فلسطين في خطاب الشهيد القائد

محمد ناجي أحمد

يتشابَهُ واقعُ الأُمَّـةِ العربيَّةِ في أيامنا – وهي مقسَّمة ومنقسمة على نفسها إمارات ومشيخات ودويلات صغيرة، وما هو منها وطنٌ واحدٌ يسعى الغربُ وأدواته إلى تفتيته جغرافياً وثقافياً، بما يجعلُنا جغرافياتٍ مجهريةً تابعة وخانعة ومهيمناً عليها وعلى مقدراتها – مع واقع الأُمَّـة العربية في الحادي عشر الميلادي.

ففي القرن الحادي عشر 1098م، كان الفرنجة يحاصرون “أنطاكية” وغايتُهم الشام وبيت المقدس، وكان واقعُ التشرذم السياسي مساعداً لهم كي يصلوا إلى غايتهم، فإمَارةُ “أنطاكية” يحكُمُها الأميرُ “سيان” ومملكة حلب يحكمها الملك “رضوان” ودمشق يحكمها الملك “دقاق” وحمص يحكمها “شمسُ الدولة جناح بن ملاعب” والموصل يحكُمُها التركماني “كربوغا” وحماة يحكمها “سلمان التركماني”، وإمارة حصن عزاز شمال حلب على رأسها الوالي عمر، والصراعُ بين مصر وبغداد صراع على النفوذ مغلف بالمذهبية، كما يستعرض ذلك “أحمد الشقيري” في كتابه “معارك العرب، ط2-1977م”، هذا الوضع المتشظّي في القرن الحادي عشر الميلادي هو الذي ساعَدَ وسهّل للفرنجة أن يستولوا على الشام وبيت المقدس، وهو وضعٌ شبيهٌ بأحوالنا وواقعنا هذه الأَيَّـام، فمشيخاتُ الخليج وإماراتُها تقودُ حرباً على اليمن من أجل تمزيقها إلى هُويات صغيرة، ومصر غارقة في استنزاف داخلي يجعلُها منشغلةً وبعيدةً عن أمنها العربي، ممَّا يجعلها تطرحُ جزءاً من جُزُرِها ذات الأهميَّة لأمنها القومي؛ كي تصبح اسماً في ملكية الكيان السعوديّ، وفعلياً ضمن السيادة الصهيونية، والعراق الذي لم يتعافَ منذُ الاحتلال الأمريكي له، وتفكيك عُرَى وَحدته إلى عرب وأكراد وسُنة وشيعة، وحرب مع الإرْهَـاب المسمى داعش، وهو أحدُ منتجات الغرب الاستعماري، وهذا المغرب العربي بدُوَلِه بعيداً عن لُحمته المشرقية يعانون من أزماتٍ اقتصادية وصراع الحدود الجغرافية، وفزّاعة تقرير المصير، وتهيؤ العِرقيات للنهوض متى ما وجدت وَهْــناً في جسد الدولة وقوتها!، وهذه سوريا التي لم يستطع الغربُ تركيعَها وجعلها تستسلمُ وتسلِّمُ لإسرائيل، فاختلقوا لها “ربيعاً” استعمارياً عمل على تجميع المقاتلين من أصقاع الأرض بلافتات دينية، واستثمروا التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بهدف إسقاط النظام، وتقسيم سوريا إلى إمارات تتقاتل فيما بينها حمايةً للأمن الإسرائيلي، وهذه ليبيا التي كانت صاحبةَ السيادة على ثروتها وأرضها أمست بلا ثروة ولا وَحدة للأرض، ولا سيادة لدولة!

لم تعد إسرائيلُ بحاجةٍ إلى سلاح نووي يحميها من محيطها العربي، فلقد تكفّلت مشيخات الخليج، دويلات محطات البنزين بدفع فاتورة تمزيق الدول العربية، وإدخالها في اقتتال داخلي قضى على الأخضر واليابس!

وفي وضع كهذا يتمدَّدُ الكيانُ الصهيوني ولا يُبالي، ويواصل أَهْـدَافَه الاستيطانية، وتحويل القُدس إلى عاصمةٍ لكيانه، ويفرض شروطه، ويستولي على المياه من البحيرات والأنهار العربية، وعلى الغاز، مقترباً من إنجاز مشروعِه الشرق أوسطي الذي روّج ونظّر له شيمون بيريز في كتابه عن الشرق الأوسط الجديد الصادر عام 1993م.

لقد كانت هزيمةُ العرب في أنطاكية عام 1098م في الثالث من حزيران، وفي عشرين حزيران من عام 1268م كان النصر على الفرنجة بقيادة الظاهر بيبرس، وكما يقول الشقيري: “لقد كانت الهزيمة في عهد التجزئة والانفصال، في عهد الملوك والممالك، في عهد الأمراء والإمارات، وفي عهد الخلفاء والخلافات، وكان النصر في عهد الوحدة الواحدة، لها حاكم واحد، وحدود واحدة… وكذلك كانت عبرة التأريخ، نصر مع الوحدة وهزيمة مع الانفصال. وما أشبه الليلة بالبارحة”.

لقد أنجز الشهيدُ السيد حسين بدر الدين الحوثي عمليةَ تحويل الوعي والشجاعة إلى لقاء مع السلاح، فالفرد “مهما أوتي من شجاعة لا يستطيعُ أن يحقّـق انتصاراً من دون سلاح… “، كما يرى ذلك الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب أكتوبر 1973م.

وفي معارك حركة “أَنْصَـار الله” كان السلاحُ المقاوِمُ هو الشجاعَ الذي يرسُمُ بطولته الأسطورية في الداخل، ويعبّئ نفسَه لمعركة العرب الكبرى، أي تحرير فلسطين كُلّ فلسطين من دنس الصهاينة، وأطماع الغرب.

نجدُ تحريرَ فلسطين في فكر القائد المؤسّس يمثّلُ محورَ النهوض والصحوة، والوعي بطبيعة العدو وأدواته وأساليبه.

لقد بيّن في دروسه وملازمه أن الحكام العرب بشكل عام، والسعوديّة وبقية مشيخات الخليج بشكل خاص هم صنائع الأمريكان والمشروع الصهيوني، أَوْ بحسب وصف قائد حركة أَنْصَـار الله السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بـ “عبيد الأمريكان”، وهو ما تؤكده الأرقام والموازنات والسياسات في السعوديّة وبقية دويلات “محطات البنزين” في المنطقة العربية.

