حول استراتيجية الظهير الخلفي للعدوان..الغزو من الداخل

علي نعمان المقطري*

لأعوامٍ طويلةٍ -آخرُها سنواتُ العدوان الثلاثة الحالية- عجزت الامبرياليةُ الدوليةُ عبر قواها المحلية والإقليمية وجيوشها أن تهزمَ قوى الثورة، وصارت تفرُّ أمامَها مذعورةً من المواجهة؛ ولأنها تعرفُ مصيرَ المواجهة مع القوى الوطنية اليمنية التي دوّخت أنظمةً ودولاً رجعية عديدةً، منها الدولة الرجعية العسكرية القديمة، فقد لجأت إلى مخزونها الاحتياطي الهام من التكتيكات والاستراتيجيات التي سبق وأعدتها من وقت مبكر ما قبل العدوان، متجهة لتوزيعِ قواها على أنساق متعددة، منها النسق المباشر فـي جبهات الحرب، ومنها الأنساقُ السريّةُ الداخلية التي يأتي دورُها لاحقاً فـي قمة المواجَهة المعتملة من الداخل.

كان صالحُ أهمَّ أنساقها السرية تلك –كما تجلّى ذلك بوضوح مؤخّراً-؛ ذلك أن قواته لم يتم بناؤها من قبل الأمريكيين عبثاً وهم الذين تكفلوا بتدريبها وتسليحها وإدارتها وتأهيلها تحت بند مكافحة الإرْهَاب بالمفهوم الأمريكي الذي يعني محارَبَةَ القوى الوطنية التحررية المقاتلة المناهضة لنفوذ واشنطن والرياض وتل أبيب.. ولم تكن مصادفةً أن السفيرَ الأمريكي (فيرستاين) أثناء مفاوضات تسليم السلطة فـي 2011م قال صراحة (إن الحرسَ والقواتِ الخَاصَّــة تعد استثماراً أمريكياً تعاد هيكلته دون أن يُلغى)، وعليه حرصت واشنطن أن تشرفَ على الهيكلة التي اتجهت لتغيير الأسماء لا التركيبة والقوام والمهام والأهداف، ونقل القيادة شكلياً -من أعلى لأسفل- من تابعٍ لآخر وضمن خطط ومهامٍ جديدة تتوافق مع تركيبها وتدريبها وخبراتها ومعطيات الواقع الماثل آنذاك والمتوقع حدوثه مستقبلاً.

كان الانقضاضُ الغادرُ ضد الشريك الوطني عبر الخداع والتسلل هو المهمةَ الاستراتيجية التي تستعدُّ لها تلك القواتُ؛ لتساعد العدوان على كسب الحرب فـي نهاية المطاف.

 

الالتفافُ على الحركة الشعبية المقاومة للعدوان والغدرُ بها

من المبادرة إلى المبادرة.. خلفيةُ مؤامرة صالح وأطوارُها

كانت المؤامرةُ الخليجيةُ التي هندسها صالح مع أسياده لتحقيق هبوط آمن له من سماء الأزمة الوطنية الثورية التي شملت البلادَ والمجتمعَ خلال الانتفاضة الشعبية 2011م تتضمنُ بلا شك تفاهماتٍ على بقائه خادماً للنفوذ الدولي المشترك وإن كان من خارج السلطة الرسمية العليا، مع استمرارية تمتُّعِه بالسيطرة على أجهزته الأمنية والعسكرية الخَاصَّــة وعلى شبكاته السياسية والإدارية الاستراتيجية عبر نشاط منظوماته الإدارية العميقة التي تمت موضعتُها فـي حلقات التنظيم السياسي الخاص الذي صار قوةً ماليةً وتكتلاً اقتصادياً رَيْعياً كبيراً -له استثماراتُه وأنشطتُه–ومُؤَسّساته وجمعياته– وهي واحدة من المجالات التي تبيض أموال الحكم السابق وتعيد إنتاجها. فقد جرى تشبيكُ الإدَارَةِ بالتنظيم السياسي البيروقراطي الخاص بالأجهزة الأمنية وبالمالية، حيث وزّعت المزايا حصراً على المنتفعين المؤيدين للحكم السابق وأبرزها الوظائف المكررة والوهميات العسكرية والمدنية ومساعدات الضمان الاجتماعي واحتكارات المقاولات الإنشائية الحكومية والسمسرات الاستثمارية المتنوعة.

كان المفهومُ حول صالح أنه سيحكُمُ عبر نائبه هادي لفترة مؤقتة ينتقل بعدها المنصب إلى من سيقدمه توافق الداخل والخارج من الجناح السلفـي العسكري القبَلي الذي تدعَمُه السعودية، وكان تحالف (اللقاء المشترك) قد عقد العزمَ على تقديم كبير رجال المال والتجارة والمشيخة مرشحه القادم بعد هادي، ونصت المناورة على تناصف الحكومة والحكم مما يعكس الترتيب التوازني الذي يسمح فـي نهاية المطاف لصالح عبر أولاده بالعودة كشريك فـي الحكم فـي حال فشل الترتيب السياسي المقترح المرحلي، الذي أًعد حقاً ليفشل.!

لقد أرادت الأطرافُ الإقليميةُ والدولية إزاحة مؤقتة لصالح (الشخص وليس النظام)، وكانت مهمة الرئيس التالي –الشكلي- هي الحفاظ على صالح (النظام) والتعاون معه بالضرورة بينما يقبع خارج الحكم الرسمي، ولم تكن الأولوية الأمريكية قد قررت لصالح مصيراً مماثلاً لصدام أَوْ القذافي، بل على العكس، فأولويتُها الحفاظُ على نظام صالح وليست إزالتَه واجتثاثَه؛ ولذلك حرصت الحركة السعودية الأمريكية على الجَمْع بين التظاهر بالعطف على المطالب الشعبية وبين عدم السماح بالذهاب بعيداً فـي إزاحة المنظومة الحاكمة ككل، وواضح أنها تبنت تصوراته للخروج والهبوط بسلام حسب أسلوبه ووفقاً لشروطه، مع الحرص على تقديم عناصر أَكْثَر ولاءً لكن دون الاستغناء عن خدمات صالح وإنما الانتقال به من الموقع الأول إلى الموقع الثاني للوكالة (الكولونيالية) فـي سلم منظومة الجهاز التبعي راعي المصالح الكولونيالية الإمبريالية المشتركة.

