صنعاء تُفشل استراتيجية هيمنة القطب الواحد.. العودة الأمريكية العدوانية إلى البحر الأحمر

المسيرة – عبد القوي السباعي

على مدى قرون وحتى عصرنا الحاضر، اعتبرت الإمبراطوريات الأوروبية العظمى البحر الأحمر بمدخله الشمالي المتمثل بقناة السويس، والجنوبي والمتمثل بمضيق باب المندب فائق الأهمية بالنسبة لها وإلى أمن تجارتها العابرة للقارات؛ كونه الشريان الرئيس لتدفق الثروات النفطية الهائلة من الخليج إلى مناطق استهلاكه في أمريكا وأوروبا.

وأخذت تلك الإمبراطوريات الاستعمارية على عاتقها إضعاف أية قوةٍ محلية أو إقليمية تحاول فرض سيطرتها على مياهه وشواطئه، غير أنها كانت دائماً ما تصطدم بين فترةٍ وأخرى بمقاومةٍ محلية تقوض تلك النزعة الاستعمارية.

لكن ومع انهيار الاتحاد السوفيتي 1990م، وانتهاء فترة التدافع المتوازن بين الأقطاب العظمى في العالم بمعسكريه (الشرقي والغربي) شهدت المنطقة انقلاباً تراجعياً في مسارات النفوذ الوطني والسيطرة القومية من الدول المطلة على البحر الأحمر، إذ أصبحت أمريكا هي المتحكم الرئيس في مجرى مياهه وجزره وجميع مداخله، سواءً بشكلٍ مباشر أو بواسطة حكومات وأنظمة محلية صنعتها ودعمتها الإدارات الأمريكية والغربية المتعاقبة، وأسندت لها مقاليد التحكم في النطاق الوطني والإقليمي كواجهةٍ شرعيةٍ صورية ليس إلّا.

 

فشل الهيمنة

وعلى مدى الـ32 عاماً الماضية، نظّمت أمريكا منفردة حركة النقل البحرية التجارية والعسكرية من وإلى وداخل البحر الأحمر وفق هيمنتها الأحادية القطبية، والتي ضمنت حرية وانسياب مرور سفن الشحن التجارية العملاقة والأساطيل العسكرية المختلفة عبر مياهه ومضايقه الحاكمة في الشمال والجنوب، وفرضت أيضاً مجموعة من الأحكام في تنظيم مرور السفن الحربية بعد حادثة المدمرة الأمريكية (يو إس إس كول) في 12 أكتوبر من عام 2000م، والتي كانت راسية في ميناء عدن من أجل التزود بالوقود، بعد أن قاد انتحاريان زورقاً مطاطياً محملاً بالمتفجرات ما أدَّى إلى إعطابها مؤقتاً، وتالياً وبدعوى محاربة الإرهاب حافظت واشنطن على سياسة ثابتة من الهيمنة والتفرد، ما يعني أنها في بعض الأحيان كانت لا تمنح سفن المنافسين الآسيويين (روسيا والصين) حق الوصول إليه.

لكن ومع قيام الثورة الشعبية في اليمن في الـ21 من سبتمبر من العام 2014م، والتي أظهر فيها الثوار العداء العلني والمباشر لأمريكا، وقضت أهداف الثورة بترحيل أي تواجد لأمريكا، وكلّ عملائها وأدواتها من العاصمة اليمنية صنعاء، بل ومن كلّ المنطقة برمتها، الأمر الذي أصاب الأمريكان في مقتل وبعثر كلّ أوراق المشاريع التي بنتها لسنوات خصوصاً أن هذا الحدث جاء تزامناً مع حدثٍ آخر شمالاً تمثل في استعادت روسيا تأكيد هيمنتها ولو بشكلٍ جزئي على البحر الأسود من خلال حشدٍ بحري كبير في العام 2014م.