يذكُرُ المفكرُ الاقتصادي والاجتماعي (جلال أحمد أمين) في كتابه “المشرق العربي والغرب” الصادر عن مركَز دراسات الوحدة العربية بطبعته الثانية عام 1980م: بأن دول النفط الخليجية تقوم “في واقع الأمر بمهمة وكيل الأعمال للولايات المتحدة، إذ تقوم بتحديد أسعار النفط بما يتلاءم مع المصالح الأمريكية وعلاقاتها الاقتصادية بالدول الصناعية المنافسة، وتتلقى الدولارات من هذه الدول الأخيرة لتعيدَها إلى الولايات المتحدة في صورة ودائعَ واستثمارات أَوْ طلب لاستيراد مختلف السلع، وعلى الأخص الأسلحة “التي تزايد الطلب عليها منذ ما بعد حرب اكتوبر 1973م، أي في مرحلة التطبيع مع الكيان الصهيوني وعدم وجود عدو يمكن استخدام السلاح ضده، وعلاقة السعوديّة بدول الجوار في أفضل حالاتها، وانسجام داخل المجتمع. مما يعني أن استيرادَ الأسلحة في النصف الثاني من السبعينيات أي من 74م وما بعدها ارتفع إلى عشرات الآلاف من مليارات الدولارات، ليصلَ في 2017م إلى مئات الآلاف من مليارات الدولارات، تدفع مباشرة، وتريليونات الدولارات تدفع على مراحل!

هذا يعني أن أموالَ النفط العربي في الخليج تعودُ إلى أمريكا بصورة سلع مدَنية وحربية، وودائع وقروض واستثمارات. أي أن هذه الأنظمة تقوم بدور وكيل أعمال للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية والآسيوية!

لم يكن ربطُ الشهيد في شعار حركة أَنْصَـار الله المجمل بـ “الموت لأمريكا – الموت لإسرائيل” إلاَّ تجسيداً لوعيه بأن إسرائيل هي ذروة الامبريالية الغربية، بقيادة أمريكا، وتواصلاً مع الفكر الثوري للإمام الخميني. فمعركتنا وحربنا هي مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود الغرب، وكيانهم الصهيوني وأدواتهم في المنطقة العربية.

في فكر الشهيد القائد: “إذا انتصرنا على أمريكا، وأمَتْنَا هيمنتها وجبروتها في قلوبنا وعقولنا فإن ذلك مدخلنا إلى الانتصار في حربنا المسلحة معها”.

إسقاطُ أمريكا وإسرائيل، وهزيمتهم ثقافياً شرطاً للانتصار في المواجهة المسلحة، دون ذلك لن ننتصر كأمة وخطاب، ولن ننهض كمشروع عربي وإسْــلَامي وإنْسَاني.

هذه (الإماتة) لأمريكا تعني تعزيزَ الشعور بما سمّاه مالك بن نبِّي بـ “الإرَادَة الحضارية” التي إن فقدها المجتمع “نراه وكأنما تجمدت وسائله مهما كان كمُّها، وكأنما تعطل إمْكَانه مهما كان حجمه المادي” ص73-75-المسلم في عالم الاقتصاد – مالك بن نبِّي- دار الشروق 1976م.

لهذا نجدُ شعبَ الخليج العربي وقد انتزعت منه أنظمتُه الحاكمة روحَ “الإرَادَة الحضارية” أَوْ ما سماه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بـ “التعصُّب” لقيم الأُمَّـة، وما يسميه الشهيد السيد حسين بـ “إماتة أمريكا وإسرائيل” من خلال الانتماء لكرامة هذه الأُمَّـة وخصوصيتها بمعتقداتها وعاداتها وتقاليدها ومصالحها، أي الانتماء لكينونتها وما سماه قائد حركة أَنْصَـار الله السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بـ “هُويتها الإيْمَـانية” ضد الاستلاب والانحلال والتشظي إلى أجزاء متناثرة مرتبطة بالغرب ومشروعه بالمنطقة.

في هذا السياق فإن شعارِ “الموت لأمريكا – الموت لإسرائيل” يهدفُ إلى استعادة إرَادَة الأُمَّـة، وَينفخ فيها روح “التعصب” لقيمها، لتنهض من سباتها وعبوديتها وتقاوم مشاريع التفتت والتفريق والهيمنة الأمريكية الصهيونية، أي سقوط “الحقبة السعوديّة” التي عملت أكثر من نصف قرن وما زالت قفّازاً لما أسماه عبدالله البردُّوني بـ “المستعمر السري”.

في شعار حركة أَنْصَـار الله الذي خطّه الشهيدُ القائدُ، دلالةٌ على الوحدة العضوية مع الإسْــلَام الثوري في إيران الخميني –سنجدُه تعبيراً واضحاً في إماتة الهيمنة الغربية والصهيونية، لكنه بالنسبة لليهود عبر عن لعنهم، وليس قتلهم، أي أنه عبر عن معتقد ديني، أي الطرد من رحمة الله في الآخرة، لكنه حصر اجتثاث إسرائيل من فلسطين بـ “الموت لإسرائيل” والتحرر من الاستكبار الأمريكي بـ “الموت لأمريكا” وبالنهوض الحضاري بـ “النصر للإسْــلَام” وهذا تمييز دلالي مبني على الفارق بين الموقف المعتقدي، وبين السياسي الحركي، في ضرورة اجتثاث إسرائيل كخطر وجودي يهدد الأُمَّـة العربية والإسْــلَامية.

الشعار في مقاصده المرحلية لدى الشهيد هو أن يعيَ الناسُ أن أمريكا والصهيونية هما الشر، الذي يجب أن ننتصر عليه في معركة الوعي إذا أردنا الانتصار عليهم بمعركة “الحديد والنار”.

ولأن العدو يدركُ أهميَّةَ معركة الوعي فلقد وظف الأموال الباهظة والإعلاميين والمثقفين وما سماهم المفكر علي الوردي بـ “وعاظ السلاطين”، وَسماهم المؤرخ “الجبرتي” بـ “مشايخ الوقت” من أجل تزييف الوعي والمفاهيم، واستعباد الأُمَّـة.

ويشير الباحثُ “فاضل محسن الشرقي” في كتابه “قراءةٌ في المشروع القُـرْآني للشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي –القيادة والمنهج” الصادر عن مركَزِ الدراسات الاستراتيجية والاستشارية اليمني، بتأريخ 1439 هجرية الموافق 2018م – إلى أن الشهيد نبّه إلى خطورة مشاريع الفتنة والهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، ومحاولاتهم خلطَ الأوراق وادّعاء الأمريكيين أنهم في المنطقة العربية والإسْــلَامية من أجل محاربة القاعدة، فالقاعدة من صِناعتها ووسائلها من أجل تشويه الإسْــلَام، واتخاذها ذريعة للسيطرة على كُلّ المنطقة، ص61.