ومما أخّر إنجازَ الترتيب الجديد هو عجز هادي والنتائج الناجمة عن فشل تأدية المهام المنوطة به بالشكل المطلوب؛ ونتيجة لسوء العلاقات الشخصية بين قطبي أَوْ أقطاب الخديعة والمؤامرة الإمبريالية الكبيرة للإطاحة بالثورة الشعبية الوطنية وقواها، وهو ما أعاق تمكن الجهاز الكولونيالي من استعادة سيطرته بالسرعة المتوقعة؛ نتيجةً للنزاعات الداخلية التي كانت تنهشه من الداخل بعنف جراء تراكم ثارات الانتقام والصراع على الموقع الوكيل.

انفلتت الأحداثُ من أيديهم، وتفجّرت الثوراتُ من جديد أخيراً فـي 21 سبتمبر المجيدة، وسارت بكيفيات خارج التوقعات، فإذا بالأحداث تُجبِرُ الجميعَ على التداعي إلى التفاهم –بصيغ متعددة وقبول حلول وسط- أملاً بتوفر الحدّ الأدنى على الأقل من ضرورات بقاء المنظومة الكولونيالية وأطرافها المزدوجة المهام، وعلى الرغم من أن أحداثَ النهدين فـي يناير 2015م قد أعاقت التعاون بين الطرفين (صالح وهادي) لبعض الوقت، ألا أنهما قد نسقا عبر أطراف أُخْـرَى أَكْثَر قرباً لهما -خَاصَّــة الطرف الإماراتي- الذي أوكلت إليه مهام قيادة العمليات التنفيذية الاستراتيجية فـي قيادة العدوان.

 

التكتيكُ الاضطراري

حينَ تكونُ الصراعاتُ مستعصيةً على الحل بين صالح وحلفائه السابقين فلا بد من التوافق الإلزامي بأية كيفية كانت.

إنَّ القيادةَ العدوانيةَ قد قرّرت الاستفادةَ الإجبارية من التناقضات وتوظيف الصراع الشخصي بين صالح وحلفائه فـي سبيل تحقيق اختراق استراتيجي على جبهة ومؤخرة القوى الوطنية المناهضة، وهو ما يظهر عقلانية مبررات صالح لتكتيكاته الجديدة، وسيكون النجاحُ مؤكَّداً؛ نتيجةَ عنف الصراع واستحالة التوفيق الظاهري بين أطرافه فـي وقت قصير.

 

الخطرُ الشمالي يقض مضاجعَ الكولونيالية

كانت الأولوية لدى القيادة الدولية والإقليمية للعدوان هي مواجَهة القوى الثورية الناهضة فـي الشمال، ولما كان صالح قد أُبعدَ عن الواجهة مؤقتاً عُهد إليه دورُ احتواء تلك القوى الوطنية تحت ستار التظاهر باستمرار الصراع مع أنداده بأشكال سياسية وشخصية وألّا تسوية لمشكلاته مع حلفائه السابقين، وقد خلق مجالاتِ تعاون بينه وبين الثورة الجديدة القادمة والزاحفة من الريف الشمالي القبلي الشعبي.. الثورة التي كانت نتاجاً لتراكمات العقود السابقة من الظلم والمعاناة، وحملت شعاراتِ الحرية والكرامة الاستقلال ورفض الوصاية والهيمنة ومُعاداة الاستعمار والإمبريالية والرجعية والصهيونية، منتصرةً وحاملةً لشعارات وثورات وأنّات الشعوب فـي العهود السابقة من الماضي الأليم وتأريخ الكفاح الثوري المجيد والجميل.. تلك الشعارات والأفكار والمطالب التي تمكن النظام من خنقها بين جُدران السجون والمعتقلات التي أقامها صالح ومن سبقه، وها هي اليوم تخترِقُ الجُدران وتحطمها، تولّد مجدداً من رحم الشقاء والبؤس الإمبريالي والبطر الخليجي، وتصيّرت أناشيد وأهازيج وزوامل الشعب صادحةً بها حناجر الأجيال الثائرة.

لم تجد محاولاتُ الاختراقات الإمبريالية طريقَها إلى داخل الثورة، فقوى الثورة كانت شديدة الاستقلال وشديدة الحذر واليقظة، والسببُ الأهمُّ فـي ذلك هو طقوسها الثقافية العقيدية والفكرية وصرخاتها العلنية المُحصنة للوعي والضمير، وقد عانى صالحُ مشكلاتِ التكيف مع الدور المزدوج الجديد حين قرر التظاهر بالوطنية فـي مواجهة العدوان ومحاولة نسيان الماضي الصراعي، ووضع قواتِه التابعةَ إلى جانب الأنصار فـي جبهاتٍ عديدة حاسمة اضطرتها فـي كثيرٍ من المرات ظروف المواجهة إلى خوضها للنهاية وهو ما آلم العدوانَ أَكْثَرَ من الانتصَارات المتحقَّقة، ومع ادَّعاء الشراكة فـي المواجَهة العسكرية، فقد أدى ذلك لتأثر الكثير من أتباعه السابقين بقوة والتحامهم الصادق بقوى الشعب الثورية فـي صفوف الصمود الوطني بقيادة الأنصار. وإن ذلك –الفزع من تحلل قواه لصالح الثورة- قد استعجل من دوران عجلة الدور الخياني التآمري.

