هي كلها لا تخرج عن سنن مكتوبة وراء كل عمل من الأعمال، أنه عملٌ ما يجر إلى نتيجة معينة، سواء كانت نتيجة سيئة أو نتيجة حسنة، إذا عاش الإنسان في هذه الدنيا وهو لا يحاول أن يستفيد، أن يستفيد مما يحصل فإنه نفسه من سيكون معرضًا للكثير من المزالق، يتأثر بالإعلام المضلل، يتأثر بالدعاية، يتأثر بالوعود الكاذبة، يتأثر بزخارف القول.

وهكذا يظل إنسانًا في حياته مرتابا يهتز لا يستطيع أن يستقيم ولا يستطيع أن يثبت؛ ولأن الدنيا مليئة بالضلال، والباطل له دعاته الكثيرون، والباطل لديه إمكانياته الكبيرة والواسعة، يمتلك الباطل هنا في هذه الدنيا أكثر مما يمتلك الحق؛ له القنوات الفضائية، وله وسائل الإعلام بشتى أنواعها، بشتى أنواعها سواء التلفزيون أو الإذاعة أو الصحيفة أو أشخاص يتحركون في أوساط الناس يحملون أفكارًا ضالة، أو كلمات مضلة، يحملون زخارف من القول يضلون بها الناس، ودعاة الحق قليل، الكثير منهم مغلوب على أمره، مقهور، وإذا ما تحرك يجد نفسه يفتقر إلى الكثير من الإمكانيات سيكون صمته محدودًا، ويكون مجال نفوذ كلمته محدودًا، حينئذٍ يكون الإنسان عرضة لأن يضل بسهولة إذا كان من يعملون من حوله، إذا كان كلما تسمعه وتشاهده من حولك يخدم الباطل بنسبه 90% أو أكثر، والنسبة القليلة هي نسبة الحق، وهي المغمور جانبها، المغلوب والمقهور صاحبها.

إذا أنت تتأمل الأحداث لا تكن أنت بالشكل الذي يتلقى من الآخر ما يقول، ثم يأتي الطرف الآخر فتتلقى منه ما يقول حينئذٍ لن تكون أكثر من مجرد ناقل، تكون ذاكرتك عبارة عن شريط فقط تسجل فيها كلام فلان ثم يأتي كلام الآخر تسجله على الكلام الأول فيمسحه، وهكذا؛ أنت على هذا النحو لن تستفيد من العبر حتى من شخص واحد، قد يأتي زعيم من الزعماء يسمعه الناس عشر سنين عشرين سنة ثلاثين سنة، وكل فترة يقول كلاماُ معسولًا، ووعود براقة، ويقول أما الآن: الفترة هي فترة قليل من الكلام كثير من العمل، تقول: صحيح، تسجل الكلام في ذاكرتك، ثم تأتي شواهد على أن كلامه ذلك ليس واقعيًا فأنت لا تبصرها ولا تتأملها.

إذًا وأنت تحتفظ بذلك الكلام وأنت نظرتك إلى ذلك الرجل أنه هكذا كما قال، ولا تبصر الشواهد على أن كلامه غير حقيقي، ثم إذا بك تملّ، وتقول: يبدو أن هذا الكلام غير صحيح؛ قد بلي الشريط في ذاكرتك؛ ينطلق من جديد يقول: نحن الآن نريد أن نفتح صفحة جديدة، والآن هو فترة أن نقول ونعمل، وقليل من الكلام وكثير من العمل! قالوا: [والله كلامه أمس سمعناه جميل جدًا وقال: أما الآن صفحة جديدة سنفتحها]! وهكذا، تعيش مع شخص على هذا النحو عشرين سنة، ثلاثين سنة وأنت ذلك الذي لست أكثر من سماعة.

الله وبخ بني إسرائيل في كثير من آياته الكريمة على كثير مما كانوا عليه، منها قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} (المائدة: من الآية41) سماعون للكذب، أنت قد تسمع الكذب من الشخص تسمعه فتعرف أنه كذب، أو تعرف حتى لو لم تجد الشواهد في نفس الوقت على أنه كذب، تستطيع أن تقطع أن تلك النوعية لا يمكن أن يأتي منها كلام صحيح، فأنت من تقطع بأنه كذب، لم يقل: يسمعون الكذب، {سَمَّاْعُوْنَ} يسمعه ويتأثر به في وقته، وقد ينطلق أيضًا وسيلة لنشره يخدم ذلك الكذب.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com