من هنا يأتي اهتمام الشهيد بمعركة الوعي والتذكير بأن هناك عدواً أمريكياً صهيونياً، والتحَـرُّك لمواجهته والتصَـدِّي له ولمشاريعه.

إسقاط المشروع الغربي في المنطقة، أَوْ ما يسميه الشهيد السيد حسين بـ “الغرب الكافر”، يعني بالضرورة إسقاط إسرائيل، والعكس صحيح- فإسقاط إسرائيل دحرٌ للمشروع الغربي في المنطقة.

المعركةُ وجودية بين مشروعنا الحضاري العربي الإسْــلَامي، الذي عبّر عنه قائد حركة أَنْصَـار الله السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي بـ “الهُـوِيَّـة الإيْمَـانية” الذي يؤمن بتحرر الإنْسَان من العبودية في كُلّ مكان على وجه الأرض، وبين المشروع الاستكباري، المبني على القهر واستعباد واستغلال الشعوب، ونهب ثرواتهم، وهو مشروع عنصري متوحش في اكتساحه للشعوب، وجغرافياتهم وثرواتهم ومعتقداتهم.

الشعارُ هنا حائطُ صَدٍّ في مواجهة ما سمّاه “سهيل القش” في كتابه “في البدء كانت الممانعة” “أيديولوجية المتغلب”، “فالغالب يعرض على المغلوب رؤية للصراع جوهرها التماثل والصلح، وهذا يعني أن الغالب لا يعي كنه الصراع أَوْ أنه تغيب عنه ممانعة المغلوب ولكنه يمنهج للمغلوب الاستمرارية الشرعية لغلبته، وإنكاره لا يطمس الصراع مع المغلوب بل يطمس طبيعة هذا الصراع العدائية ويطرح إمْكَانية الصلح والوفاق كحل للتناقض، فالعملية الأيديولوجية التي يمارسها الغالب ليست مطلقة إذ تصطدم بحدود ممانعة المغلوب التي يدخلها الغالب في حساباته ويصوغ الأيديولوجية على أساس معرفته الضمنية بوجودها ومجاهرته العلنية بتغييبها وطمسها وتشويهها”ص99 الخطاب العربي المعاصر –فادي إسماعيل –المعهد العالمي للفكر الإسْــلَامي 1994م.

كُلُّ تسوية غربية هي ترويض وتركيع ليس إلا. فالتسوية الأولى التي عقدها صلاح الدين الأيوبي بعد معركة “حطين” 1187م مع “الفرنجة” الصليبيين بعد دحرهم من القدس، كانت تقضي بالاعتراف بمملكة أورشليم خارج القدس، وداخل فلسطين؛ كي يتفرغ لقتال إخوانه المسلمين في آسيا الصغرى، السلاجقة، ورثة ملك أرسلان وشاه ملك، لكن الموت عاجله، وكان قبيل موته قد وزع سُلطانه بين إخوته وأبنائه، فأصبح لمصر ملكاً وللشام ملكاً آخر ولليمن ثالث، إلخ…

وعندما تصارعوا فيما بينهم على الملك والاستئثار به، ذهب كُلّ واحد منهم للاستقواء بالصليبيين، الذين استمرت ممالكهم في الشريط الساحلي من فلسطين إلى لبنان، فقويت شوكة الصليبيين، واندثر ملك الأيوبيين.

فكانت المنطقة العربية على موعد مع المماليك الذي تصدّوا لجحافل التتار في “عين جالوت” ودحروهم من مصر والشام، وبعدها حقّـق الظاهر بيبرس انتصاره على ممالك الصليبيين، وصولاً إلى السلطان المملوكي ناصر قلاوون، الذي تخلّصت الأُمَّـة العربية في عهده من كُلّ جيوب الصليبيين في الشام.

لم تكن التسوياتُ مع الغرب سوى تقوية وتمكينٍ لهم، فاتِّفَـاقية 1949م التي وُقّعت بعد نكسة 1948م أعطت شرعيةً وحدوداً للاستيطان الإسرائيلي، وتسوية “روجرز” بعد هزيمة 5 يونيو 1967م كانت مناورة من جمال عبدالناصر في حرب استنزافه للعدو، لكن أنور السادات حول التكتيك إلى استراتيجية، ودخل حرب أكتوبر 1973م بغرض تحريك المفاوضات لا تحرير الأراضي العربية، وتحرير فلسطين!

فكانت اتِّفَـاقيةُ سيناء 1975م، وملحقاتها، ثم زيارته للقدس وكلمته التي ألقاها في الكنيست الإسرائيلي، وصولاً إلى اتِّفَـاقية كامب ديفيد 1978م التي كان عرَّابها وصانعها هنري كسينجر، وتم التوقيع عليها في ظل رئاسة جيمي كارتر.

ولم تكن اتِّفَـاقية “أوسلو” التي وقّعتها منظمةُ التحرير الفلسطينية مع إسرائيل عام 1993م إلا علامة في طريق الهرولة والذل والعار.

وكان تداول مصطلح “خارطة الطريق” ترويضاً وتكريساً لثقافة العبودية و”الاستحمار”، التي أشار إليها القائد السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في خطابة بمناسبة أول جمعة من رجب (الرجبية) في هذا الشهر.

إن معركتَنا ضد العدو هي معركة في الوعي وفي السلاح، أي معركة ضد الحرب الناعمة، ومعركة ضد الحرب الصلبة.

وهو وعي أسّس له القائدُ الشهيدُ حسين، بلغ به إمْكَانياته الحركية والتطبيقية قائد حركة 21 سبتمبر التصحيحية الثورية، فهي حركة تصحيحية في تدرجها ثورية في غاياتها.

العدو الأمريكي والصهيوني يعي ويدركُ أهميَّةَ الحرب الناعمة، أَوْ ما أسماه الشهيدُ السيد حسين بـ “معركة الوعي” فوضع الخطط والاستراتيجيات لضرب العقل العربي في توازٍ مع مراحل تطبيع السادات، ونزوله في مطار اللد، وانحنائه أمام العلم الإٍسرائيلي، ثم إلقائه خطبته في الكنيست الإسرائيلي، بموازاة ذلك كان محمود عبدالحليم شيخ الأزهر، يرسل له من أمريكا برقية تأييد ومباركة على هذه الخطوة، وكان الشيخ قد اصدر كتاباً بعنوان “الإسْــلَام والعقل” هاجم فيه فكر المعتزلة، الذي هو فكر زيدي، ليكون المشروع الصهيوني متمكناً على الأرض، في ظل إقصاء الفكر الثوري في التأريخ الإسْــلَامي!