إنَّ ترديدَ صالح لشعارات وطنية وثورية ومحاولة التحدث كمناضل “جيفاري” كبير يتحدَّثُ عن ماو وكاسترو وشافيز، إلى جانب تطرّف بعض أبناء إخوته فـي مضمار التظاهر بتبني مواقف قومية وعالمية وثورية كبيرة، ومؤاخاة أنصار الله وقبول قيادتها وتأييد الثورة التي تسير بها، كُلّ ذلك ترك الكثيرَ من البلبلة والحيرة عل جبهة الخصم وصعَّبَ عليه مهامَه الاختراقية التي خطط لها، وهو ما عاد على قاعدته الشعبية بالارتباك والبلبلة والاستغراب وعدم الفهم والتبلد والانقسام، وجعل المهمة صعبة ومعقدة وسط قطاع واسع من القاعدة الشعبية التي تدعمه باعتقاد مصداقية شعاراته عن الاستقلال ورفض الوصاية ومواجهة العدوان.

ومن هُنا بدأ يفتعلُ منغصاتٍ وإشكالياتٍ بين جمهوره عن المجاهدين؛ لتبرير الانعزال لقواته، وتعقيد علاقات الأخوّة معها؛ بهدف خلق حساسياتٍ تكون مقدمات لما يخطّط له لاحقاً، إذ يخطّط لاستخدام تلك القوات فـي الصدام مع إخوانهم من أنصار الله ومحاولة عزلهم عن القوام العام للجيش الوطني الجديد الذي يُبنى من مخرجات الجبهات والمعاناة والانتصَارات، وباتجاه ضرب المشروع الوطني الجديد الذي يرى فيه معوقاً يحول أمام عودته للسلطة ومن نافذة التفاهم مع العدوان التي يعمل أن تكون بعد إنهاك أنصار الله واستنزاف قواتهم ومخازنهم.

 

 خطّةُ الخداع الاستراتيجي

كانت الخطةُ الاستراتيجيةُ للعدو ضد أنصار الله، تقومُ على الإغواء والاستدراج نحو ميدانٍ أوسعَ للصراع مع العدو تكون الثورة فيها مكشوفةً يسهل ضربُها وتدميرُ قواها والعملُ لتكفيك تحالفاتها القوية القائمة والناشئة، بينما يظهَرُ صالح التحالف والتعاون مع أنصار الله وإخفاء كُلّ تفاهم وتعاون مع العدوان، وقد قام هذا التكتيك على دراسات علمية واقعية ميدانية استندت لخبرات وتجارب المواجهات السابقة.

 

التقدير الاستراتيجي للعدو

تقدير العدوان للموقف الداخلي الوطني وتوازن القوى

لقد توصّلت القيادةُ المعاديةُ قبل العدوان إلى تلخيص مفاده: أن القوى الثورية المسلحة تزدادُ فاعليةً وقوةً وتوسعاً مع تراجع السلطة وتفكك قواها بعد هزائمها خلال الحروب الست السابقة، ولم يعد بمقدور الجيش القديم مواجهتها فـي الميادين، وهو ما يقودها إلى اجتياح العاصمة حتماً بعد فشل المبادرة الخليجية واختراق الاتِّفَـاقيات المبرمة مع السلطة، وبعد فشل محاولات دفع القوى الوهّابية القبَلية بزعامة مشيخ الأحمر إلى الصراع فـي مواجهة وإيقاف حركتها فـي الخروج من المعاقل القديمة فـي الشمال نحو العاصمة.

كما كان التقديرُ للموقف أن قوى التأييد الشعبي للثورة موجودة فـي المحافظات المجاورة للعاصمة ونواحيها، مما يجعل المواجهات فـي العاصمة محسومة سلفاً لصالح الثورة، ومن ثم فقد أرادت تكوينَ ميدانِ مواجَهةٍ جديدٍ جنوباً ووسطاً على أساس طائفـي ومذهبي، حيث يمكن لها أن تضمن منافذَ وخطوط الإمدادات. فكان التوجيه لصالح أن يستدرج الثورة إليها فيما وجّهت هادي بعدم المقاومة والعمل على الدخول فـي سلطة شراكة تؤخر تقدم الثورة وحسمها فيما يفتح جبهات الإرْهَاب لمواجهة الثورة، تتالياً نحو التراجع إلى عدن والجنوب والوسط بذريعة الاستباحة للسلطة الشرعية -بعد أن فجر الموقف فـي العاصمة فـي يناير بتوجيه ألوية الحماية الرئاسية بالنزول للشوارع وتصفية أي وجودٍ للجان الشعبية وبعد عمل طويل من الاستفزازات والمشاكلات- ليفتح البابَ أمامَ التدخلات الأجنبية والاحتلال للأقاليم الاستراتيجية النفطية ضمن مشروع تقسيم اليمن وتمزيقه وفرض الانفصال والوصاية الدولية والحصار الشامل وشن العدوان لتحطيم قوى الثورة التي تكون –وفق هذا المنظور- قد ارتدت شكل السلطة الغاصِبة للأمر الواقع.

لقد رسمت قوى العدوان بدقة متناهية كيف تؤكل الثورة من داخلها، وهو الدورُ الحاسمُ فـي استراتيجية العدو لوأد الثورة وسحق قواها الذي أنيط بصالح ومنظومته تحت رداء الحليف الجديد الخارج عن عباءة التبعية والهيمنة والمرتدي لعباءة الوطنية والاستقلال!..

 

الدورُ الاستراتيجي الجديد لصالح.. احتواءُ القوى الثورية الوطنية

التزم صالحُ دوراً رديفاً سريّاً فـي سياق حماية المصالح الغربية دوراً احتياطياً دون الإعْلَان عنه، وكُلِّفَ باستغلال تطوير العلاقات مع قوى الثورة على رأسها أنصار الله -والتجسس عليهم- وتخريب صفوفهم بإرسال أعداد من جنوده إليهم، وإلصاق التهم بهم وتشويههم والتأليب الشعبي ضدهم بحملات تعبئة إعلامية وميدانية شرسة، محضّراً للقيام بالانقلاب على الثورة وقواها -وضربها وافتراسها من الداخل- والسيطرة على العاصمة.

هكذا أعاد صالح إنتاجَ ذاته وشخصيته السياسية ضمن اتِّفَـاق استراتيجي -جديد مع الإمبريالية ووكيلها الإقليمي السعودي- وقد حاولت هذه القوى مع صالح التضليل على العلاقات الجديدة مع الأخير، لتمكينه من التغلغل فـي أوساط القيادة الوطنية وتوجيه الضربات إليها من الداخل-إضَافَة إلى تصويب الضربات الموجهة من الخارج- وشق صفوفها مع أنصارها وحلفائها الوطنيين لإضعاف تحالفاتها.

