كارثةُ 13 يناير 1986م اليمنية تتجدَّدُ مأساتُها كُـلَّ عام..بقلم/ أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور*

 

تحُلُّ علينا مأساةُ وكارثةُ 13 يناير 1986م كُـلّ عام، وتحمِلُ معها في كُـلّ عام جديد هموماً مثقلةً بآلام الماضي وأحزانه وأوجاعه، كارثة 13 يناير 1986م اليمنية تتجدد مأساتها كُـلّ عام.

وكانت كارثة يناير 1986 م بمثابة كارثة الكوارث التي حلت على شعبنا اليمني في جنوب الوطن؛ ولأَنَّها كارثة سقطت فيها كُـلّ القيم الإنسانية كما درسها وتعلمها الأسوياء من بني البشر، وانهارت معها كُـلُّ معايير الخير والفضيلة والرقي الأخلاقي كما علمتنا الشرائع والديانات السماوية وفي طليعتها الدين الإسلامي الحنيف السمحة، وكان البسطاء من أهلنا في جنوب اليمن يبتهلون إلى الله ليل نهار، ويردّدوا بطلب التعلم من قبل الساسة والمحرضين على الفتن المناطقية المقيتة والجهوية المريضة، أن يتعلموا الدرس البليغ للمأساة.

لكن شواهدَ وأحداثَ ومآسيَ عام 2019م حينما تجابَهَ الإخوةُ الأعداءُ وبتحريضٍ من المحتلّ السعوديّ – الإماراتي، يبدو أنهم لم ولن يتعلموا الدرسَ، إذ كرّر الخصومُ من الإخوة الأعداءِ كُـلَّ المشاهد التراجيدية المؤلمة، في الحرب العسكرية الدموية التي دارت رحاها في منطقة العَلَم على مدخل مدينة عدن الوادعة.

كيف حدثت وتكرّرت المأساة المشابهة لكارثة يناير 1986م بين الفرقاء؟، والذين يفترض بهم أن يكونوا حلفاء وزملاء ويعملون تحت مظلة حِلفٍ واحدٍ وهو الحِلف العسكري المشكّل من (السعوديّة والإمارات) ومن خلفهم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ففي ذلك الحدث انقضت وهجمت مجاميع متوحشة من مناطق بعينها ترفض الوحدة اليمنية كي تجابه قوى مناطقية وعسكرية من محافظات بعينها تدّعي حفاظها على الدولة اليمنية الواحدة!!!، راح ضحيتها العشرات وربما المئات من الأبرياء في تلك الموقعة العسكرية المؤلمة في ضواحي مدينة عدن.

إن الكتابةَ المتكرّرةَ عن حدث ما، يُعد مضيعةً للوقت على الكاتب والقارئ معاً، وتكرار ممجوج للحروف والكلمات وللعبارات، إلَّا إذَا كان الموضوع يستحق العودة للمعالجة بجدية جديدة، وأنا أتذكَّرُ وطيلةَ سنوات خلت أنني كتبتُ العديدَ من المقالات السياسية حول تلك الأحداث المفزعة، وأجريت العديد من الحوارات الصحفية والتلفزيونية تجاه تلك الأحداث، وطيلة 37 عاماً من عمر انقضاء الفاجعة، ما زالت الذاكرةُ موجوعةً، والحرفُ مشتتاً، والكلمة مجزئة إلى أشطار، كيف لا؟ والحال هو الحال لم يتغير كَثيراً، والناس لم ترد أن تتعلم من دروس المأساة، والنسيان يلف الذاكرة الجمعية في شكل نوبة تخدير جماعي، ومأساة أبناء الشهداء والجرحى والمشردين ما زالت ماثلة أمام الجميع، هكذا هي الصورة الأكثر تشويهاً من فِعل الحدث ذاته وتداعياته.

لهذا فالكتابات الجادة لم نعثر عليها بعدُ، لا من قِبَل الأحزاب التي غرقت في دماء بعضها البعض، ولا من مراكز البحث الجادة حول جذور ومسببات تلك الصراعات الدموية التي أنتجت أحداث يناير المأساوية ومثيلاتها من الأحداث، وتأتي بعدها أحداث مؤلمة تشابهها في القبح والنتائج، ومع ذلك يتم طي الصفحات بشكلٍ عشوائي وساذج، وبعدها يتم رفع اضابيرها في أرفف الزمن دون معالجةٍ تذكر، أَو أن تكون معالجات سطحية هامشية يعُد اسطرها وصفحاتها الطرف السياسي الحزبي المنتصر، ولذلك تأتي النتائج مخيبة للآمال، وتتكرّر بعدها المأساة من جديد لتكون أكثر درامية ومأساوية وهكذا دواليك.