كان السادات قد خطب في مجلس الشعب المصري قبل زيارته للكنيست الإسرائيلي بعشرة أيام، مهدّداً بأنه سينزلُ إلى الشارع إذا اقتضى الأمرُ لمحاربة الإلحاد، في وقت كانت الجماعات الإرْهَـابية التي زرعتها أمريكا تنمو وتتوغلُ داخل المجتمع المصري، ولم يكن الإلحاد في ذهن السادات سوى مواجهة فئات المجتمع، من عمال وفلاحين ومثقفين وجنود سيقفون ضد خطوتها الصهيونية، وقد كان خطابُه عن مواجهة الإلحاد مقدمةً ليعلن في تلك الخطبة عن استعداده لزيارة إسرائيل.

إنها معركةُ الوعي، والتنبُّه لخطورة المفاهيم المضللة التي نبّه لها الشهيد السيد حسين، وسار على دربه قائد حركة أَنْصَـار الله السيد عبدالملك بدر الدين، في ضرورة الجاهزية لمواجهة ما سماه بـ “الحرب الناعمة” بذات الكفاءة التي نواجه بها “الحرب الصلبة”.

نعيشُ منذ سبعينيات القرن العشرين وإلى اليوم ما يمكن أن نسميه بـ “الحقبة السعوديّة” وهي حقبة أمريكية صهيونية؛ ولهذا فإن تمويل وقيادة السعوديّة للحرب ضد حركة أَنْصَـار الله طيلة الحروب الستّ في صعدة، ووصولاً إلى حرب السنوات الثلاث التي انطلقت في مارس 2015م ولم تتوقف حتى اليوم –هي حرب بالوكالة لا بالأصالة عن نفسها، وهي حرب ضمن حلقات المواجهة الشاملة مع الغرب الاستعماري، والصهيونية.

في بحث له بعنوان “دروس من هدى القُـرْآن”، ألقاها الشهيد حسين بتأريخ 28/9/1422هجرية أي في عام 2004م اعتبر الشهيد أن يوم القدس العالمي الذي دعا له الإمام الخميني كُلَّ المسلمين؛ ليكون آخر يوم في شهر رمضان هو يوم “القدس العالمي”، فإحياءُ هذا اليوم لخلق الوعي في صفوف المسلمين، وتهيئة أنفسهم ليكونوا بمستوى المواجهة لأعدائهم. وذلك في بيان للإمام الخميني “رحمة الله عليه” بتأريخ 15 /8/1979م.

مع بدايةِ الثورةِ الإسْــلَامية في إيران، والقضية الفلسطينية وتحريرُها من الكيان الصهيوني هدفٌ جوهري وأساسي من أَهْـدَاف هذه الثورة.

في بيانه، طالب الإمامُ الخميني بقطع يدِ الغاصب الصهيوني ومساعديه، وإلى وَحدة المسلمين بجميع طوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم.

فالصهيونية كانت هي الذراعَ الاستخباراتي في أجهزة شاه إيران، فلقد كانت البهائيةُ هي من تدير أجهزة القمع في إيران، والبهائية مركزها في حيفا، تدار صهيونيا من هناك.

يقول الشهيدُ السيدُ حسين: “الإمام الخميني هو الشخصُ الذي عُرِف بجديته في مواجهة أعداء الإسْــلَام كافة، في مواجهته أمريكا وعدها “الشيطان الأكبر” واعتبرها وراء كُلّ ما يلحق بالمسلمين من ذل وإهانة وغير ذلك من الشرور”.

ينطلقُ الشهيدُ من فَهْم الخميني تجاه القضية الفلسطينية، فيرى أن المخرجَ لهذه الأُمَّـة والحلَّ ليس الرهان على الحكومات الإسْــلَامية وإنما الاتجاه إلى الشعوب نفسها، لتبحث عن الحلول لهذه المشكلة” وترفع عن كاهلها هذه الطامة التي تعاني منها؛ لأنَّ الشعوب هي المتضررة، أما الحكوماتُ، أما الزعماء فهم غير متضررين، وغير مكترثين، ولا يهمهم ما يرونه من المعاناة في مختلف بقاع المسلمين “الشعوب هي التي تتضرر، الشعوب هي التي تلحقها الذلة والإهانة، الشعوب هي الضحية، وما لم تتجه الشعوب نفسها إلى أن تهتم بقضيتها، وتتعرف على أعدائها، وتعرف الحل والمخرج من مشكلتها ومصيبتها فلا تتوقع أي شيء آخر من زعمائها أَوْ من غيرهم”.

أراد الإمام الخميني أن يكون يوم القدس العالمي يوماً للمظاهرات والتعبئة العامة للمسلمين ضد الصهيونية العالمية والكيان الإسرائيلي.

وقد أكّـد الإمام الخميني على أن باستطاعة إيران والعرب إذا وقفوا جميعاً يداً واحدة أن يضربوا إسرائيل وأن ينهوا وجود هذا الكيان الغاصب، الذي وصفه الإمام الخميني بحسب محاضرة الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي بـ “الغدة السرطانية”، وهو فعلاً غدة سرطانية تنتشر في الجسد العربي والعالم الإسْــلَامي؛ لتسيطر على المقدرات، وتذل كرامة الإنْسَان العربي والإسْــلَامي.

الغدة السرطانية كما يقول الشهيد حسين: “ما لم تستأصل فإنها تعمل على القضاء على الجسد العربي الذي تترعرع فيه ومنه”.

يستعرض الشهيدُ حسين رؤيةَ الإمام الخميني لإسرائيل فيقول بأن إسرائيلَ لا يمكن التصالح والمصالحة معها ولا المواثيق والعهود، فطمع الكيان الصهيوني ينطلق من فلسطين بحسب أسطورتهم ممتداً إلى النيل والفرات بحسب أساطيرهم وخرافاتهم التي تعكس بشاعة أطماعهم التوسعية. وهو فهم ويقين استقاه الإمام الخميني من القُـرْآن الكريم” أَوْ كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم” في تبادل بين “حزب العمل” و”حزب الليكود” في نبذ ونكث العهود والمواثيق في معاهداتهم مع الفلسطينيين والعرب.