تظاهر صالح بالتحالُف مع الأنصار، وعملت الأجهزةُ الإعلاميةُ على إظهار صالح بصورة من وجد نفسَه أمام تكالب هائل لاستهدافه من قبل حلفائه السابقين وأجنحته الأُخْـرَى التي وحّدت خططها -الآن ضد عدو مشترك- التي يشكل فيها صالح مكانة هامة جداً فـي الضفة الأُخْـرَى لجبهة الصراع -وكان هذا تغطية لحركته الجديدة لضمان نجاحها-، حيث حاول التظاهر بأنه يمثل موقفاً استقلالياً حرياً بأن يحترم- رافقه إخراج بعض القضايا حول الدور السعودي فـي اليمن ظل يوزعها بالتقسيط.

فرضت الضرورةُ الوطنية قيامَ تحالف وطني جامع للمواجهة خَاصَّــة أمام تكالب دولي كالذي تواجهه بلادنا، وفرضت نبل ومسؤولية الأنصار تجاوز صراع الماضي الأليم من أجل النهوض بمقاومة وطنية شعبية عامة فـي وجه العدوان الإمبريالي. لكن صالح كان مجرد مراوغ وممثل عتيق فشل فـي أداء المسرحية هو ومدراؤه.

هكذا ارتسمت الخطوطُ لضرورة التعاون والتحالف بين القوتين؛ ولذلك سارع إلى قبول التحالف مع أنصار الله -ضد العدوان الأجنبي– يكون مدخلاً لشراكته- ومنطلقاً لاحتواء الحركة الوطنية من خلال فرض بقاء المُؤَسّسات الرجعية القديمة التي تشكل عمود بيروقراطية منظومته وإداراته وشبكات مصالحه ومراكز نفوذ الطبقات القديمة –التي يمثلها– والتي أجبرتها انتصَارات الثورة الشعبية الجديدة على ضرورة التصالح وتجاوز العداوات القديمة–واعادة توحيد صفوفها–وتقديم التنازلات.

من جهة أُخْـرَى فقد ادّعى صالح أنه رفض الحرب ضد أنصار الله؛ باعتبار أن السعودية من طلبت منه تفجيرها!! كما رفض المصالحةَ مع علي محسن وحميد الأحمر والعمل مجدداً كجبهة موحدة ضد العدو الجديد المشترك، حد ادعاءه، لكن الأحداث الأخيرة من ناحيته قالت بعكس هذه الادعاءات، علاوةً لكون التأريخ لا يقبلُ التشكيلَ كما تريد الأمزجة وأهواؤها.

مهامُّ صالح فـي المُخَطّط الجديد

تحدَّدَ دورُ صالح فـي التغلغل فـي صفوف الثورة الشعبية والتظاهر بتحدي العدوان والدعم للمواجهة، فيما النشاط المُبطن هو التجسس وإنقاذ القيادات العميلة وفتح الثغرات للعدو أمام قواتنا الوطنية فـي الجبهات وتضييق الخناقات عليها، والتعاون فـي إضعافها والانقضاض عليها من الداخل حين تكون قد أغرقت فـي سياق هجمات عدوانية كبرى ناجحة على الجبهات الرئيسية -نهم، ميدي، موزع، تعز… من جهة أُخْـرَى فقد عملت هذه المنظومة على إغراق البلاد فـي بحر من الأزمات المالية والتموينية والإدارية لاستخدامها مادة إعلامية فـي حملات التضليل والتشويه، إلى جانب كونها غطاءً للفساد والعبث خاصتهم المستشري منذ عقود، مضاعفة بذلك من آثار الحصار الشامل.

 

خلفيةُ التفاهُم الخياني الجديد.. حول اغتيال “النهدين”

كانت صدمة “النهدين” قد أطاحت بما بقي من عقل لصالح ومنظومته وأُسرته –المتكالبة على السلطة بأي ثمن- وأجبرتهم على الرضوخ التام لإملاءات وإرادة البيت الملكي السعودي والأمريكي للقبول بمصالحة خصومه السابقين سراً؛ حرصاً على بقاء المنظومة التابعة موحدة؛ ولذلك فقد استغلت السعودية حادث النهدين أشدَّ استغلال، فقد أرسلت طائرة إسعافية خَاصَّــة وملأت الأحواض بعسل النحل الملكي الخالص الذي وضعت جسده فيه لنقله وبقائه طوال فترة العلاج الطويلة التي تضمنت عشرات العمليات التي قام بها فريق عالمي من أمهر الأطباء -بينما انتهت حياةُ عَبدالعزيز عَبدالغني ببساطة- وبغموض مما يعني أن الأمر لم يكن مصادفةً ولا حسَنةً ملكية، ولم يكن ذلك بدون ثمن، وكثير ما يحتار البعض بالسؤال، كيف تكون السعودية شاركت بشكل غير مباشر عبر عملائها الخُلص فـي الاغتيال ثم شاركت فـي الانقاذ؟!

إن ذلك بسيطٌ ومفهوم، إذا قام الدليلُ فـي الحالين -ويترك هذا للمؤرخين وللزمن فليس هو بيت القصيد- المهم أن علاج صالح كان الورقة الذهبية بأيدي المملكة لكي تضمن نفوذها وإملاء شروطها على الوضع القائم، وإعادة توجيه وتوظيف صالح كما تريد هي، مريدة أن يقوم بدور غير تقليدي، يتمثل فـي الاستدارة الاستراتيجية ضد حلفائه الجدد فـي اللحظات الحاسمة، حين تكون الاستدارة ضدهم قادرة على الإطاحة بهم، فـي لحظة الهجوم الأقصى من قبل الطرفين الرئيسيين المتصارعين، وتكون كُلّ القوى الاحتياطية قد استنزفت ورميت إلى قلب المعركة، وتصبح النتيجة مرهونة على مدى تحَـرّك القوى على أطراف الوطن وفـي مؤخراته المركزية.

