على صفيــــحٍ ســاخــن.. الحلقة الثالثة عشرة (التيار الثالث)..بقلم/  الأسير الفلسطيني/ كميل أبو حنيش*

 

حظيت مقولة “التيار الثالث” بأهميّة كبيرةٍ في السنوات الأخيرة، واحتلت حيزاً مهماً في الخطاب السياسي الفلسطيني، واكتست في بعض الأحيان بهالةٍ خلاصية، وذلك منذ أن بدأ الانقسام السياسي وتنامى حدة الخلاف بين القوتين المتصارعتين (فتح وحماس)، والحاجة الموضوعية لقوةٍ ثالثة، لخلق نوع من التوازن في الساحة السياسية، وضرورة كسر الاحتكار السياسي لهاتين القوتين. ومن جانبٍ آخر تحمل الدعوة لتشكيل القوة الثالثة في أعماقها، رغبةً في توحيد قوى اليسار الفلسطيني، ووضع حَــدٍّ لانحساره وحالة الضعف التي أصابتها في العقود الأخيرة.

وإذا شئنا الدقة أخذت مقولة “التيار الثالث” بالتَشكّل منذ أواسط الستينيات بفعلِ ثلاثة عوامل مهمة: الأول، أزمة قوى اليسار في أعقاب انهيار الاتّحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية، وما عكسه من أزمة في الهُــوِيَّةِ الفكرية لهذه القوى، والثاني توقيع اتّفاقيات أوسلو وقيام السلطة الوطنية، وما خلفته من تبعات على كافة الأصعدة، والثالث، تنامي قوة التيار الإسلامي، لا سِـيَّـما حركة حماس، في الشارع الفلسطيني، وما فرضه حضورها السياسي والاجتماعي والكفاحي على الساحة الفلسطينية. وذلك بعد أن بدت حماس كقوةٍ موازية لفتح ومنافسة لها بعد أن غطت فراغاً دأبت أن تلعبه قوى وفصائل اليسار في تاريخ الثورة الحديث.

بيد أن مقولة “التيار الثالث”، تطورت مع الوقت وباتت تشمل إلى جانب القوى اليسارية التقليدية، العديد من القوى والتيارات والأطر الديمقراطية والليبرالية وحتى المستقلين بصيغهم وانتماءاتهم المتباينة، وكل ما هو خارج عن الانتماء لحركتي فتح وحماس، أَو يحمل معارضة بكلٍ أَو بآخر لكلا السلطتين والخطابين، حتى بات تعبير “التيار الثالث”، ينطوي – وفقاً لتلك الحسابات – على قوى اجتماعية واسعة تُشكّل في مجموعها قوة كبيرة تُمثّل قرابة نصف المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع.

وبناءً على ما تقدم، فَـإنَّ مقولة “التيار الثالث” تحتاج إلى تفكيك لإظهار عناصرها المكونة للتيار نظرياً، وإعادة تركيبها لتبدو الصورة على نحوٍ أوضح، وحتى يسهل علينا فحص إمْكَانية بلورة مثل هذا التيار من عدمها.

فإذا اعتبرنا أن مقولة التيار الثالث، تشمل كافة الأطياف والأحزاب والفصائل التي تعتنق الفكر اليساري الماركسي والفكر الديمقراطي والليبرالي إلى جانب القوى الشبابية والمستقلين من كافة الألوان، فنحن إذَا إزاء تيار عريض يفتقد للتجانس السياسي والفكري والأيديولوجي والاجتماعي والطبقي، والتجربة الكفاحية التاريخية، وهذا المزيج الغريب من الألوان السياسية والفكرية والطبقية قد يصلح لحِراكات جماهيرية مؤقتة، بيد أنه وبحكم طبيعته المتناقضة، فَـإنَّه لن يصلح لأن يكون تياراً تحرّرياً في مرحلةٍ تحرّريةٍ وطنية تقتضي خطاباً سياسيًّا موحداً، وتبني شكلاً أَو أشكالاً كفاحيةٍ محدّدة. أَو قد يصلح ومن ناحيةٍ نظرية على الأقل لتشكيل قائمة انتخابية أَو أكثر، ولكنها حتماً لن تحافظ على توحدها، ولن تلبث أن تنفجر تناقضاتها بحكم تنوعها وخلافاتها في أكثر من زاويةٍ ومجال.

