وقفة مع برنامج رجال الله.. معرفة الله – وعده ووعيده – الدرس التاسع

 

الوعد والوعيد يبدأ من الدنيا وينتهي بالآخرة

الحلقة الثانية

المسيرة| عبدُالرحمن محمد حميد الدين

إنّ الثقافةَ التي يحملُها المرءُ ويدينُ اللهَ بها، لا بد أن تنعكسَ على أفعاله وواقعه سلبًا أو إيجابًا، وعندما نأتي إلى واقع الأُمَّـة اليوم، سنجد أن الجميع يتفق على أنه واقع سيء، والواقع السيئ تصنعه ثقافة أو قناعة معينة، وبالتالي لا بد من عملية تغيير تبدأ بالقناعات التي تصنع التوجه، وتدير السلوك، فالبشرية بشكل عام هي أسيرة لقناعاتها الثقافية، وهذا ما تؤيده كافة الأحداث والمتغيرات من حولنا في هذا العالم.

فنجد أن الكثير من الأعمال والمواقف أصبحت بعيدةً عن القيم، والدين، فانتشر الظلم والفساد الأخلاقي داخل المجتمعات العربية بشكل كبير، وغابت الكثير من القيم الأخلاقية والدينية، وأصبح مستوى التطور يُقارن بقدر ما يحصل من انسلاخ عن الدين في قيمه، ومفاهيمه. ونتيجة للبعد عن روحية القُـرْآن الكريم، والاستهداء بهديه؛ أصبحت المنهجية “الدينية” لا تجد فيها الجاذبية التي تشدّ الإنسان إلى الله، وترسخ استشعار العبودية لله، والتسليم له، ولا ما يجعله يمتلئ ثقة بالله، ويؤمن إيْمَـاناً راسخاً بأن الله غالب على أمره.

فهذه الظواهر هي نتيجة ما يحمله الناس من قناعات؛ فالقناعة هي التي تحدد مسار الإنسان، وترسم سلوكه، وكلما تصحح مفهوم، كلما تعدل ورائه سلوك، وموقف، وعمل.

ومن القناعات المغلوطة التي انعكست على واقع الأُمَّـة، هو الفهم الخاطئ لمبدأ الوعد والوعيد؛ الذي نفاخر الآخرين بإيْمَـاننا به، وننسى أنّ الإيْمَـان بهذا المبدأ هو إيْمَـان ناقص؛ لأنه يحصر القضية في يوم المحشر أو في يوم الحساب، ولا يوجد أي تعاطٍ إيجابي وعملي مع هذا المبدأ في الحياة الدنيا، فالتعاطي السائد هو تعاطٍ نظري ومرتبط باليوم الآخر؛ وهو اليوم الذي سيكون الناس جميعهم كفار ومنافقون ومسلمون مؤمنين بكل ما جاء من عند الله..

ولذلك يقول الشهيدُ القائد (رضوان الله عليه): ((فعندما قدمت المسألة على هذا النحو: أصبحت لدينا مفاهيم كثيرة مغلوطة، وأصبحت نظرتنا إلى الدنيا هذه بأنها دنيا لا علاقة لنا بها أبداً، لا علاقة لنا بها أبداً! وفهمنا الدين في أنفسنا وفهَّمنا الآخرين بأنه دين لا علاقة له بالدنيا، والدنيا هذه هي الحياة، أي لا علاقة لهم بحياتنا الدنيا.

قدم الوعد والوعيد بأنه يعني فقط: [الجنة والنار] ولم يأت حديث عن ما وعد الله به أولياءه في الدنيا، عن ما وعد الله به من يستقيمون في الدنيا، من يهتدون بهديه في الدنيا، ألم يعد وعوداً كثيرة؟

وقدم الوعيد بأنه النار فقط!! ولم يأت حديث عن ما توعد الله به المجرمين والفاسقين والضالين والمعرضين عن هديه هنا في الدنيا)).