 

سيناريوهاتُ الاختراق من الخلف والأمام

متى تكونُ الاستدارةُ مؤثرةً على نتيجة المعركة؟

تكونُ مؤثرةً حين تكون العاصمة قد تعرضت للحِصَارِ والهجوم الكبير الذي استثار جميعَ القوى الاحتياطية للأنصار واستفرغت قواهم وأعدادهم، وأصبحت القوى الوطنية مشتبكةً مع العدوان بكل طاقاتها فـي نضالٍ مستميت ضارٍّ ومصيري فـي جميع الجبهات الرئيسية المشتعلة: نضال دفاعي متوازن طويل واستنزافي، وحينها فإن دور صالح سيكون هو:

1-         سحب قواته كما حصل فـي تعز والجنوب بصورة مفاجئة-وفتح الخطوط أمام تحَـرّك العدو والتفافاته.

2-         كما سيكونُ على شكل انقضاضات مباغتة من خلف القوات فـي مؤخرة العاصمة والسيطرة عليها بالقوات التي ترابط على أطرافها، وخَاصَّــة السيطرة على المطارات فـي شمال العاصمة وفـي جنوبها، والسيطرة على مداخل المدينة.

3-         كما ستكون تلك إشارة الانزالات من الجو للعدو المتربص مستخدماً المطارات الواقعة تحت سيطرة حليفه الخائن، وهي مسألة معهودة لدى العدو الأمريكي وسبق وتناولناها فـي مقاربات سابقة حول (الإبرار الجوي)، حيث الانقضاض على المناطق الداخلية لقطع الخطوط الامدادية للجيش الوطني وعزله عن قواعده، وإنزال قوات خَاصَّــة تتعاون مع قوات الخيانة من الداخل فـي الوصول إلى مراكز القيادات الوطنية لأعمال التصفيات والاحتجاز لإعاقة العمل الشعبي المضاد لتحَـرّكها.

4-         إقامة جسر جوي متواصِل دون توقف يحمل القوات والأسلحة والتموين والمعدات، مستنداً إلى عدم توفر صواريخ مضادة للطائرات لدى الجيش واللجان تمنع هبوطها على الأرض.

5-         الالتفاف الاستراتيجي عندما تصل المواجهة إلى تلك الحالة الحاسمة، فإن العدوَّ سيعمد إلى سحب أغلبية قواته من جميع الجبهات الثانوية الأُخْـرَى مؤقتاً، مستغلاً تفوقه الجوي وتوفر أسطول جوي نقال كبير الحجم يمكنه حمل ونقل الكثير من القوات سريعاً ونقلها من جبهة إلى أُخْـرَى -خلال ساعات- مما يحقق له التفوق المحلي العددي فـي جبهة المواجهة الحاسمة -أي العاصمة- ويمكنه من حسم الموقف حسب اعتقاده وتقديراته.

تلك هي جوهر الخطة الإمبريالية الممكنة، وفـي حال فشل السيناريو الأعلى هناك خياراتٌ أخرَى جاهزة للانتقال إليها كـ:

1-         التخريب الأمني العسكري خلف خطوط القوات الوطنية -حروب العصابات الخَاصَّــة- فـي العاصمة وبعض المحافظات بالتنسيق مع القوى الإرْهَابية المعادية التي قام الدليل على التحالف بينهما خلال أوقات سابقة.

2-         التخريب السياسي الاقتصادي الإداري الحكومي الأمني، وهو ما تمارسُه بيروقراطيةُ صالح بشكل مُخَطّط ومنسق مع العدوان وأجهزته.

 

مصيرُ الخطة التخريبية من الداخل

الخطّةُ التخريبية للعدوان من الداخل أَوْ الغزو من الداخل لم تعد مجرد خطة نظرية، بل أضحت مادةً عملية يعمل عليها الجهاز الخياني الداخلي، وقد حاول تنفيذَ بعض الأجزاء منها من قبلُ؛ لأنها متصلةٌ فـي بنودها وفصولها، ومن اليوم الأول للعدوان وإنْ كانت سراً فـي البداية.

وفـي 24 أغسطس كان له فيها وعدٌ وموقفٌ ونكسةٌ بعد أن خذلته قوات العدوان فـي نهم وميدي وموزع التي راهن عليها ويرتبط مصيرها بمصيره التي تكبدت هزائمَ ونكساتٍ -وما زالت-، والأَكْثَر من ذلك أن خاب ظنه بانتباه وحذر قوى الثورة والشارع اليمني المقاوم المظلوم.

إنَّ خطة الهجوم الكبير من الداخل مرهون بتقدم العدو فـي جبهات نهم- صنعاء بالذات.

والعدو يعاود الآن الحشد باتجاهها مجدداً، فقد أضحت مصيريةً بالنسبة للعدوان الذي أغراه جهاز الخيانة من الداخل بالمحاولات والاستمرار، وقد حاول قبل اليوم الموعود وبعده، إلا أنه خذل فعاد يناور من جديد لتأجيل الحركة إلى مناسبة أُخْـرَى تكون أفضل له من حيث الاستعداد والتأييد.

 

المسرحيةُ الاستراتيجية للعدوان.. مستمرة

من الممكن أن يعد العدوان مسارحَ عمليات شكلية عديدة؛ بهدف تعطيل يقظة الوطن، حيث يُجرِي عدداً من العمليات غير الجادّة لاستطلاع ردود الأفعال الوطنية فـي المواجهة المتوقعة لتضبط عليها خطتها الميدانية، وهذا يعني أن ما حدث سيتكرر لمرات عديدة قبل الشروع الجاد بالعملية التنفيذية فـي العاصمة، برغم التظاهر بالعودة إلى الصف الوطني وإرسال بعض المشاركين إلى الجبهات.. لقد تراجع العدو في24 أغسطس عن خطته إلى موعد آخر، وكانت أحداث الاعتداءات على جنود النقطة الأمنية الحكومية فـي دوار المصباحي وشارع الجزائر وقتل الجنود الأبرياء، استفزازاتٍ هدفت لتحميل السلطة الوطنية المسؤولية والحُجّة وجرّها إلى الاشتباك لاصطناع ضحايا دماؤها تستثير التورط فـي جرائم القتل للجنود وفتح المعركة المنتظرة من قبل العدوان وأتباعه، وقد فوّت أنصارُ الله الفرصةَ أمامهم بتحمل التضحيات دوْن رد فعل متسرع والتصرّف الحذر والحكيم والمدروس مُسبقاً ضمن جملة السيناريوهات المتوقعة لمسار الأزمة التفجيرية.

