كاتبٌ سعودي يستقرئُ الأحداث : هل وجودُ السعوديّة في خطر؟

هل وجودُ السعوديّة في خطر؟

طراد بن سعيد العمري

جادلنا قبلَ أربعة عشر عاماً بأن الاسْترَاتيجية العظمى للولايات المتحدة تهدفُ إلى تغيير جذري لمنطقة الشرق الأوسط في العراق ومصر وسوريا والسعوديّة. ونجادل اليوم بأن السعوديّة أصبحت قاب قوسين أَوْ أدنى من بؤرة الاسْتهدَاف الأَمريكي؛ لأنها الدولة الوحيدة المتبقية في المُخَطّـط الأَمريكي. التصريحات المتناثرة والممارسات الأَمريكية سياسياً وإعلامياً تجاه المنطقة مؤخراً والسعوديّة تحديداً كلها دلائل وقرائن تشير، إذا ما تم جمعها وربطها مع بعضها البعض، إلى أن السعوديّة هدف يراد دفعة بأسلوب ووسائل أَمريكية تجاه مستقبل مليء بالعقبات والخيارات الصعبة على المستوى الإقليمي من الناحية الجيوسياسية، أَوْ المستوى الشعبي المحلي لخلق نوع من الفوضى “الخلاقة” التي يشكل الإرْهَاب الحلقة الأخيرة قبل الإسقاط. والغاية الأَمريكية هي: (1) سياسة أَكْثَر ليبرالية تجاه المصالح الأَمريكية وأَكْثَر قمعاً للمتشددين القوميين والإسْلَاميين؛ (2) حل المعضلة الأمنية الإسْرَائيْلية في عدد من القضايا.

الرؤية الاستشرافيةُ للمستقبل التي جادلنا بها ونشرتها صحيفة الشرق الأوسط بتأريخ 14 أكتوبر من العام 2002 حول التغيير الجذري في الشرق الأوسط تم تنفيذها بشكل حرفي تقريباً، بدءاً باحْتلَال العراق في العام 2003 بكذبة على مسمع ومرأى من العالم في مجلس الأمن من الجنرال الأسمر كولن باول بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل. ثم بدأ سيناريو التفكيك حتى بات العراق مسرحاً ومصدراً للإرْهَاب، ولا ننسى خطة جو بايدن نائب الرئيس الأَمريكي في منح الأكراد الاسْتقلَال. يجب أن نتذكر أَيْضاً، مصطلحات أطلقتها أَمريكا مثل: الشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة. ثم حقبة الربيع العربي وما حدث لدول وأنظمة تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا. المُخَطّـط الأَمريكي حسب ما توقعناه يسير بكل دقة، ولم يتبقى منه سوى السعوديّة.

تأجيل اسْتهدَاف السعوديّة مبكراً هو بقصد نضج تنفيذ المُخَطّـط الأَمريكي لتعديل البيئة الإقليمية. فالسعوديّة تملك ما يطلق عليه القوة الغير ملموسة Intangible Power وهي القوة الروحية وتتمثل في وجود الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام قبلة المسلمين الذين يقارب عددهم (1.5) مليار نسمة متوزعين في كُلّ دول العالم بنِسَب متفاوتة يتوجهون في صلواتهم خمس مرات يومياً باتجاه القبلة، مما يجعل من أي إرباك سياسي أَوْ ارتباك محلي للسعوديّة وبالاً على الاسْتقرَار في العالم وتهديداً للمصالح الأَمريكية، ولذا كان التأجيل لاكتمال المعطيات الأُخْـرَى. وهي ذات المخاوف التي صاحبت معظم القوى الاستعمارية في التأريخ الحديث للنأي بنفسها عن الأماكن المقدسة في الجزيرة العربية. ولهذا جاء تفكيك السعوديّة في آخر القائمة الأَمريكية بعد نجاح المُخَطّـط ضد الدول الفاعلة والمؤثرة في محيط السعوديّة، وتحويل الخطر ضد الإرْهَاب، وتأليب العالم ضد الإسْلَام السني، وداعش وعقيدتها، ومصادر تلك العقيدة.