ويضرب الشهيد حسين مثَلاً بموقف أحزاب وحكومات الكيان الصهيوني من معاهدة (أوسلو) “ومعاهدات كثيرة، وفي لحظة من اللحظات تتنكر إسرائيل لكل تلك المعاهدات، وما زال العرب وما زال الفلسطينيون أنفسهم يعلنون أمام كُلّ نكث عهد من قبل إسرائيل أنهم متمسكون وملتزمون بمعاهدات السلام، وأنهم محافظون على السلام!”.

ومع كُلّ صلف وعدوان صهيوني، وتغلغله داخل مناطق السلطة الفلسطينية الوهمية في غزة والضفة الغربية، واعتداء على القدس الشريف، وأمام مذابح ومحرقة جنين، وحصار وتجويع غزة والضفة، وقتل وذبح وسجن من تشاء من الفلسطينيين، بل ووصل الأمر بالإسرائيليين أنْ قتلوا زعيم المقاومة الفلسطينية أحمد ياسين، وحاصروا ياسر عرفات، ثم قتلوه مسموماً، وقتلوا الرنتيسي واعتقلوا البرغوثي وسعدات أمين عام الجبهة الشعبية إلخ إلخ –وأمام كُلّ هذا الصلف والاستكبار والغطرسة تعلن السلطة الفلسطينية بأنها متمسكة بالمعاهدات والمواثيق، وتبدي حماس تراجعا وقدرا من التعاطي من الكيان الإسرائيلي بوساطة خليجية تركية، ومع ذلك لا تتزحزح إسرائيل عن مشروعها التوسعي وفي هدفها الاستئصالي للقضية الفلسطينية وطمرها بماكينة القتل.

ومع كُلّ غطرسة تعلن السلطة الفلسطينية أنها متمسكة بالمعاهدات والمواثيق وأن إسرائيل تريد تقويض (عملية السلام).

إسرائيلُ بحسب عرض الشهيد حسين لموقف الإمام الخميني من إسرائيل” تطمح إلى الاستيلاء على الحرمين الشريفين، وليس فقط القدس، إسرائيل تطمح للاستيلاء على مكة المكرمة، على الكعبة المشرفة، وعلى المدينة المنورة”.

القارئُ للدور أَوْ ما يمكن أن نسميَه بـ “الحقبة السعوديّة” في المنطقة العربية والإسْــلَامية منذ سبعينيات القرن العشرين يجد أن السعوديّة بمالها ومواقفها ومؤامراتها، ومواقفها السياسية تسير وفقا لما تريده أمريكا ويريده الكيان الصهيوني.

العداء للعقل من تموجات نشاط الوهابية السعوديّ، فلم ينتشر هذا العداء، ويتضخم أثره وتأثيره إلاّ مع تضخم إسرائيل وهيمنتها على المنطقة. في تكامل وظيفي يعزز كُلّ منهما الآخر.

ليس صدفة أن تكون القطيعة مع العقل الإسْــلَامي، ناهيك عن العقل الإنْسَاني متزامنة مع اتِّفَـاقية كامب ديفيد، ومبادرة الأمير فهد بن عبدالعزيز للتطبيع مع إسرائيل عام 1981م.

المطلوبُ غربياً وصهيونياً وسعوديًّا هو تحطيم كُلّ أشكال الممانعة والمقاومة، وفي مقدمة ذلك تحطيم العقل الذي يتحَـرّك بجدلية فاعلة بين التصَـدِّي والإبداع.

الفلسطينيون من خلال منظمة التحرير الفلسطينية واتِّفَـاقية أوسلوا حين تحول هدفهم من تحرير كامل التراب الفلسطيني، وقبلوا بحكم ذاتي داخل غزة والضفة الغربية، وأعلى أمانيهم أن تعرف بهم إسرائيل كدولة داخل هذه الحدود الضيقة –شهدوا على أنفسهم بالهزيمة مقدما، واعترفوا بإسرائيل ليزدادوا ذلة ومهانة، وتزداد إسرائيل غطرسة وتجبرا وتكبرا وبغيا.

عندما يكون للإسرائيليين سلطة فهذا طبعهم. القُـرْآن يخبرنا ذلك بقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)، (سورة النساء).

ويظل الفلسطينيون والغربُ يفرون من إسرائيل مستنجدين بـ “الشيطان الأكبر” الولايات المتحدة الأمريكية؛ كي تمنحهم وهم الدولة الفلسطينية!

لكن أمريكا في عهد الرئيس ترامب، ولكل عهد رئاسي متطلباته وخطه المرسوم وفقا للمصالح الأمريكية، بعنف بوش الابن أَوْ نعومة باراك أوباما أَوْ جنون ترامب –تنقل سفارتها إلى القدس وتعترف بها عاصمة للكيان الإسرائيلي!

في الوقت الذي تلهث منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الفصائل التي تزعم أنها مقاومة من أجل سلام منقوص ودولة وهمية ينالونها من إسرائيل ولن ينالوها- غيران الخميني وخامنئي يرفضون الاعتراف العلني أَوْ الضمني بإسرائيل، ويرى الخميني أن لا حل للقضية الفلسطينية كقضية وطنية وعربية وإسْــلَامية إلا باستئصال هذه الغدة السرطانية المسماة إسرائيل، واجتثاثها من فلسطين.

الإمام الخميني بحسب الشهيد حسين “فهم عمق المشكلة وواقعها، وفي نفس الوقت قدم الرؤية العملية لحل هذه المشكلة”، الحل هو أن تتبنى الشعوب العربية والإسْــلَامية معركتها المصيرية في استئصال الغدة السرطانية المسماة إسرائيل.

يقولُ الشهيدُ السيد حسين بدر الدين الحوثي: “لاحظوا بعد أن دعا الإمام الخميني إلى إحياء يوم القدس العالمي كيف كان سلوك الحكومات العربية، إما سلبياً أَوْ عدائياً لرجل “أرعب أمريكا، وأرعب دول الاستكبار كلها، وأرعب إسرائيل بحكمته، بشجاعته، برؤيته الصحيحة، في جعل الأُمَّـة بمستوى المواجهة الحضارية لأعدائها، لا أمريكا، ولا بريطانيا ولا إسرائيل، ولا غيرها…”.

رأوا ما أحدثه الإمام الخميني في ثورته داخل إيران وفي رسالته التحررية نحو القضية الفلسطينية من إرباك وذعر للغرب ولإسرائيل، لكنهم لم يستلهموا من هذا “الرجل رؤيته العملية الثورية الصحيحة في إنقاذهم من إسرائيل”.