أما إذَا قُصد بالتيار الثالث، قوى اليسار المعروفة فَـإنَّ هذه المقولة أَيْـضاً تحتاج إلى تفكيك، وذلك في ضوء الخلافات السياسية والفكرية بين هذه القوى (الجبهة الشعبيّة، الديمقراطية، حزب الشعب، المبادرة الوطنية)، أما الفصائل الأُخرى المحسوبة تحت راية اليسار، فهي فصائل صغيرة وهامشية، وتفتقد للقواعد الحزبية، وهُــوِيَّتها الفكرية باهتةً تماماً بحكم تماهيها الكامل مع السلطة وخطابها.

إذاً ستقتصر هذه المقاربة على فصائل اليسار الأربعة المعروفة، ذلك؛ لأَنَّها هي المقصودة بالأَسَاس بمفهوم التيار الثالث، ومن منطلق التجربة الكفاحية والسياسية والبنية التنظيمية لهذه الفصائل، التي يسهل بحثها وتقصي إسهاماتها وإخفاقاتها في المعركة التحرّرية الفلسطينية.

ومع أننا سنخصص وقفةً خَاصَّة لكل فصيل على حدة، لكننا عُمُـومًا، يمكننا أن نبني تصوراً عاماً لتاريخ قوى اليسار وحالتها الراهنة، فقد مَثّلت قوى اليسار جزءاً من النسيج التاريخي السياسي والنضالي للحركة الوطنية الفلسطينية منذ عقودٍ طويلة، وبوسعنا أن نصل بها إلى الجذور الأولى، منذ ظهور الحركة الشيوعية في فلسطين في عشرينيات القرن الماضي، وما اكتنف هذه الحركة من ملابساتٍ وانقطاعاتٍ في مسارها، غير أن تجربة نصف القرن الأخيرة هي الأكثر ثراءً وزخمًا في تجربةِ اليسار الفلسطيني، وانخراطه في العملية الكفاحية التحرّرية. فقد شَكلّت قوى اليسار، لا سِـيَّـما الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، القوة الموازية لحركة فتح، وخاضت تلك الفصائل كفاحها الوطني إلى جانب فتح، وانضوت معها في إطار منظمة التحرير، وخاضت معها خلافات سياسية في محطاتٍ متعددة، مع أن الفصائل اليسارية وخلافاتها مع فتح طغت عليها الخلافات السياسية أكثر من الخلافات الأيديولوجية، أي أن فصائل اليسار، كانت منهمكة في الهم السياسي الوطني وخاضعة لشروط المرحلة التحرّرية، وما تقتضيه من تغليب الوطني على الأيديولوجي، ومن جانبٍ آخر كان ثمة خلافات سياسية وأيديولوجية بين قوى اليسار، التي كانت تختلف مع بعضها حول المواقف السياسية، فبعضها كان أقرب سياسيًّا إلى فتح في محطاتٍ مختلفة، وفي المحصلة لم يُشكّل اليسار الفلسطيني في أوج قوته، كتلةً واحدة، منُسجمة في الموقف السياسي والفكري، وبقيت الخلافات قائمة بين مكوناته، مما شَكلّ معيقاً تاريخيًّا أمام إمْكَانية تجسيد صيغٍ وحدويةٍ ثابتة يمكن البناء عليها في المستقبلٍ.

وبالرغم مما حقّقته قوى اليسار من إنجازاتٍ، وما قَدمتّه من تضحياتٍ وإسهاماتٍ في العملية التحرّرية، ونجاحها في بناء منظماتها الحزبية والجماهيرية والكاحية، وميراثها السياسي والاجتماعي والكفاحي. غير أنها واجهت إشكالياتٍ متنوعة أعاقت من إمْكَانية تَحولّها لقوى سائدة في المجتمع، وقلصت من قدرتها على الهيمنة السياسية، وساهمت في انحسار قوتها وتراجع أدائها. وهذه الإشكاليات منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي:

 

أولاً: الإشكاليات الموضوعية:

1) نال اليسار الفلسطيني نصيبه من التشويهات السافرة، أثناء مرحلة الحرب الباردة، بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وما كانت تنفقه الولايات المتحدة وحلفائها من أموال طائلةٍ لتشويه الفكر الماركسي في العالم أجمع؛ باعتبَاره فكراً “إلحادياً” وغير “ديمقراطي” و”شمولي” وغيرها من التعبيرات، التي وجدت صداها في البلاد العربية ومنها فلسطين، حَيثُ ساهمت تلك الدعاية المغرضة، في الحد من تمدد القوى اليسارية على نحوٍ واسعٍ في المجتمع الفلسطيني.