 

الأُمَّـة أصبحت تعيش حالة من الوعيد:

وعندما نأتي لنقيّم واقع الأُمَّـة حكوماتٍ وشعوبًا، سنجد أنّ الحالة السائدة والغالبة هي حالة القهر، والذل، والاستضعاف، والعبودية، والجهل، والتبعية العمياء للغرب؛ فأصبحت أمريكا ودولُ الغرب هم القدوة في كُـلّ شيء، وهم الحكام الفعليون للمنطقة، وهم من يرسمون السياسات الداخلية للشعوب العربية والإسلامية، وهم من يحددون أنّ هذا الزعيم أو ذاك الملك شرعي أو غير شرعي، وهم من يضعون الجرع والبرامج الاقتصادية، وهم من يرسمون التحالفات العسكرية ويقودونها..، وهم من يضعون المعايير الخاصة بالديمقراطية والإرهاب، وهم.. وهم.. إلخ..!!. ثم يأتي دعاةُ الدين؛ المحسوبون على الإسلام، ليعتبروا أنّ هذا الواقع يدل على أننا على الحق، وأنه يجب أن نتعبد الله بالصبر على ذلك الواقع السيء..!!. ومما قاله الشهيد القائد في ذلك:

((حتى أصبحنا – لخطورة سلبيات هذا المفهوم، مفهوم: الوعد والوعيد – أصبحنا نعيش في حالة وعيد هي مما توعد الله بها من يعرضون عن ذكره، من يقعدون عن نصرة دينه؛ فأصبحنا نعيش في حالة من الذلة، وحالة من الإهانة، وحالة من الاستضعاف، هي حالة عقوبة، ولكن لا نعتبرها عقوبة، وناسين، بل نتعبد الله بها! أليس هذا مفهوماً مغلوطاً؟.

أنت في حالة عقوبة على ما قصرت وإذا بك تنظر إلى ما أنت فيه فتتعبد الله بالصبر عليه! وتتعبد الله بالبقاء عليه إلى آخر أيامك؛ لأنه هكذا فهمنا: أن الوعيد هو ذلك الذي هو مرتبط بالنار)).

 

بعض مظاهر الوعد والوعيد في الدنيا:

وعندما ينظر الإنسانُ في السنن القُـرْآنية والتأريخية، ويرى واقعه وواقع الناس من حوله، سيجد أنّ هناك الكثير من المظاهر الجديرة بالتأمل؛ فكم من وعودٍ إلهية تحققت للناس هنا في الدنيا؛ لأنهم استقاموا، وكم من وعيدٍ إلهي حصل لأقوام وجماعات وحضارات، انتهت في لحظة وأصبحت في خبر كان؛ نتيجة لعصيانها وكفرها بالله.. ومما قاله الشهيد القائد في ذلك:

((ألم يذكر الله في القُـرْآن الكريم في آيات كثيرة الوعد والوعيد هنا في الدنيا؟ {وَأن َلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}(الجـن:16) أليس هذا وعداً إلهياً؟ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(الأعراف: من الآية96) أليس هذا وعداً إلهياً في الدنيا؟ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (نوح:10 – 12) أليس هذا الكلام وعداً من الله في الدنيا؟ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج: من الآية40). {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(المنافقون: من الآية8) أليس هذا وعداً في الدنيا؟.

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ}(القصص: من الآية5 – 6) أليس هذا وعداً إلهياً هنا في الدنيا؟ {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}(آل عمران:112) أليست هذه عقوبة في الدنيا ووعيداً في الدنيا؟ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}(الروم: من الآية41) أليس هذا وعيداً في الدنيا أن يذيقهم؟ {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (الأعراف:152) أليس هذا وعيداً أن المفترين سيذلهم الله، سيعاقبهم الله؟)).

 

الإيْمَـانُ الصحيحُ بالوعد والوعيد يعين الإنسان على فهم واقعه:

فعندما نعودُ إلى القُـرْآن الكريم لنصحح الكثير من مفاهيمنا الخاطئة، ونعيد النظر فيها، سنعرف حقيقة الوضع الذي نعيشه، وسيتمكن الإنسان من تقييم واقعه تقييمًا قُـرْآنيًا، وسليمًا، وإذا أصبح التقييم والتشخيص صحيحًا ستكون المعالجة وعملية التصحيح سليمة وصحيحة.. فهناك الكثير من الوضعيات التي تعيشها الأُمَّـة وتتطلب التقييم والمراجعة، ومعرفة الخلفيات والمسببات، سواء في الواقع الثقافي والتربوي، أو الاقتصادي، أو الأمني، أو السياسي. ولسنا بحاجة لكي نستعين لا بأمريكا ولا بالغرب، ولا بخبراء ألمان أو فرنسيين، أو روس، حتى يأتوا ليقيّموا واقعنا الاقتصادي، أو واقعنا السياسي، أو واقعنا الأمني، ويرسموا لنا الخطط الاستراتيجية والتنموية..!!.. ولكي لا تختلط الأوراق على الإنسان في تقييم واقعه؛ لا بد أن يعود كلٌّ منا إلى القُـرْآن الكريم حتى نعلم المعنى الحقيقي لمبدأ الوعد والوعيد.. ومما قاله الشهيد القائد في ذلك:

((وهكذا تجد القُـرْآن الكريم مليئاً بهذا، مليئاً بالوعد والوعيد، وأن تؤمن بأن الوعد والوعيد يبدأ من هنا من الدنيا؛ أنت ستستطيع أن تفهم واقعك، تستطيع أن تعرف وضعيتك التي أنت فيها، هل أنت في وعد أو وعيد؟ هل أنت داخل مثوبة من الله أو داخل عقوبة من الله؟.