لم تستجب الحكوماتُ العربية لدعوة الإمام الخميني في إحياء يوم القدس العالمي ليكون يوم تحشيد وتعبئة وجهاد. لكن هذا اليوم تحول إلى فعل شعبي جهادي، فإحياء هذا اليوم هو عمل جهادي وعبادي بحسب تعبير الشهيد حسين، أي أنه يوم تحرري في المعتقد وفي العمل.

ما يحدث اليوم هو أن هذا الكيان الصهيوني وأدواته في المنطقة يلبسون الحق بالباطل، وهذه واحدة من خصالهم الخطيرة بحسب رؤية الشهيد حسين مستشهداً بقوله تعالى” “يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون”، “وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون”.

هذه واحدةٌ من خصالهم الخطيرة والسيئة كما يقول الشهيد حسين “قدرتهم الرهيبة على لبس الحق بالباطل… وهذا ما تعاني منه الأُمَّـة. هذه واحدة نقطة من الأشياء التي يشتغل بها اليَـهُـوْد داخل هذه الأُمَّـة، لبس الحق بالباطل، التزييف للثقافة، التزييف للفكر، التزييف للإعلام، التزييف للحياة كلها”، والأعداء إلى جوار تلبيسهم الحق بالباطل يودون ويرغبون حرفنا عن طريقنا في التحرر والنهوض، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا)، هم لا يريدوننا أن نكون نحن، ولا أن نكون هم، يريدوننا دون هُـوِيَّـة إيْمَـانية ببعدها الوطني والعربي والإسْــلَامي والإنْسَاني.

بحسب محاضرة الشهيد حسين السابقة الذكر، العدو لا يريدنا أن نكون مثله في الصناعة والزراعة وإنما أن نظل “سوقاً استهلاكية لمنتجاتهم”، حتى أن المصانع الموجودة في اليمن والوطن العربي بملكية يمنيين وعرب ليست سوى فروع تسويقية لمصانعهم في نيويورك وإسرائيل!

في محاولاتهم العدوانية يسعون إلى طمس الهُـوِيَّـة بإعادة الناس إلى هويات ولغات ميتة، أي ترك الهُـوِيَّـة الإيْمَـانية والتأريخ الحي، والعودة إلى تأريخ ميت وهويات ميتة، حميرية وفرعونية وآشورية وبابلية… إلخ!

هكذا يتحول التراث الذي ينبغي أن نتأملَه ونتعظَ منه -إلى هُـوِيَّـة تزيح هُويتنا وتأريخنا الحضاري الحي، مستشهداً بقوله تعالى “ودت طائفةٌ من أهل الكتاب لو يضلونكم”.

في رؤية الشهيد حسين أن “صحيفةَ المدينة” والمؤاخاة التي عقدها بين مكونات المجتمع المديني في يثرب لم تكن صلحاً مع اليَـهُـوْد، حتى يؤسس الانهزاميون بناء على ذلك صلحهم مع إسرائيل، وإنما كان اليَـهُـوْد جزءاً تابعاً في الولاء للأوس والخزرج، والقياس على ذلك يصبح مغالطةً وتزييفاً للوعي، لكن وعاظ السلاطين حرفوا الفهم وأساؤوا التأويل كي يعطوا شرعية دينية لاتِّفَـاقية كامب ديفيد، وصلح السادات مع إسرائيل!

من غزوة خيبر يقدِّمُ الشهيد حسين بدر الدين الحوثي فهماً عصرياً لفهم الصراع مع الكيان الصهيوني، مفاده: أن النصر على إسرائيل شرطه محبة الله ورسوله والمؤمنين، الاندماج وَالتماهي مع الرؤية القُـرْآنية في إزاحة التحريف والتلبيس والمتاجرة بالدين، ولهذا نرى كيف أرعب الإمام الخميني أمريكا وإسرائيل، ورأينا حزبَ الله كيف جعلهم في قلق دائم، والمقاومة بصمود وقوة متنامية.

هو صراع دائم كما يراه الشهيد، عنوانه تأريخياً فلسطين. وفي كُلّ ضعف لنا يعودون للاستيلاء على فلسطين، تارة باسم روما وأُخْــرَى باسم الفرنجة والحروب الصليبية، وتارة أُخْــرَى باسم الصهيونية الإسرائيلية، مستثمرين أساطيرهم وتحريفهم للأديان، لكن الأُمَّـة في فهمها لهويتها الإيْمَـانية تنتصر، وحين نسقط في تلبيس الأعداء وماكينتهم الإعلامية، التي تزيف الحقائق، وتغسل العقول –ننهزم ونذل ونهان.

من هنا يصبح إحياء يوم القدس العالمي الذي نادى به الإمام الخميني هو المدخل الصحيح لانتصار الأُمَّـة على الاستكبار الغربي والكيان الصهيوني.

إحياء يوم القدس العالمي يعني أن تظل القضية الفلسطينية حية في نفوس الشعوب العربية والإسْــلَامية، وأن تتحَـرّك الأُمَّـة شعبياً لتحرير فلسطين، واجتثاث العدو الإسرائيلي.

الغلَبةُ على الصهيونية، وما يسميه الشهيد حسين نقلاً عن الإمام الخميني بـ “الغرب الكافر” شرطُها الإيْمَـانُ والانتماءُ لله ورسوله والمؤمنين، “ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون” لا غلبة ولا نصر دون الانتماء والمحبة لله ولرسوله وللمؤمنين.

جاء في القُـرْآن الكريم الأمر بالاعتصام بحبل الله جميعاً، والنهي عن الفرقة، في سياق الحديث عن بني إسرائيل، كما ينبهنا إلى ذلك الشهيد السيد حسين، وفي هذا التنبيه دعوة للفهم والتأمل في هذه العجيبة القُـرْآنية التي تقول لنا: اعتصموا ولا تفرقوا بعد أن يحدثنا عن بني إسرائيل، عن الخطر العنصري الذي يهدد وجودنا. لقد جاءت الآية بعد قوله تعالى “يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن، تبغونها عوجاً وأنتم شهداء، وما الله بغافل عمَّا تفعلون “آل عمران.

حوَّل الإمامُ الخميني سفارةَ إسرائيل إلى سفارة للفلسطينيين، لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن المنظمة كانت تعطي ظهرها لإيران وتتسول رضا مشيخات الخليج!