2) افتقدت بنية المجتمع الفلسطيني؛ بسَببِ ما واجهه من نكباتٍ وحروبٍ وخضوعه للاحتلال، للطبقة العاملة القوية وواضحة المعالم، نتيجة للتشوه الاقتصادي، وما خلفه الاحتلال من ممارساتٍ، علاوةً على أن غالبية المجتمع الفلسطيني، كان ولا يزال يغلب عليه التشكيلة الفلاحية (أكثر من 70 % يعيشون في قرىً وبلدات) الأمر الذي حَــدّ من نجاح خطاب اليسار الذي يرتكز على أَسَاس انحيازه للطبقة العاملة، ومبدأ الصراع الطبقي. ولم يتمكّن اليسار من تطوير خطاب فكري سياسي، يأخذ بالاعتبار، خصوصية المجتمع الفلسطيني الذي بقيت طبقاته الاجتماعية، بما فيها الطبقتين البرجوازية والعاملة، تعانيان من هشاشة في التكوين ومن ضعفٍ في الحيز والتأثير والعلاقة الجدلية التي تسمح بانفجار تناقضات طبقية تفضي لتنامي دور الطبقة العاملة، وهيمنتها السياسية، الأمر الذي أبقى الخطاب اليساري قاصراً، وبدا منفصلاً عن الواقع.

3) اقتضت المرحلة التحرّرية الوطنية، الانشداد للكفاح الوطني على حساب مبدأ الصراع الطبقي، وهيمنة الخطاب الوطني والسياسي فيما بقي الخطاب الأيديولوجي ثانوياً، وهو ما مَكنّ فصائل اليسار من التوسع في صفوف الجماهير، وتعبئة قواعده بالثقافة الوطنية والسياسية والكفاحية، على نحوٍ أكبر من التعبئة الفكرية والأيديولوجية. وفي المحصلة، بقي الفكر الماركسي نخبوياً من نصيب الكوادر المتقدمة والقيادية، ولم يتغلغل على نحوٍ أوسع في القواعد الحزبية التي لم يصل لوعيها، من أَسَاسيات هذا الفكر إلا النزر اليسير.

4) تفاقمت أزمة الفصائل اليسارية الفلسطينية، في أعقاب انهيار الاتّحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية، ولا تزال تعاني من تداعيات هذا الانهيار، الذي ترك تأثيره على مختلف الأحزاب والتشكيلات المحسوبة على اليسار في العالم أجمع. وتسببت هذه الأزمة بولادة أزمات أُخرى: أزمة الهُــوِيَّة الفكرية، وأزمة مالية، تنظيمية… الخ، عكست نفسها بشكلٍ حاد على البنى التنظيمية لفصائل اليسار، وأدت لاضمحلالها التدريجي، وانفضاض الآلاف من أعضائها وكوادرها، وراحت تعيد تعريف وصياغة هُــوِيَّتها الفكرية، والنأي عن التبني الصريح لمفردات الخطاب الماركسي، وإجراء تعديلات على أنظمتها الداخلية، وطريقة تعبئتها لأعضائها، بعضها سعى لتغيير اسم حزبه، تماشياً مع متطلبات المرحلة وتَبدلاّتها الجارفة.

5) شَكلّ التوقيع على اتّفاقيات أوسلو ضربةً موجعةً لليسار، وأدى إلى انقسام سياسي، حَيثُ عارضت الجبهتان الشعبيّة والديمقراطية الاتّفاق، فيما أيده حزب الشعب الفلسطيني. وأبدى استعداده للمشاركة في السلطة والتماهي مع خطابها، وأدى تشكيل السلطة إلى إضعاف قوى اليسار المعارضة، ولم تستطع القوتان المعارضتان من تشكيل بديل سياسي أَو كفاحي للسلطة، فيما مَثّل تنامي التيار الإسلامي تحدياً جديدًا لليسار، وتصدر المشهد السياسي المعارض للتسوية، بما يملكه من إمْكَانيات مادية وجماهيرية وكفاحية، وملأ فراغاً دأبت على ملأه فصائل اليسار تاريخيًّا.