 

هل تراجعت المؤامرة أم اتجهت لمسارات بديلة؟

اتّجهت المؤامرةُ لمساراتٍ بديلة، مع بقاء المؤامرة وفكرتها ومُخَطّطها الأساسي قائماً.. الذكرى القادمة لثورة 26سبتمبر62م يمكن أن تكون فرصة جديدة للتحشيد باسم الاحتفال بها، كما يمكن أن تكونَ ذكرى14 أكتوبر أَوْ ذكرى الاستقلال 30 نوفمبر، أَوْ أية مناسبة مثل ذكرى إعْلَان بيان نوفمبر الوحدوي أَوْ ذكرى إخراج البترول أَوْ سد مأرب.. فلطالما الأموال الإماراتية مستمرة فسيتم تمويل وتنظيم كُلّ يوم مناسبة جديدة.

 

أشكالٌ جديدةٌ للمؤامرة على الأرض ومظاهرُها فـي الفترة السابقة

خلال الفترة السابقة كانت أشكال المؤامرة والخيانة والنفاق قد اتضحت فـي عدة جوانبَ، أبرزُها عمليةُ تهريب هادي وقيادة العدوان من صنعاء بتوجيهات السفير الأمريكي وتنفيذ عدد من قيادات المؤتمر العليا، إضَافَةً إلى تعطيل عدد من الإمْكَانيات الوطنية كوحدات الدفاع الجوي -عدى ألوية من قوات الجيش-، وفتح الثغرات أمام العدو فـي أَكْثَر من جبهة مثل عدن وتعز ونهم.. أيضاً التأزيم الاقتصادي والفساد وحملات التشويه والإرجاف وتوفير الحماية للطابور الخامس والفاسدين واللصوص والمجرمين.. وهذه تنصب كلها فـي سياق تخريب الدفاع الشعبي والصمود فـي مواجهة العدوان والاحتلال.

كان العام الثالث يقترب للاكتمال، وكانت لا تزال عملياتُ سحب الجنود من الجبهات مستمرةً إلى جانب عمليات التثبيط والتخدير للآخرين، ولا تزال كثير من الألوية العسكرية خارج مسرح المعركة وأفرغت مُعسكراتها ولا تزال المخازن الواقعة تحت سيطرتها مقفلة وتمنع على مقاتلينا الأبطال، فيما هذه القوات لا تزال تنهك الخزينة العامة للدولة.

لقد سبق لقيادات المعسكرات التابعة سابقاً لصالح وأولاده أن مارسوا أعمالَ الضغط على الجنود الذين يذهبون بمبادرتهم الذاتية إلى الجبهات بواسطة وقف معاشاتهم ومستحقاتهم تحت دعوى الفرار من المعسكرات إلى الجبهات!! ولا نعلم حقاً أين ذهب نصف مليون منتسب لوزارة الدفاع –حسب الكشوفات- من معركة الدفاع الوطني الحالية!

إن هذا التخذيلَ المنظَّم والجماعي يشمل أعداداً كبيرةً من الجنود القدامى، وخَاصَّــةً جنود الحرس السابقين والقوات الخَاصَّــة وألوية الاحتياطي العام وألوية الحماية الرئاسية، وهي الألوية التي كان صالح يتباهى أنه من يوجّهها ويسيطر على إرادتها، مستغلاً حاجتَها للراتب والمعيشة.

 

تخريبُ المعركة الوطنية فـي تعز

كان التخريبُ فـي تعز مزدوجاً ومعقَّداً، من حيثُ المزج بين التظاهر بالمشاركة فـي المعركة وتنظيم الانسحابات الفجائية التي انتهت لصالح العدو من مواقع هامة وحاكمة، إلى جانب القيام بممارسات عدائية ضد الأهالي وتوظيفها لكسب العداء ضد الثورة وقواها، وقد حدثت إثرَ هذه الممارسات اشتباكاتٌ داخلية حين تصدّى لذلك المقاتلون الأنصار والأهالي.

 

طعناتُ الحليف المزيّف

لم يتحقق اختراقُ عدن فـي يونيو 2015م إلا حين انسحبت القواتُ المتحكَّمُ بها من قِبل صالح، وحقائقُ اليوم تؤكِّدُ أن ذلك جرى بالتفاهُم التام مع العدو، والجميعُ يذكر مسارَ تلك المعركة من حيث الانسحاب الفجائي –غير المبرَّر مُطلقاً- من الموقع فـي المدينة وأطرافها؛ لتترك الخطوط الوطنية مفتوحة أمام العدوان، ولم يحدث أن يتم إبلاغُ المقاتلين هناك إلا قبل الانسحاب بساعات معدودة! ما كلّف الوطن آلافَ الضحايا من الرجال الخُلص. وقعت اللجانُ فـي طَوْق حصار شامل وغرقت بالصحراء وواجهت مصائرَ مأساويةً؛ بسبب الخديعة التي حاكها الحليفُ الزائفُ، تاركاً إخوته فـي الوطن والسلاح بلا غطاء ولا إسناد.