هُنا أتذكر قول الشاعر المناضل اليساري/ عوض الحامد العولقي محافظ م/ لحج، وهو يردّد رائعته الشهيرة، بعنوان (الصراع):

من كوخ طلاب الحياة …

كوخ الوجوه السُّمر شاحبة الجباه …

من فجر تاريخ الحياة …

يتصارع الضدان …

لا المهزوم يفنى …

لا وليس المنتصر ضامن بقاه …

هُنا يصف الشاعر الثائر/ الحامد العولقي بلغته ومفرداته اليسارية الحالة كما هي، بأن الصراع الإنساني على السلطة موجود منذ فجر التاريخ الإنساني، البعض منها ينجح لتصبح ثورة وأصحابها ثوار أقحاح، والأُخرى منها تفشل ويتحول أصحابها إلى متهمين خونة وغير وطنيين، لكن دوران عجلة الصراع الحاد ستظل مُستمرّة؛ لأَنَّ المهزوم لم ولن يرضى بالهزيمة، والمنتصر لا يضمن ديمومته واستمراره في حالة انتصار دائم.

نعود إلى نتائج تلك الصراعات بين اجنحة وتيارات الجبهة القومية وبعدها وريث الحركة الوطنية كما كانوا يسمونها أصحابها ومفكريها وهُم منظورا الحزب الاشتراكي اليمني، ليتجه إليهم التساؤل الآتي: هل تحملت؟؟؟ الجهات الحزبية والحكومية المسؤولية الأخلاقية في إعداد ملف توثيقي أرشيفي بأسماء الشهداء، وأسماء المفقودين، وأسماء الجرحى والمعاقين والمهجرين إلى شمال الوطن آنذاك!!!، لكن المصيبة تتسع وتكبر ويتحملها الجميع، إذَا ما عدنا قليلًا إلى الخلف وتذكرنا جرائم الحرب الأهلية في الزمن الأخير للمستعمر المحتلّ البريطاني ونتائج ذلك الصراع الدموي بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، وبعدها صراع الرفاق في الجبهة القومية على السلطة حينما اطيح بأول رئيس للجنوب هو الشهيد الرئيس/ قحطان محمد الشعبي، والشهيد/ فيصل عبداللطيف الشعبي، في يونيو 1969م وأسموه زوراً وبهتاناً بـ (حركة التصحيح لمسار الثورة اليمنية الجنوبية)، وتتابعت الأحداث الدموية وتناسي القادة الرفاق ضحاياها، امثال ضحايا الصراع مع الفقيد/ محمد علي هيثم رئيس وزراء جنوب الوطن ورفاقه عام 1971م، مما أَدَّى إلى نفيه ومطاردته حَــدّ محاولة التصفية في الخارج، وضحايا سقوط الطائرة الدبلوماسية عام 1973م، والتي راح ضحيتها كوكبة من خيرة الدبلوماسيين، وعلى رأسهم الشهيد/ محمد صالح عولقي.

انتهوا في غمضة عين دون أن يعرف الرأي العام المحلي والدولي سبب الجريمة النكراء، وضحايا ما أسموه بالانتفاضات الفلاحية والتأميمات للفترة من (1972 – 1974م)، وذهب المئات وربما الآلاف من شيوخ القبائل والمفكرين العلماء من الحبايب الهاشميين والفقهاء والمثقفين وعدد لا بأس به من أبناء السلاطين والأمراء وحكام جنوب اليمن أبان الاحتلال البريطاني، وكانت بمثابة ابشع جريمة حلّت بالمواطنين في جنوب الوطن؛ لأَنَّ الضحايا تم اختطافهم في الليالي الظلماء والتنكيل بهم وسحلهم كالحيوانات، والآخرين تركوا حتى من حق الدفن الطبيعي لأجسادهم الطاهرة، كُـلّ ذلك لم يسمع الشعب في المحافظات الجنوبية والشرقية شيئاً يذكر عنهم وملفاتهم وقوائم هؤلاء الضحايا وَو وَ، وضحايا رفاق الرئيس الشهيد/ سالم ربيع علي (سالمين) الذي تعرض هو الآخر لانقلاب دموي رهيب هو ورفاقه، والعديد من الضحايا في جميع مراحل المنعطفات التصفوية بين رفاق الأمس في الجبهة القومية وخصومهم ولاحقاً بين تيارات الحزب الاشتراكي اليمني المتصارعة على السلطة وفتات مغانمها البخسة التافهة.

لا اتذكر أن مِلفاً واحداً قد اكتمل، وبالتالي فَـإنَّ الجميع هنا مذنب، بين الجاني أَو الضحية!، وكأننا إما دولة ضائعة، ومؤسّسات حكومية هامشية وهشة، ومسؤولية شخصية فردية وجماعية مفقودة، وضمير مسؤول ميت تجاه كُـلّ تلك الجرائم البشعة، وهنا تكمن الكارثة بجميع ابعادها وحدودها ومدلولها في التجربة (الثورية) لليمن الديمقراطي في جنوب الوطن الماضية.

