المشهد الأخير.. في مسرحية المرتزق الحقير

التأريخ يصنع وعينا (4)

حمود الأهنومي

بذريعةِ مواجَهةِ القرصنة البرتغالية والأوروبية في البحر الأحمر والمحيط الهندي أرسل المماليك في القرن العاشر الهجري من مصر جيشاً بقيادة سليمان باشا إلى البحر الأحمر واليمن، ولما وصلوا إلى كمرانَ أسرع يرسل إليهم عامر بن داوود، حاكم عدن، وآخر أمراء الدولة الطاهرية، ويطلب النصرة منهم على حاكم صنعاء الإمام شرف الدين، وفي مقابل ذلك أعلن ترحيبَه بهم في عدن، فتظاهر الباشا بالاستعداد لهذا الطلب، فوجّه مراكبه البحرية إلى عدن، وطلب الإذن من ذلك الحاكم بدخول طائفة من جنوده؛ لقضاء حوائجهم الطبيعية، فأذن لهم، لكن المفاجأة أن أولئك الجند الداخلين ما لبثوا أن قبضوا على ذاك الأمير الطاهري ومساعديه، وأرسلوا بهم إلى الباشا، ليأمُرَ بشنقهم في أحد صواري سفينته فوراً.

واصل هؤلاء المماليك – الذين كان يُطْلَق عليهم (الجراكسة) – احتلالَ اليمن، إلى أن وصلوا إلى المقرانة التي تقعُ اليوم على بُعد 50 كيلو شرق مدينة الضالع، وكانت عاصمة الدولة الطاهرية، وظفروا هناك فيها في عام 923هـ بالشيخ عمر الجبرتي، سمير السلطان عامر بن عبدالوهاب الطاهري ونديمه، فأراد الفقيه أن يتزلَّف إلى الغزاة بأفضل أنواع الزلف إلى قلوبهم، حيث دلهم على دفائن عامر بن عبدالوهاب الطاهري من الذهب والفضة والجواهر ونفائس الذخائر، فقبضوا تلك الأموال، واستمتعوا بها، ولكنهم للأسف لم يبسطوا أيادي الشكرَ لذلك الفقيه على حُسْـن لطفه بهم، بل أرسلوا إليه مخالب الموت، وأمروا بأن يساق إلى المشنقة.

لم يكتفوا بذلك، بل أمروا بتدمير مدينة المقرانة تماماً، فهي خرابٌ من ذلك الحين وإلى يومنا هذا.

من جانبٍ آخرَ.. فإنهم حين ترجّلوا عن البحر ونزلوا إلى ساحل تهامة، كان الفقيه أبو بكر الزيلعي قد أسرع إلى موالاتهم، وإعلان الطاعة لهم، وخطب لهم على منبره في مدينة اللحية، ثم تحرّك بمن معه للقتال تحت لوائهم، لكن قبائل الواعظات لم يتركوه وشأنه، بل قتلوه واثني عشر نفراً من الجراكسة بعد فترة ليست بالطويلة؛ جزاءً له على خيانته وموالاته للغزاة الأجانب.

لاحقاً حلّ الاحتلال التركي (العثماني) بدلاً عن الاحتلال المماليكي (المصري الجركسي)، وتطورت الأمور إلى أن قاد الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد ثوراتِ اليمنيين في مواجهة أولئك الغزاة الأتراك، وحقّـق كثير من أعلام اليمن إنجازات عظيمة في هذا السبيل، ومن أبرز الأعلام الذين ساهموا في تلك الثورات وتسنموا كاهل الفضل فيها، الفقيه العالم علي بن محمد الشهاري، أحد أعلام مدينة شهارة، وأبرز وجهائها ومسؤوليها، “وكان من أصحاب الإمام القاسم وعيونه، وكانت له سابقة عظيمة في الجهاد بين يديه”، على حد وصف بعض المؤرخين.

غير أن الدبور وسوء الخاتمة لا يتركان أصحاب النيات الخاربة، والضمائر الملونة، ففي عام 1022هـ نكص الشيخ علي بن محمد الشهاري على عقبيه، وتمرّد على الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، ووالى الأتراك الغاصبين؛ بسبب أنه اشرأبَّت نفسه للولاية على منطقة من المناطق، والحصول على شيء من حُطَام الدنيا، ولم يسعفْه الإمام بذلك، فإذا به يراسلُ الأمير درويش التركي.

وعده درويش باشا بأن يجعلَه أميرَ الأمراء، ومضت أيامٌ أو أشهرٌ قليلة جداً ليحصل صراع داخلي بين قادة الأتراك في اليمن، فيأمر القائد الجديد والمنتصر في ذلك الصراع، جعفر باشا، بضرب أعناق أمراء التيار المهزوم، وكان منهم الفقيه علي بن محمد الشهاري للأسف الشديد، وهكذا ذهبت أحلام هذا الرجل أدراج الرياح، ومن استعجل الدنيا فاتته، وكان في آخرته على أعظم خطر.

وبعد صراعٍ مرير بين الأحرار اليمنيين بقيادة الإمام القاسم بن محمد وبنيه من جهة، والأتراك ومرتزقتهم ومنافقيهم من اليمنيين من جهة أخرى، تحرّرت أجزاءٌ واسعةٌ من اليمن، وحوصر الأتراكُ وأولياؤهم في مدينة صنعاء شهوراً طويلة.