دعا الإمام الخميني لإنشاء سوق إسْــلَامية مشتركة، واستخدام البترول في مواجهة الغرب، لكن مشيخات الخليج استخدمته ضد العرب، وضخته بسعر الماء للغرب. وما قبضته من أموال أعادته لهم كي تشتري أسلحة وتحَـرّك مصانع السلاح، دون أن تكون بحاجة لذلك السلاح الذي يتكدس، ويعطب.

يرى الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي أن الزيدية بأفقها الفكري الثوري أوعى من الإيرانيين ومن وعي حزب الله، لهذا ينبغي أن يكون دورهم وفعلهم في مواجهة الصهيونية أقوى.

للشهيد حسين رؤية تجاه المفاهيم والمصطلحات، ففي الجانب السياسي هو امتداد واستمرار لمفاهيم الخميني.

المعركة بالنسبة له هي معركة إيْمَـان وكفر؛ لهذا يستخدم مصطلح الخميني “الغرب الكافر” ويستخدم مصطلح “الجهاد” بدلاً عن مصطلح النضال والمقاومة.

ويأتي قائدُ حركة أَنْصَـار الله السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي؛ ليعطيَ رؤيته التفصيلية الاجتهادية لمفهوم الإيْمَـان، فتصبح المعركة بالنسبة له هي معركة “هُـوِيَّـة إيْمَـانية” في مواجهة أمريكا وإسرائيل، وعبيدهم، وعبيد عبيدهم. والهُـوِيَّـة الإيْمَـانية هي هُـوِيَّـة عقدية وجغرافية، وحرية ملتزمة بروح المسئولية والانتماء للأُمَّــة وكرامتها.

نعم هي معركةٌ وجودية وحضارية ضد الغرب، ممتدة في الزمان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فالفرنجة حين جاؤوا واحتلوا القدس، تقنعوا بأقنعة الدين، وادعوا أنهم يحررون مقدساتهم، وأساطيرهم وخُرافاتهم بخصوص بيت المقدس، فكان احتلالهم للشام، ومحاولاتهم المستمرة للاستيلاء على مصر ثم احتلالها في القرن التاسع عشر لوأد ثورة أحمد عرابي عام 1882م، وقبلها محاولات البرتغاليين الاستيلاء على مكة والمدينة، محاولين استخدامَ الحبَشة كقاعدة عسكرية لهم، لكنهم فشلوا ففشل مشروع استيلائهم على مكة والمدينة بغية هدم الكعبة!

حين احتلت بريطانيا وجثمت على فلسطين عام 1917م قال القائد البريطاني اللينبي مقولته المتداولة عن عودتهم لفلسطين: “ها نحن عدنا يا صلاح الدين” وكتبت جريدة “نيويورك هيلارد” قبل 100 عام جاء في الصفحة الأولى بتأريخ 11/12/1917م، أي يوم احتلال بريطانيا لفلسطين بالخط العريض أسفل ترويسة اسم الصحيفة” بريطانيا تنقذ القدس بعد 673 عاما من حكم المسلمين”.

أي أن سيطرةَ بريطانيا واحتلالها لفلسطين هي عودة واستعادة لأوهامهم التأريخية عن بيت المقدس وفلسطين، الذي أخذه منهم السلطان صلاح الدين الأيوبي!

الحربُ مع “الغرب الكافر” في مفهوم الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي أبدية منذ عصر النبوة المحمدية وحتى نهاية التأريخ، فالغرب الكافر يتجسد لديه بأهل الكتاب.

ما تفتقده الجماهير والحركات الشعبية لمواجهة الغرب والصهيونية كان القيادة المطلوبة، سواء على مستوى الفرد أَوْ الحركات الشعبية المنظمة، بأعضاء ربطوا مصيرهم بالحرية، وتحملوا في سبيلها المشاق والآلام، وقدّموا التضحيات الجسام، وتراكمت لديهم الخبرة القيادية، والوعي السياسي والنضج الفكري، من التزام ونضال وممارسة، وليس مجرد ثغثغات ورطانة ثورية، كما هو شأن أصحاب “المقاهي السياسية” الذين لا يفقهون طبيعة المجتمعات، ويعيشون منعزلين في وعيهم، يجترون أوهامهم بمشافهات يومية، تعكس أزمةَ الوعي لديهم وجموده وتخلفه عن واقع مجتمعهم. نحن اليوم نعيش مناخا ملائما لإسقاط الطغاة، ومواجهة التحديات التي تهدد الشعب العربي، من الاستعمار الجديد، بحربه الناعمة، والصلبة، ومشاريعه الاقتصادية والثقافية…

ولأن سقوطَ أنظمة الطغيان لا يعني سقوط ثقافتها، فإن على الثورة أن تعمل على تغيير وسائل وعلاقات الإنتاج، ليكون سقوط الطغيان بالضربة القاضية.

لقد عبّر محمد حسنين هيكل عن حماسه للثورة الإيرانية، فقال للإمام الخميني قبل أن يغادر منفاه في باريس عائداً إلى طهران: “إنك قد تستطيع بمدافع الدين أن تدمر النظام القديم، ولكن لكي تحقّـق النصر لا بد أن يكون لك مشاتك… المشاة التي تحتل مواقع عدوك.. وبدون ذلك لن تستطيع أن تبني دولة… ومشاة الدولة هم الكوادر السياسية والإدارية… الفنيون والمهنيون والإخصائيون” هيكل –الحياة. الحرب. الحب. -عادل حمودة، الفرسان 2000م.

إن ضرورةَ (البطل، القائد الاستثنائي) في حركة التأريخ يكادُ يكون قانونًا بحاجة إلى من يكتشف شروطه، فليس دقيقاً، ما يطرحه الماركسيون من أن دور الفرد في التأريخ “اختراع برجوازي” ففي هذا التفسير تعسف مع التأريخ كما يرى هيكل محقاً، ذلك أن ماركس ولينين يتميزان من حيث التأثير وتوجيه حركة التأريخ ما يؤكد دور الفرد، البطل.

ولنا في تأريخنا المعاصر ما مثله جمال عبدالناصر والإمام الخميني والسيد موسى الصدر والسيد حسن نصر الله، والسيد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي من إحداث قطيعة مع ما قبل وما أنجزوه من تأثير أثناء حياتهم وما بعد رحيلهم. فالتأثير القائد للبطل الفرد لم ينته بوفاتهم، وإنما ظل عنصراً من عناصر حركة عجلة التأريخ.