كانت القيادةُ بدافع الحرص على الظهور بمظهر القوة والتوحّد والتماسك أمام الرأي العام الوطني؛ حفاظاً على الوَحدة الوطنية ووَحدة الصفوف الداخلية، ظلت مقفِلةً للملف الخياني، تعيد مراجعة المعلومات وموازنتها على معايير النصر والإخفاق والخسارة والمكاسب المتحققة، والسكوت على الخيانة والضيم والآلام، وعامَلت المسألة؛ بكونها سوء تقدير واختراقات داخلية من قبل العدو لصفوف صالح دون علمه، لكن لم يتوقف الأمر عند ذلك بل استمرأت أفعالها ووصلت لهذا الحد الذي عليه اليوم، حيث يتم إشعالُ الفتيل بالصف الوطني ودفعه إلى الهاوية، وبدلاً عن أن يتم فيه استعراض القوى القتالية وعتادها على العدو وتوجيه الفوهات نحوه؛ كان الاستعراض والتعالي والتغطرس وتوجيه الفوهات على الحلفاء والأشقاء وأبناء البلد.. ولم يقم اعتباراً للمروءة والنُبل والشهامة والصفح والحرص والمسؤولية لدى الثورة بل كان العكس من ذلك تماماً.

لقد خُطط لتكونَ هذه الخيانة هي نهاية القوى الثورية الوطنية بعد إغراقها هناك فـي مساحات مكشوفة يتم حصارُها وقطع خطوط امداداتها بعد الانسحاب دون إبلاغ أنصار الله، فيقعون بين فكي العدو والعدوان، من البر ومن البحر والجو..

ومثل هذه حدثت فـي المخاء، فكيف تمكن العدو من اختراق شبكة الألغام البحرية والدفاعات القوية! لقد سُربت للعدو بلا شك وصار معلوماً من فعلها.. إن هذه أمثلة قليلة جديداً وما خفـي كان أعظم.

 

مواجَهةُ الحليف واستباقُ مؤامراته الكبرى

صبرت القيادةُ الوطنيةُ طويلاً على ممارسات (الشريك) حتى المؤامرة الكُبرى التي توجب استباقُها بالهجوم الاستراتيجي الأمني فـي عُقرها قبل أن ترفعَ رأسَها وتشرع فاتحةَ الخطوط أمام العدوان القادم من مأرب – نهم المطار، حيثُ تتولى هي من الخلف الانقضاض على قوات الأمن والجيش واللجان.

احتشد العدوُّ باتجاه نهم مع اقتراب المناسبة التخريبية بأَكْثَر من 12 ألفَ مرتزقٍ منتظراً الفرصة التي هيأها له ظهيره الخلفـي (صالح) للانقضاض على صفوف الوطن واستباحة عاصمته الثورية. لكن العدوَّ كان لا يزالُ تحتَ تأثير التعمية الاستراتيجية التي غيّبته عن الواقع الداخلي للثورة والمقاومة الوطنية التحررية، فلم يجد نفسَه إلا مطوّقاً، أُحكم الخناق عليه تماماً وبشكل لم يتصوره مُطلقاً لم يمكنهم حتى من أخذ الأنفاس.

لقد قلّل العدو وظهيرُه الخلفـي من إمْكَانيات وقوة الثورة وقدراتها وانتشارها، وتعامل مع طيبتها ونُبلها وإنسانيتها وطهرها على أنها سذاجة، لكنه فـي التوقيت ذاته لم ينتبه لمدى حسمها وشدتها وحذرها وانتباهها وإحاطتها.

 

استراتيجيةُ الثورة فـي المبادرة الخاطفة

استهدافُ تدمير القوة الرئيسية أولاً كان هو هدفَ الثورة؛ ولذلك قررت مبادَرة العدو قبل استكمال تحشده وقبل اقتراب موعد غدره، وقد حطّمت قواته فـي نهم مأرب بهجمات متوالية خاطفة قوية قضت على احتشاده بعدة ضربات صاروخية مركزية دفعت بمن بقي إلى التشتت فـي أرجاء المنطقة مثخنين بالجراح والهزيمة.

 

التلازُمُ العدواني الهجومي بين الجبهتَين.. لم يخفه العدو

عَمِلَ العدوانُ فـي الخارج والداخل على أن تكون هجماته فـي موعد واحد مشترك يكون ضربة شاملة مركزة، ولم يستطع إخفاءَ التلازم والتنسيق والتوحيد بين الجبهتين، بل هلّل وفرح له وشجّعه على أن يكون أَكْثَر اتساعاً وجماهيرياً وشعبوياً ومُشرعاً وفق أعلى المعايير الدولية.. وكان تصريح السفير الأمريكي بالوصول إلى تفاهمات مع المؤتمر يتحدث عما هو أقل من الحقيقة بكثير، لكن الغرض الحقيقي من تصريح السفير وأَكْثَر من إرباك الجبهة الداخلية كان حقّاً كشفاً لوضع صالح، -وهذه استخدمها البعض لينفـيَ ارتباطَ صالح من خلال: إنْ كان عميلاً فلماذا يكشفونه!- إذ تعمد المخابرات دوماً فـي مواضع معينة إلى كشف عميلها التي تعتقد تلاعبه فـي التنفيذ وبين الأطراف، فتقوم بكشفه لتقطع الطرق عليه مع غيرها من الأطراف.

 

تعطيلُ هجوم الجبهة الشرقية خنق مؤامرة المؤخرة ودفعها للتراجع

أدَّى تكسيرُ الهجوم الشرقي المنتظَر إلى قلب توازن القوى العام فـي الساحة، فقد أضحى الجيشُ الشعبي جاهِزاً للمواجهة داخلَ المركَز العام للمؤامرة، عبر قوات الأمن المركزية الخَاصَّــة واللجان الشعبية التي هبّت من المحافظات المجاورة ومن الأرياف القبَلية الشعبية بعد إعْلَان صالح ومرتزِقته المتطرفين عن برنامجهم: مبادراتهم الاستسلامية ومدى تجاوبهم مع العدوان ومناوراته، وكانت الخطوات المضادة لهذا التوجه أهمها:

1-         عقدُ الجمعية الوطنية الشعبية لعقلاء وحكماء اليمن -دورتين خلال شهرين- كانت الأخيرة قبل قرابة أسبوع من موعد المؤامرة 24 أغسطس؛ لما لها من دور هام وحاسم ومفصلي فـي الإدَارَة والمواجهة.

2-         تم تحشيد القوى الشعبية إلى العاصمة، وبالمقدمة قبائل طوق صنعاء الأبية البطلة برمتها.