بعد الاحْتلَال الأَمريكي للعراق الذي جاء بعد لغز أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بات الإرْهَاب والادعاء بمحاربته في سلم الأولويات للاسْترَاتيجية العظمى للولايات المتحدة بصرف النظر عن الإدارة أَوْ الحزب الحاكم في واشنطن، مما غير في أس النظام الدولي والعلاقات الدولية بسبب ولادة عنصر جديد في مفهوم الحرب وتكوين الجيوش القائمة، وبدء عصر جديد من الحروب الغير متماثلة Asymmetric Warfare. ولذا شهدنا تنامي تنظيم القاعدة ثم تحوّل الأمر إلى تنظيم الدولة الإسْلَامية “داعش” التي باتت لغزاً عالمياً من حيث نشأتها وزمانها ومكانها وتمددها لكي تتوافق مع أَكْثَر من (37) تنظيم إرْهَابي في العالم بحسب تصريح بان كي مون، وتشكل كابوس أمني للعالم.

إستثمارُ الفوضى التي نتجت عن احْتلَال العراق بأساليب متعددة وبوسائل منها انتشار الإرْهَاب محسوب بدقة في الاسْترَاتيجية الأَمريكية، ولذا يجب أن لا نهمل اعترَاف هيلاري كلينتون أمام الكونغرس بأن الإدارة الأَمريكية هي من أنشأ القاعدة، كما لا يجب أن نمر مرور الساذجين على تصريحات دونالد ترامب بأن أوباما وكلينتون من أنشأ داعش. والأهم أن نربط بين الانْطِلَاق من العراق في المهمة الأَمريكية لتفكيك الشرق الأوسط وصولاً إلى السعوديّة. الحجة المعلنة هي محاربة الإرْهَاب التي بدأت بإسقاط العراق، ثم الفوضى، ثم تساقط الدول العربية الفاعلة في المنطقة، ثم القاعدة، فداعش، وهنا تأتي أهمية داعش لإرتباط إسمها بالإسْلَام، ثم التطرف الديني، فإستعداء الوهابية، للوصول إلى السعوديّة مهد الإسْلَام. كما أن الزوابع التي تثيرها الصحافة الأَمريكية من وقت إلى آخر بمساعدة الكونغرس حول الإرْهَاب وأحداث سبتمبر ونشر صفحات ظلت غامضة ثلاثة عشر عاماً ليست إلا نقاط مهمة حتى لو كانت صغيرة في مُخَطّـط أَكْبَر.

يشكل العراق أهمية قصوى للاسْترَاتيجية الأَمريكية، من الناحية الجيوسياسية سنحاول تبسيط شرحها. كان اسْتهدَاف العراق واحْتلَاله وإسقاط نظامه وتفكيك الدولة والمؤسسات فيه، المفتاح الذهبي للاسْترَاتيجية الأَمريكية لكون العراق مشترك في ثلاث منظومات رئيسية في المنطقة شكلت شيء من التوازن. يشترك العراق في النظام الخليجي مع إيران والسعوديّة ليشكّلوا مجتمعين نظام ثلاثي الأقطاب، وبسقوطه يتحول النظام الخليجي إلى ثنائي القطبية بين السعوديّة وإيران مع ما يصاحب ذلك من تنافس وتناحر واستقطاب. كما يشكل العراق القطب الثالث في النظام العربي أما مع مصر وسوريا حقبة من الزمن، أَوْ مع السعوديّة وسوريا في الحقبة التي تلتها، وبإسقاط العراق يختل النظام العربي. يتبقى النظام الشرق أوسطي الذي يشكل توازن بين الثلاث دول التي تشكل النظام العربي مع ثلاث دول غير عربية هي: إيران وتركيا وإسْرَائيْل، وباخْتلَال النظام العربي يختل بالضرورة التوازن في النظام الشرق الاوسطي. من المهم الإشارة إلى أن النظام ثلاثي القطبية هو الأَكْثَر أمناً وسلماً واسْتقرَاراً حسب الدراسات ونظرية كينث والتز حول القطبية.