 

البحر الأسود يعزز فكرة العودة إلى البحر الأحمر

انكب الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على إحياء القوة البحرية الروسية منذ دخوله الكرملين قبل عقدين من الزمن، واستطاع بذلك قلب اتجاه فترة الانحدار البحري سريعاً، وخلق بَحرية روسية أكثر مرونة وحداثة ومتعددة الاستخدامات، فمنذ عملية الضم في 2014م، ذهبت روسيا إلى أبعد من ذلك، إذ نشرت منصات وقوات وأسلحة جديدة في البحر الأسود ساعدتها أيضاً على زيادة نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط الذي يشكّل مسرحاً حاسماً بالنسبة إلى عمليات موسكو في دعم النظام السوري في حربه مع الجماعات الانفصالية والإرهابية.

كذلك حدّثتْ روسيا قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس السوري، كجزء من محاولتها الأوسع في العودة من جديد إلى الشرق الأوسط، ضمن لعبة سباق النفوذ والاستقطاب القديمة الجديدة، ما دفع أمريكا إلى الإسراع بتنفيذ أجندات المواجهة الخاصة بكبح جماح الدب الروسي من التوجه جنوباً، وعمدت على سد الطريق أمامه بطريقةٍ أو بأخرى من الاعتراف بالثورة الوليدة في صنعاء ومنعه من مدّ جسور الصداقة أو التعاون معها.

لكن لا تزال إدارة “بايدن” حتى اللحظة لم تقرر بعد كيف ستردّ على الوجود العسكري المتزايد لروسيا في الشرق الأوروبي ومنطقة البحر الأسود وعلى السيطرة على المياه المحيطة بشبه جزيرة القرم؛ كون المخاطر الناجمة عن ذلك تتخطى أمريكا ومنطقة البحر الأسود، وقد يولد مصير المياه الإقليمية فيه صدى عميقاً في بحر الصين الجنوبي، إذ تدّعي بكين سيادتها على معظم المياه الإقليمية هناك.

وهكذا، بدأت العودة العدوانية لأمريكا والغرب عموماً إلى اليمن ومنطقة جنوب البحر الأحمر تحديداً في الـ26 من مارس عام 2015م، في إطار تحالف عربي دولي تقوده السعودية ظاهرياً، وفيه تم الإعلان من واشنطن تنفيذ أول عملياته العسكرية العدائية ضد اليمن (الأرض والانسان) تحت ذريعة واهية وهي ما يسمى باستعادة “الشرعية” وانهاء الانقلاب، ومارست قوى التحالف أبشع أنواع الجرائم والانتهاكات ضد الشعب اليمني، والتي ترقى إلى جرائم حرب ضد الإنسانية، غير أنها لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة أو غير المعلنة.

وعلى مدى ما يقارب الثمان سنوات من عمر العدوان الأمريكي السعوديّ على اليمن ضاعفت أمريكا من تواجدها في القرن الأفريقي ومضيق باب المندب سواء بصورة مباشرة كما هو الحال في قواعدها بالعاصمة الأريتيرية أو في جيبوتي، أو من خلال أدواتها (السعوديّ والإماراتي) في الجزر اليمنية الاستراتيجية وعلى الشاطئ الجنوبي الغربي اليمني المحتل، كما ضاعفت أمريكا تواجدها في المناطق اليمنية الشرقية المحتلة والغنية بالثروات النفطية الهائلة، وعززت قواتها اللوجستية في المنطقة، مقويةً موقعها هناك من خلال مزيج من التكتيكات شملت المجالات العسكرية والاقتصادية والمعلوماتية، إضافة إلى شراء الولاءات القبلية والحزبية في تلك المناطق.