في أجواءِ الحصار، وعند سدول ليل الإدبار، وغداةَ انهزام الطغاة فإنهم لا يلبثون إلا قليلاً، حتى يبحثوا لهم عن ضحايا، يصبون عليهم لعناتِ الهزيمة، وعن مشاجب يعلقون عليهم أخطاءَهم، من أقرب مساعديهم، وأخلص قادتهم، وطالما عاد الطاغية إلى أيديه وأطرافه القذرة، ليقطعها.

في عهد الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم، عاد والي اليمن حيدر باشا على مساعديه من الأعوان والمنافقين والمرتزقة، ليلقي عليهم لائمة الهزائم، ويحمِّلهم مسؤولية انتصار الأحرار، فعاملهم بالهوان والخسف، والإذلال والعسف.

فمثلاً وزيره الذي كان يُدعى بـ (عبدالله المحرقي)، “عاقبه أشد العقاب، وعذبه بأنواع العذاب، وأخذ جميع ما في يده، وتركه فقيراً لا يملك قطميراً، حتى بلغ به الحال إلى أنه كان يطلب الصدقة من المارِّين تحت نافذة سجنه الذي هو مسجون فيه”، ثم أمر حيدر باشا أن تُسَمَّر كفاه في تلك الطاقة، كُـلّ ذلك بتهمة أنه لم يبلِّغه ببعض التقارير، يوم كان محتجِباً عن الناس، ومشغولاً عنهم بممارسة اللهو، وشرب الخمور.

أما الأمير محمد كاني شلبي فإنه سجنه في الدار الحمراء، ثم قتله، والسبب – كما يقول المؤرخون – أن حيدر باشا ادّعى أنه كان قد أراد الخروجَ إلى الرحبة، عند وصول طلائع الثوار اليمنيين إلى صنعاءَ، لكن هذا الأمير أشار عليه بالبقاء فيها، وهكذا فإن منطق التأريخ يقول: إن هرّة العدوان.. لا بد يوماً أن تأكل قططَها السمان.

وصدق الله حيث قال: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).

تلك هي قصة المنافقين والمرتزقة مع سادتهم الغزاة والطغاة والمستبدين على مر الزمان، وذلك هو مشهدهم الأخير، في مسرحيتهم التراجيدية في كُـلّ وقتٍ وأوان، ولك أن تتخيل اليوم هذا الطابور الطويل حول العدوان السعودي الأمريكي، من مرتزقة منافقين، خطباء وواعظين، ومثقفين، وإعلاميين، وشيوخ، وأفراد، وقادة رأيٍ وكتابٍ، ومنظمات وأنظمة، وقادة وجنود، كيف سيرمي بهم الغزاة عند أول منعطف من الهزيمة، كأحذية بالية، انتعلوها لبعض الوقت، ثم رموا بها في أقذر مزابل التأريخ، ولن يتركوهم حتى يقصفوا بيوتهم، ويقتلوهم وذويهم، ويفرغوا ما بدواخلهم من شحنات الغيظ وأوجاع الهزائم.

وبهذا يتبين أن:

-أن الغزاة والطامعين لا يرعون للمتعاونين معهم إلا ولا ذمة، وأنه لا سبيل للتعامل معهم إلا بالمواجهة والمقاومة والثورة.

-وأنهم ما (دَخَلُوا قَرْيَةً) إلا (أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) بمدننا وقرانا التي رحَّبت بهم، هذا إن كانوا ملوكا، فما بالك إذا كانوا مجاميع، هي عبارة عن أوساخ الأرض، وأقذار العالم، وشذاذ الآفاق، تجمعت بمغناطيس المال، وحركة الدولار والريال، لكي تفرض جبروت مشغليها، ونقائصهم، وشذوذهم الأخلاقي، على شعبٍ شهد له القرآن وسيد ولد عدنان بالإيمان.

-وأن الغازي والمحتل لا ينظر إلى المنافقين والخونة لبلدانهم الذي يطوفون حوله، ويمسحون الغبار من جواربه، إلا على أنهم مجرد خونة ومنافقين، ومستأجرين، ولا يستحقون ذرة من احترام وتقدير، ولهذا التأريخ يحدثنا أنهم كانوا مجرد أدوار، وانتهوا بانتهاء أدوارهم، وعلى أسوأ خاتمة، وأفظع ختام.

-ولك أن تأخذ خائناً واحداً في ذهنك وأن تتوقع ما شئت حول مصيره الذي سيصير إليه حينما تلقي الحرب أوزارها، أو بالأحرى حين ينهزم أولياؤهم الذين يجندونهم في هذه المهمة القذرة ضد بلدهم وشعبهم.

-وأن اليمنيين ربما عاجلوا المرتزق والخائن منهم بإنزال العقوبة عليه، ولا ينتظرون الأقدار والآجال لتحكم فيه، كما حدث مع أهل الواعظات من تهامة في ذلك الفقيه الزيلعي.

-وأهم درس هو أن سوابق الإنجاز الإيجابي، والانتماء المبكر للحركة الجهادية، ليس بعاصمٍ للإنسان من الوقوع في منحدر إبليس، وهاوية الغواية، إذا كانت القلوب خاربة عن المعاني الجميلة والقيم الإيجابية، ومكتظةً بالطمع، والشهوات، والفساد.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com