باتت السعوديّة وإيران يشكلان القطبية الثنائية في النظام الخليجي مع كُلّ تبعات ذلك. وأصبح النظام العربي أحادي القطبية يرتكز على السعوديّة وحدها في غياب العراق وسوريا ومصر، وأضحى النظام الشرق أوسطي الجديد رباعي القطبية يتشكل من السعوديّة وإيران وتركيا وإسْرَائيْل. هذا دفع بتركيا إلى تحسين العلاقة مع إسْرَائيْل، ودفع بإيران وتركيا إلى التقارب، وسيدفع بالسعوديّة دفعاً باتجاه إسْرَائيْل. هذه النتيجة الجيوسياسية حسب الاسْترَاتيجية الأَمريكية ستضع السعوديّة في مأزق. الخصومة السياسية بين السعوديّة وإيران التي تعاظمت مؤخراً بسبب محاولات إيران توسيع مجالها الحيوي، وخلق منطقة عازلة Buffer Zone من عدد من الدول العربية، حسب رأي د. خالد الدخيّل، ووقوف السعوديّة وحدها لحماية النظام العربي يفسر ضراوة الخصومة السياسية بين القطبين في الخليج، حتى ولو لبست مظهراً طائفياً أَوْ عرقياً. كما أن البرود السياسي بين الرياض وأنقرة مؤخراً، والغزل الإسْرَائيْلي للسعوديّة يشير إلى صحة توقعاتنا حول التغيير المنشود في الشرق الأوسط.

يكمن المأزق السعودي الذي خططت له الاسْترَاتيجية الأَمريكية، في أن الخيارات المتاحة أمام السعوديّة ضيقة، وصعبة، وعسيرة، ومحفوفة بالمخاطر. يصعب على السعوديّة، من ناحية، ترك إيران تعبث بالمنطقة كما تشاء في ظل غياب نظام عربي فاعل. كما يصعب على إيران، من ناحية ثانية، تقبُّل تقارب بين السعوديّة وتركيا كدول سنية مما يضعف مكانتها، كما أنه من العسير على إيران، من ناحية ثالثة، التقارب مع إسْرَائيْل ولو مؤقتاً على الأقل. ويصعب على السعوديّة، من ناحية رابعة، الاندفاع نحو إسْرَائيْل والتقارب معها لأسباب محلية وإقليمية، خصوصاً وأن إسْرَائيْل لم تتخذ أي خطوة ملموسة تقابل المبادرة العربية للسلام التي انطلقت من السعوديّة، بالرغم من لقاءات سعوديّة إسْرَائيْلية بشكل غير رسمي حدثت على طريقة “لم آمر بها لكنها لم تسؤني”. ولذا فإن المستهدف من الاسْترَاتيجية الأَمريكية هو الدفع بالسعوديّة تجاه إسْرَائيْل مع كُلّ ما قد يصاحب ذلك من ارتباك شعبي في السعوديّة وقد يؤدي إلى فوضى “خلاقة” تديرها الولايات المتحدة.

أخيراً، السعوديّة مقبلة على حقبة خطيرة ومريرة في صراعها الإقليمي يتطلب منها الملاحة بين المرتفعات والمنحدرات السياسية بكل حذر. فإعادة تشكل التحالفات التي ظهرت مؤخراً في المنطقة بين تركيا وإيران؛ وتحوّل وتذبذب الدور الأَمريكي؛ وتعاظم الدور الروسي؛ وتقلص الدور الأوروبي؛ وتغيّر المزاج الاسْترَاتيجي لمصلحة النظام السوري؛ وتشدد وتعقد الأزمة اليمنية؛ كُلّ ذلك يفرض على السعوديّة خيارات صعبة ما يتطلب إعادة صياغة أولوياتها الاسْترَاتيجية وتحالفاتها، لكي تتصف بالمرونة والحذر والحكمة، فالمستهدف هو بقاء ووجود السعوديّة بأكملها. ختاماً، يقول المثل الشعبي “نصف الحرب صياح” يقابله في الغرب مصطلح “بروباغندا الحرب”، ويمكن أن يكون خفض صوت صياح الحرب بداية جيدة لاسْترَاتيجية جديدة. حفظ الله الوطن.

*كاتب سعودي

turadelamri@hotmail.com

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com