إنَّ ما تطرحه مدرسة التأريخ الكلاسيكية من “أن دور الفرد ليس مجرد قانون ولكنه القانون” يمتلك قدراً واضحاً من الحقيقة ووجاهة الطرح، فلم يكن ونستون تشرشل، وشارل ديجول إلاّ تأكيداً لدور الفرد البطل في مسار التأريخ وصناعته. عادل حمودة –المرجع السابق.

إنَّ استنهاضَ الشهيد حسين بدر الدين الحوثي للثقافة القُـرْآنية، وتحويلها من تعبد تقليدي في التلاوة إلى تعبد حركي، يمشي ويتجسد على الأرض، صناعة للتأريخ، وتخليقا للأُمَّــة –يجسّد هذا القانون لدور القائد التأريخي، في لحظة تكون الأُمَّـة قد وصلت في يأسها واضمحلالها إلى درجة التلاشي، فيعيد دوره لها كينونتها وحيويتها، وينقلها من “سيكولوجية الإنْسَان المقهور” الذي يتخلى عن روابطه وتقاليده وضميره الجمعي إلى سيكولوجية الإنْسَان المتسامي، المنطلق من الممانعة وصولاً إلى الشهود الحضاري للأُمَّــة.

 

 المشروع القُـرْآني.. وعيٌ وتَصَـدٍّ واستنهاض

محمد ناجي أحمد

في كلمته التي ألقاها عصر الجمعة الموافق 13 أبريل 2018م؛ بمناسبة الذكرى السنوية لاستشهاد السيد حسين بدر الدين الحوثي، أكّد قائد حركة أنصار الله السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أن المشروع القُـرْآني الذي قاده الشهيد حسين هو مشروع مواجهة وتصد واستنهاض للأمة، مرتكزُه الوعيُ بالدور الأمريكي والإسرائيلي، وما يراد لهذه الأُمَّـة والمنطقة العربية بشكل خاص من خنوع واستلاب واستعباد واستغلال للأرض، وانتهاك للعرض، واستحمار.

ليست المسألة نظرية مؤامرة فحسب لكنها مُخَطّط واستراتيجية غربية تستهدف وعينا وأرضَنا وثرواتنا.

وهو مُخَطّط له وسائله وأدواته، وذرائعه متعددة منها صناعته للقاعدة وَأحداث 11 سبتمبر إلى غزو أفغانستان وغزو العراق، إلى تنظيم الدولة الإسْـلَامية، وإشعال الفتن والحرائق والثورة العالمية المضادة بغرض تفتيت المجتمعات العربية، واستخدام أساليب شيطانية لتحقيق هذه الأَهْـدَاف، ومن ذلك اختراق الأُمَّـة عبر عنوان “مكافحة الإرْهَـاب” وغيره.

وحكاية القاعدة، مماثلة لصناعة هوليودية في حديثها عن مطاردة عناصر للقاعدة، وتحديد عددهم هنا وهناك، واحتمالية وجودهم هنا وهناك، تحديد الأدوار والأشخاص، والأنظمة في مشهد تديره المخابرات الأمريكية، وباستحمار للعقل، واستلاب للوعي من أجل تهيئة الظروف لإنشاء تنظيمات بحجم دول مثل تنظيم الدولة الإسْـلَامية، كذريعة أرادوا لها أن تكبر، وأن تكون هول كبير في واقع الأُمَّـة؛ ليكون تدخل الأمريكان وسيطرتهم واستعمارهم المباشر بعد أن تكون الأُمَّـة قد أنهكت فيما بينها، بأدوات وأنظمة تعمل بالوكالة عن الغرب وإسرائيل، فتعفى أمريكا من كلفة التضحيات الجسدية والمادية.

من هنا كان المشروع القُـرْآني للشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي وعي استباقي بما يحاك لهذه الأُمَّـة من مُخَطّطات ومشاريع، وحين أراد أن يواجههم سلمياً بتصحيح المفاهيم، وإحياء الثقافة القُـرْآنية واجهوه باستنفار ماكينة القتل بجَميع أنواع الأسلحة براً وبحراً وجواً، واستخدموا مشايخ الإسْـلَام الأمريكي والأفاعي الخادعة والتحجر الديني والحمقى المتظاهرين بالقداسة في مواجهة الإسْـلَام المحمدي الأصيل بحسب تعبير الإمام الخميني.

يوظِّفُ الأمريكيون والإسرائيليون أدواتِهم عسكرياً وسياسياً وثقافياً وإعلامياً، أفراداً وأحزاباً وكياناتٍ ومنظماتٍ، بحسب كلمة قائد حركة أنصار الله السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، ويختلقون التناقضات ويستثمرونها، دونَ كلفة، طالما أن وكلاءَهم بالمنطقة هم من يدفعون الفاتورة من ثروات ودماء الأُمَّـة العربية.

من هنا فإن المشروعَ القُـرْآني في مواجهة المُخَطّط الغربي بشكل عام والأمريكي الإسرائيلي بشكل خاص –مشروع ضرورة وانعتاق من ربقة الغفلة والاستحمار والاستعباد.

مشروع صناعة أمة تعي تحدياتها، ونقاط القوة والضعف لدى العدو ولديها في آنٍ.

تحَـرّك المشروعُ القُـرْآني الذي قاده الشهيد السيد حسين حاملا هم الأُمَّـة بأكملها، بأفق يدحض الطائفية والمذهبية والمناطقية، أفق بحجم الأُمَّـة وسعة طموحها وتعدد قدراتها وإمكانياتها، لتكونَ أمة شهود ووجود حضاري لا أمة تمزقها الأهواء والهُويات القاتلة.

فالقُـرْآن بحسب كلمة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي هو حصن هذه الأُمَّـة، وشعار حركة أنصار الله في مواجهة أمريكا وإسرائيل تحذير وتنبيه وتحديد لطبيعة العدو، وإعادة بناء للمفاهيم والمصطلحات.

لقد اختار العدو أن يواجهَ المشروع القُـرْآني بالحرب طيلة 14 عاماً، لكن المشروع القُـرْآني ازداد قوةً وسعة؛ لأنه يلبي ضرورةً وجودية لهذه الأُمَّـة.

العدو يسير نحو التصعيد أكثر وقدراتنا تزداد تطوراً ويتسع مداها.

مع الاحتلال لا تبقى حرية ولا أرض ولا عرض ولا كرامة؛ ولهذا فإن المواجهة الشاملة وبكل الوسائل والإمكانات واجبٌ بكل الشرائع والأعراف.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com