وكما يقول المثل العربي، حدوث (ثالثة الأثافي) على جنوب الوطن، وهي أحداث 13 يناير 1986م المشؤومة، حَيثُ يقال؛ لأَنَّ ليس هناك توثيقاً للمعلومات بشكلٍ صحيح، بأن عدد الشهداء الضحايا خلال ثلاثة أشهر فحسب قد بلغوا أزيد من عشرة آلاف، وتم دفنهم في مقابر جماعية وفي كونتينرات، والبعض بلعتهم الوحوش والحيوانات الضالة، ومعظم أُسَرهم حتى الآن لم تسوى أوضاعهم الإدارية والمالية كأُسَر للشهداء، تخيلوا هذا الإهمال الكبير للأُسَر التي ضحى عائلها ربما الوحيد بروحه في سبيل (الوطن) إن كان قد توفاه الله وهو يجاهد في سبيل الوطن!!!، وهناك مثلهم جرحى ومعاقين، ونزح إلى شمال الوطن قرابة 100 ألف نازح ويزيد، جُلّهم من المؤسّستين العسكرية/الأمنية والمدنية، والبقية من بين افراد المواطنين العاديين.

في هذه الكارثة خسر الحزب الاشتراكي اليمني عدداً كَبيراً من قياداته وقواعده، فخسر الرفيق/ عبدالفتاح إسماعيل علي الجوفي الرئيس الأسبق لجنوب اليمن، وخسر القائد الفريق ركن/ علي أحمد ناصر عنتر نائب رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، وخسر الفريق/ صالح مصلح قاسم المهدي وزير الداخلية، وخسر المناضل/ هادي أحمد ناصر العولقي سكرتير الحزب في عدن، وخسر المفكر الشاب/ فاروق علي أحمد، وخسرت أنا شخصيًّا القائد النقابي الطلابي المميز/ محمد ناجي سعيد، وخسرت أَيْـضاً أصدقاء وزملاء هم في مقتبل أعمارهم كانوا يحلمون بأن يعيشوا حياة الرفاه والعيش الرغيد في ظل راية الاشتراكية العلمية والأممية البروليتارية، واستشهدوا وهم يحلمون ويتخيلون تلك المعيشة الحالمة، وهُم الشهيد/ محسن أحمد الشكليه، ومحمد حسين باعينين بن فهيد، ومحمد علي هاشم مقطري، ومحمد سالم العاظ بن عيدان، وحجيري العولقي، وعجروم العولقي، وطابور طويل من الشهداء الأبرار الاعزاء.

العجيب والغريب في الأمر أن من نجا من الرفاق المتقاتلين من اتون ذلك الصراع الرهيب في جنوب الوطن، وبعد أن لمع في الافق بروز التيار (المنتصر) في أية واقعة عسكرية وأمنية بعينها، يهرع من تبقى من التيار المهزوم المدحور في رحلة معظمها برية إلى مدن شمال الوطن، وكأنها تتجدد مواسم الهجرة من الجنوب إلى الشمال في نزوح بشري يصعب وصفه، وهُنا في مدن صنعاء وتعز والحديدة والبيضاء ودمت ومأرب يجد النازحون (الهاربون) من عدنَ وبقيةِ مدن الجنوب كُـلّ الترحاب الأخوي الحار والعظيم.

مدينة صنعاء وبقية مدن واحياء شمال الوطن كانت حاضنة أخوية لكل من غادر الجنوب، ووجدوا فرص العمل في السوق الشمالي الحُر، علاوةً على حصولهم بطائق الهُــوِيَّات والجوازات وفرص الدراسة في الداخل والخارج، كُـلّ ذلك وجدوه لدى اشقائهم هُنا في شمال الوطن، تذكرت أن في زمن الاحتلال البريطاني بأن عدد من قبائل جنوب الوطن، مثال قبائل آل الحميري وآل باعوضه من سلطنة الواحدي بحضرموت، وقبائل آل معور العولقية، وقبائل النسيين والمصعبين من بيحان، تعرضوا جميعاً لهجوم بالطائرات البريطانية المقاتلة لإخضاعهم؛ بسَببِ التمرد القبلي ضدّ جنود الاحتلال البريطاني، هؤلاء وغيرهم نزحوا إلى المملكة المتوكلية اليمنية في زمن الإمام أحمد آل حميد الدين، واستقروا بمدن الشمال معززين مكرمين في ضيافة اهلهم من أبناء شمال اليمن.

الخلاصة: بعد مرور أزيد من 37 عام على المأساة، وبعد التجارب المريرة لأهلنا في جنوب الوطن، وبعد معاناتهم جرَّاء دورات الصراع الدموي بين اجنحة تنظيم الجبهة القومية وبعدها الحزب الاشتراكي اليمني، فَـإنَّ الطبقة السياسية الفاعلة لم تستطع أن تتعلم الدروس المستقاة من مأساة كارثة 13 يناير 1986م، وإنهم يكرّرون الفعل السيئ ولكن بغطاء كاذب ويصدقون ذاتهم، مثال على ذلك ترديد شعار “التسامح، التصالح، ونسيان الماضي”، كلها شعارات براقة ولكنها تشبه السراب لا غير. ﴿وَفَوْقَ كُـلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾

* رئيس مجلس وزراء حكومة الإنقاذ الوطني / صنعاء

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com