لو كنا نفهم الوعد والوعيد يبدأ من هنا من الدنيا لما اختلطت الأوراق علينا، فأصبحنا نتعبد الله بالبقاء على حالة الذلة التي نحن عليها، كيف هذا؟ أصبحت العقوبات هنا في الدنيا لا نحس بها، العقوبات الإلهية، ألم يقل عن بني إسرائيل عندما ضرب عليهم الذلة والمسكنة بأنه بما عصوا وكانوا يعتدون، أي هكذا سيعمل بالعصاة وسيعمل بالمعتدين. هذه الأشياء التي نؤكد على ضرورة اعتماد القُـرْآن الكريم فيها بالذات: أن نفهم الوعد والوعيد الإلهي بمعناه الكامل، الذي يبدأ من هنا من الدنيا وينتهي في الآخرة)).

 

الإيْمَـانُ بالجنة والنار يجب أن يكون إيْمَـاناً يترك أثره في نفوسنا:

فالمطلوب حقيقة، أن يكون إيْمَـاننا بالجنة والنار هو إيْمَـان يشدنا أكثر إلى الله، ويزيدنا تصميمًا وعزمًا على الاستجابة لله، لا أن يكون الإيْمَـان بهذه القضية مجرد إيْمَـان لغرض التشويق بالجنة، أو لمجرد التخويف من النار، بل لا بد أن يكون هذا الإيْمَـان بالشكل الذي ينعكس على واقعنا، وندرك ونوقن في أنفسنا؛ أنّ لكل عمل هنا في الدنيا ثواب وعقاب قبل الآخرة، وأنّ لكل موقف هنا في الدنيا وعد ووعيد قبل الآخرة.. ومما قاله الشهيد القائد:

((وأن كُـلّ ذلك الوعد والوعيد الذي يبدأ من الدنيا وينتهي في الآخرة، عندما يحدثنا عنه بأنه لن يتخلف، كله ليدفعنا إلى الاستقامة على هديه، والثبات على ما أرشدنا إليه. جهنم، أليست جهنم هي لدينا وقدمت في القُـرْآن الكريم هي العذاب الشديد؟ فعلاً نعوذ بالله من جهنم، جهنم هي مستقر غضب الله سبحانه وتعالى وسخطه، جهنم جعلها الله عذاباً شديداً فوق ما يمكن أن يتصور الناس {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}(الزمر: من الآية47).

الجنة هي النعيم العظيم، النعيم الذي وصفه الرسول (صلوات الله وسلامه عليه) بعبارة موجزة: ((فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) كيف نؤمن بهما؟ وما هو الأثر الذي يتركه الإيْمَـان بهما؟ وكيف نؤمن باليوم الآخر بتفصيلاته تلك المهولة، بتلك الأهوال التي تأتي في ذلك اليوم؟ ما علاقته بمعرفة الله؟ الإيْمَـان باليوم الآخر، الإيْمَـان بالجنة، الإيْمَـان بالنار، يجب أن يكون إيْمَـاناً بالشكل الذي يترك أثره في نفوسنا, إيْمَـاناً يشدنا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الجنة بيده والنار بيده، وهو من يبعث عباده ويحشرهم ويحاسبهم وهو من يصنع كُـلّ تلك الأهوال في ذلك اليوم.

أوليس من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى: الجبار، شديد العقاب، ألم يصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه شديد العقاب؟ أن نؤمن بأنه جبار، جبار على من يتمردون عليه، على من لا يهتدون بهديه، على من يعاندون ما أنزله على أنبيائه من الهدى، من الآيات البينات؟ شديد العقاب لا أحد غيره يمكن أن تصل عقوبته إلى معشار، معشار العقوبة من الله سبحانه وتعالى، هذا نفسه سيربطنا بالله سبحانه وتعالى، بالجبار بشديد العقاب، يربطنا به فنعرفه بهذا سبحانه وتعالى بأنه جبار وشديد العقاب، فيدفعنا ذلك إلى أن نخشاه، إلى أن نخاف على أنفسنا من مخالفة ما هدانا إليه وأرشدنا إليه)).

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com