3-         إفشالُ محاولات الطيران العدواني تدميرَ نقاط الأمن والحزام حول العاصمة.

4-         سيطرت القبائلُ الثورية على مداخل العاصمة من جميع الجهات، ومنعت من اقتحامها فـي سياق التحشيد الكبير المُخَطّط، حيث كان آلافٌ من المرتزقة قد انضمُّوا إلى ركب التحشيد المُلتبس ورفعوا شعاراته وقرّروا تفجيرَ الوضع من الداخل، فيما ضبطت الأجهزةُ الأمنية العسكرية العديدَ من التفجيريين والتكفيريين والخلايا التخريبية التي كانت مستترةً فـي الداخل أَوْ قدمت من كُلّ المحافظات إلى العاصمة، كما ضبطت شفرات وخطط التكاليف المستهدفة للعاصمة وتمكنت من تعطيل المتفجرات والألغام.

5-         استباقُ العدو من وقت مُبكر –حين لم تفد التشاورات والتعقلات معه- بخطوات إعلامية جريئة وحاسمة وقوية وكثيفة أخرجت المخبوء والمستور الذي كان مخفياً على مضض، وتعرية المشروع لجماهير الشعب اليمني وإظهار مدى قُبحه وخيانته، مما فكّك كثيراً من القاعدة المغرّر بها والجاهلة لماهية المشروع، والوطنيين المناصرين غير العارفين بالمُخَطّط، ورفع الحس واليقظة الثورية لدى الشارع اليمني وهيّأهم لكل طارئ.

6-         إعطاءُ الشارع اليمني بتنوعاته حَقَّ التقرير ودَفّة الرد والمواجهة على أية خيانة ومصارحته بكل الحقائق، الأمر الذي لم يؤثّر على تماسُك الجبهات أَوْ قوتها القتالية نهائياً، بل على العكس من ذلك، وهذا أيضاً أعاد وصْلَ ما تقطع من أواصر بين قيادة الثورة والشارع كما عزّز الثقة معه ومتّنها.

7-         وقفت القبائلُ بكل مسؤولية للأمر وأخذت دورَها بحسم؛ بكونها المضحيَ الأولَ والمرجعَ الأولَ للبلد وبُنيته الضامة والضامنة وصمّام أمانه وسلامته، ما قطعَ الطريقَ أمام محاولات تصوير الأحداث بكونها خلافاتٍ سياسيةً بين طرفين سياسيين وليست أعمالاً وممارساتٍ خيانيةً غادرةً استهدفت صمودَ البلد وتماسُكَه وقوته ووَحدته.

8-         المبادَرةُ القيمة من قيادة المقاومة اللبنانية فـي حزب الله السيد حسن نصر الله، فـي التدخّل والتحدّث مع صالح للعدول عن برنامج الفعالية التفجيري والمأساوي، وهُنا وجد صالح نفسَه أمام جميع الأطراف مُداناً وانقلبت عليه أحابيلُه.

 

خسارةٌ محققةٌ.. الثورةُ تتصالَحُ مع ذاتها

أدرك الخصمُ أن المعركةَ ستكونُ خاسرةً حتماً بعد خسارة العدو على أبواب نهم مأرب باتجاه العاصمة، وبعد أن بادر الجيشُ الثوري إلى النزول للميدان ورفع الجاهزية إلى أعلى مدياتها، وبعد أن تمّت تعريةُ المشروع وأوجهه بالكامل أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والوطني.

ما لم يدركه الخصم، أن ما حدث أعادَ للثورة زخَمَها الاجتماعي الثوري وأعاد فرزَ وتطهيرَ صفوفها، وصَعَّـدَ على سُلّم أولوياتها قضايا حيويةٌ وحسَّاسةٌ كان العدوان وما خلقه من ظروفٍ وطنية قد أجّلها، كقضايا الإصلاح الإداري الشامل والقضائي والرقابي، وضرورة إعادة بناء البُنية الاقتصادية للوطن، بما يحقق الاقتصاد الوطني والاستقلال السياسي خَاصَّــة مكافحة الاحتكارات وتجّار الأزمات والكمبرادور والطفيليين والسوق السوداء… ومن حيثُ أراد قتْلَ الثورة وخنقَها خدَمَها وضاعَفَ من حماسها ووعيها وقوتها وصدقها وحسمها، وكشف لها البُنَى الأعمقَ التي كانت تتهدد الثورة، وعلمت حقاً مَن هم أصدقاء الثورة ومن هم أعداؤها، فتجذرت أَكْثَرَ وتوسعت قاعدتُها وجماهيرُها، وتبلور منهجُها وأدواتُها ومسارُها وقضاياها بشكل أَكْثَر علميةً وأَكْثَر عُمقاً.

خلالَ فترة العدوان الإمبريالي على الوطن كانت الثورةُ تُحصر تدريجاً فـي قضايا الإطار الوطني العام بعيداً عن جوهرِها الاجتماعي التحرري، كمسارَين لا ينفصمان، وحين بدأ حدوثُ ذلك ظهر وكأن للثورة وجهَين تصارَعَا فـي أَكْثَر من محطة، والمسألةُ هي أن الثورةَ كانت تواجِهُ محاولاتِ خنقها وقتلها من داخلها، وعَزْلِها عن إطاراتها وأرضها التي تخلّقت فيها وعليها وبمنطقها.

إنَّ الثورةَ الحقَّةَ الواعيةَ التي تقودُها طليعةٌ ثوريةٌ وطنيةٌ مؤمنةٌ صادقةٌ شجاعةٌ وبسيطةٌ، دوماً ما ستجدُ طريقَها وستعرف أصدقاءها وحلفاءها وأعداءها..

عاشت الثورة يا رفاقَنا وإخوتَنا فـي الوطن والدم والنضال والسلاح، فـي كُلّ مترَسٍ وساحةٍ وخندقٍ وخلف كُلّ مَشَاف.

 

*مُفكر ومحلل استراتيجي وسياسي – رئيس تحضيرية الاشتراكي اليمني (ضد العدوان).

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com