في المقابل ضاعفت صنعاء من قواتها وعززت من دفاعاتها واندفاعاتها، وأثبتت تواجدها في الساحة، ومثلت الرقم الأصعب في ميدان الصراع، وشكلت ولا تزال مصدر رعب وقلق لتحالف العدوان ورعاته الدوليين، ولذلك شاهدنا في السنوات الأخيرة كيف دفعت الولايات المتحدة حلفاءها الإقليميين على شاطئي البحر الأحمر الشرقي والغربي إلى تبني توجهات وتحالفات أكثر انفتاحاً وليبرالية مع حليفتها “إسرائيل”، كي تخلق حلفاً جديداً أو ما يسمى “ناتو” عربي، يؤمّن اللعبة الأمريكية الرامية إلى فرض الهيمنة الأحادية على البحر الأحمر، بمشاركة حلفاءها المحليين (السعوديّ والإماراتي والإسرائيلي والمصري والأردني ودول القرن الأفريقي) على حدٍّ سواء.

 

مبدأ المراوغة الأمريكية يتعثر

حتى الآن، وخلافاً عن إدارة “ترامب” تبنت إدارة “بايدن” نهجاً حذراً تجاه صنعاء، فعمدت بمساعدة الأمم المتحدة على إبرام هدنة مؤقتة (الهدنة الأممية العسكرية والانسانية) منذ مطلع إبريل من العام الجاري، و في مقابلها عززت إدارة “بايدن” علاقة مناسبة مع السعودية، وأقدمت على جملة من الترتيبات المعلنة وغير المعلنة بهدف معالجة القضايا التي أدَّت إلى برود هذه العلاقة لحظة وصول “بايدن” البيت الأبيض، والمتعلقة بقرارات منع تصدير الأسلحة للدول الضالعة بالعدوان على اليمن؛ كونها متصلة بسجلات الجرائم والانتهاكات، وكذا ملف “خاشقجي”، وملفات حقوق الانسان في المملكة.

وحتى اللحظة لا تزال جميع الأطراف تعيش في إطار الهدنة التي لم تمت ولم يتم انعاشها، نظراً للمراوغة الأمريكية المتعمدة.

ووفقاً لذلك، عزّزت صنعاء من رسائلَ الإنذار والتحذير التي وُجهت خلال الأيّام الماضية لتحالف العدوان، بتأكيدات جديدة على استحالة السماح باستمرار حالة اللا حرب واللا سلم، وهو ما يعني أن مراوغة إدارة “بايدن” وصلت إلى نهاية مسدودة، وأصبح عليها الاختيار ما بين السلام العادل والمشرف أَو التوجـه لتصعيد جديد سيكون البحر أبرز ميادينه، وهو ما يعني أن التحولات التي سيصنعها هذا التصعيد ستكون واسعة النطاق وطويلة المدى وستكون العودة إلى ما قبلها مستحيلة أَيْـضاً.

مراقبون يعتقدون أنهُ وفي حالة رفضت أمريكا المطالب المشروعة للشعب اليمني، لأسبابها الخاصة، فإنها على وشك قلب المنطقة رأساً على عقب؛ كون ما يجري في منطقة البحر الأحمر لا ينفصل عمّا يجري حول منطقة البحر الأسود، لأن في مقابل ذلك، لن تخضع صنعاء أيضاً لشروط المرور البريء، ويعني ذلك أن السفن الحربية التابعة للتحالفات الأمريكية، قد لا تحظى نظرياً بهذا المرور في البحر الأحمر.

 

“ناتو” البحر الأحمر الجديد على غرار “ناتو” البحر الأسود

وتسعى واشنطن إلى تأسيس واستنساخ “ناتو” جديد في منطقة البحر الأحمر على غرار “الناتو” المتشكل قديماً، لكن على المديين القصير والمتوسط، لم يعد لأمريكا والناتو القديم إمكانية الاستمرار في تقديم الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا، أو حتى مساعدتها في بناء القدرة على الصمود أمام لعبة التحول الجديدة في فرض معادلة القوى المتكافئة وتعدد الأقطاب،  ببروز القوة الروسية بفعالية وسيطرة وتحكم في البحر الأسود ومحيطة الإقليمي.

وعلى المدى الطويل يرى مراقبون أن واشنطن ستفشل أيضاً في إقناع جميع دول البحر الأسود بالامتثال للاتفاقات الحالية التي تضمن حرية الملاحة وحق “المرور البري” في المياه الإقليمية، إذ تعتقد واشنطن التخلي عن تلك الاتفاقات في شبه جزيرة القرم “تهديداً للأمن الإقليمي والتجارة الدولية والنظام العالمي السائد”.

مقابل ذلك يأتي إصرار “بوتين” على أن الأوكرانيين والروس يشكّلون “شعباً واحداً”، واعتبار أن التعاون الأوكراني مع “الناتو” يمثل تهديداً للأمن القومي في روسيا، وقد يجعل من التوغل الروسي الموسّع في أوكرانيا أكثر الاحتمالات الواردة في المستقبل القريب.

هُنا ينصح خبراء ومحللون إدارة “بايدن” بعدم الهروب من مواجهة روسيا في الشمال بافتعال وتغذية الصراع في الجنوب؛ لأن ابن سلمان هو أيضاً لن يرغب في تعريض علاقاته مع موسكو للخطر، مهما كانت معقدة، حتى في الوقت الذي يقدم نفسه بصفته شريكاً ضرورياً لواشنطن في التعامل مع روسيا التي بدا للرياض والقاهرة أن موسكو اكتفت على ما يبدو بضمها لشبه جزيرة القرم والجمهوريات الثلاث، وبالتالي فشل فكرة إدارة “بايدن” بالضغط على السعودية أو مصر كي تعملان بفعالية أكبر مع أمريكا و”الناتو” على البحر الأحمر في مواجهة ما تخشاه من تمدد روسي صيني ضمن سباق التموضع وتوزيع رقعة الشطرنج في ميدان الصراع؛ لأنها لم تعد ذات قيمةٍ تذكر في الوقت الراهن.

 

القوة اليمنية الصاعدة في ميزان الصراع

استكمالاً، بات من المنطقي جداً أن تعمل أمريكا أكثر من أي وقتٍ مضى على تعزيز حضور الهدنة في اليمن، وأن تسعى إلى وقفٍ شامل لإطلاق النار، وأن تقبل بدور صنعاء الفعلي في حفظ الأمن وتعزيز السلام في منطقة جنوب البحر الأحمر، فإذا ما تصاعدت التوترات بسبب دعم إدارة “بايدن” القوي للسعودية والإمارات وموقفها العلني والعدواني تجاه صنعاء قد يؤدي إلى عدم الاستقرار الفعلي للمنطقة واشتعالها من جديد، أو “أشد وأوسع”، وبالطبع، ليس من المستغرب أن تنتقد القيادة اليمنية في صنعاء هذه المماطلة وتضغط على الوتر العسكري التصعيدي بهدف استعادة سيادتها على جزرها ومياهها الإقليمية شأنها شأن الدول الأخرى.

تصريحات قائد الثورة ورئيس السياسي الأعلى والتي انعكست عنها تصريحات وزير الدفاع في صنعاء، والمتعلقة بتأكيد جهوزية القوات المسلحة اليمنية في استرداد حقوق الشعب بالقوة، ونفاد الصبر عن المراوغة الأمريكية جميعها تعبر عن مواقف ثابتة ورسائل صريحة بأن كُـلّ الأوراق التي تستعملها أَو تعول عليها الإدارة الأمريكية لإطالة أمد الوضع الراهن، ستكون بلا فاعلية، ولن تنجح في إقناع صنعاء بتأجيل “الوقت المناسب” لاستئناف “مسار الرد والردع” بعد أن باتت صنعاء منفردة تمتلك بالفعل ورقة ضغط مهمة على واشنطن، إذ أن بإمكانها أن تمنح لوحدها سفن أمريكا وأوروبا إذن الوصول من وإلى جنوب البحر الأحمر أو تمنعها من ذلك، متى تشاء سواءً بوجود روسيا وحلفائها أو بدونها.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com