 

ثانياً/ الإشكاليات الذاتية:

1) لم تسعَ فصائل اليسار، بحكم صيغها الحزبية، للتوسع في صفوف الجماهير، وظلت طريقة تأطيرها لأعضائها صارمةً وانتقائية، ولم تفلح في تبسيط هُــوِيَّتها الفكرية، ليكون بمستطاع الجماهير تَمثّلها واعتناقها. كما ولم تسعَ لتكون فصائل مهيمنة، كما فتح وحماس، وتَحولّت هُــوِيَّتها الفكرية الماركسية إلى عائق أمام توسعها، وقيداً يَحدّ من فعاليتها، وبقيت هُــوِيَّتها نبخوية في الأوساط القيادية، والكوادر العليا.

2) لم تفلح فصائل اليسار في إيجاد صيغة وحدوية، تمكّنها من أن تلعب دوراً مؤثراً في الحياة السياسية في العقودِ الأخيرة باستثناء بعض التجارب الوحدوية في الجامعات (القطب الطلابي)، حَيثُ لم تنجح في تشكيل قائمة انتخابية موحدة في الانتخابات التشريعية عام 2006، وخاضت الجبهة الشعبيّة الانتخابات في قائمةٍ منفردة، بينما خاضت ثلاثة قوى الانتخابات في قائمةٍ واحدة، وحصلت جميعاً على نتائج هزيلة مقابل النتائج التي أحرزتها حركتي فتح وحماس. كما ولم تتمكّن قوى اليسار من بلورة اتّفاق يفضي لخوضها الانتخابات التشريعية التي كان من المزمع إجرائها عام 2021. وذلك نتيجةً لخلافاتها السياسية، وطريقة ترتيب القائمة الانتخابية.

3) واجهت فصائل اليسار، إشكالية انشقاقاتها الداخلية، مما أسهم في إضعافها جميعاً، وإبقائها على الهامش السياسي، ولم ينجح أي فصيل في تاريخه في إعادة رأب الصدع واللحمة الداخلية. وهذه الانشقاقات كانت ناجمة عن الخلافات التنظيمية الحادية بين قادتها ومعسكراتها الداخلية.

4) أظهرت تجربة اليسار عُمُـومًا، إشكالية ترجمتها لمبدأ التجديد النسبي في الهيئات القيادية، لا سِـيَّـما العليا منها، حَيثُ كان التجديد بطيئاً وسطحياً وتجميلياً في أحيانٍ كثيرة. فثمة فصائل بقي أمناؤها العامون في مواقعهم منذ انطلاقتها وحتى اليوم، وثمة أعضاء في المكتب السياسي لم يَتبدّلوا منذ عقودٍ طويلة. الأمر الذي يلقي بظلال من الشكوك حول خطاب اليسار عن الديمقراطية. أما عن تشكيلة تلك الهيئات (عمال، مرأة، شباب… الخ) فقد بدت شكلية ولا تلامس بعمق مزاعم اليسار، حول هُــوِيَّته الفكرية وديمقراطيته الداخلية.

5) تعاني فصائل اليسار، في العقدين الأخيرين، من تَكلّس تقاليدها الحزبية، وشكلية مؤتمراتها واجتماعاتها، وآليات اتِّخاذ القرار، وتآكل مبدأ المركزية الديمقراطية، الذي ينظم حياتها الداخلية، ولم تعد منظماتها القاعدية، تزاول مهماتها التنظيمية التقليدية، وتآكل مفهوم الخلية الحزبية؛ باعتبَاره حجز الزاوية في بنية هذه التنظيمات، وتَعطلّـت أنشطتها التطوعية، وفعالياتها النقابية التي كانت تتسم بها طوال العقود الماضية، مع أفضلية فصائل على أُخرى في جهودها الداخلية لتصويب هذه الحالة، وإعطاء حيز للديمقراطية والتجديد في مفاصل رئيسية في قيادة الحزب والهيئات بشكل واضح ومسؤول كما فعلت الجبهة الشعبيّة خلال مخرجات مؤتمرها الوطني الثامن.

ولا تكفي هذه التوصيفات العامة، لإشكالية فصائل اليسار الفلسطيني، ويتيعن علينا الوقوف ولو بشكلٍ مكثّـف عن كُـلّ فصيل على حدا لعلنا نلقي المزيد من الضوء على أزمة هذه الفصائل.

 

أولاً: الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين:

مَثلّت الجبهة الشعبيّة طوال تاريخها، نموذجاً للحزب الثوري والوطني ذي المواقف الوطنية والسياسية الأصيلة والثابتة، وعَبّرت خلال مسيرتها الكفاحية، عن أعلى درجات المسؤولية الوطنية، وساهمت بدورها الثوري والسياسي في مختلف المحطات، منذ العام 67، ولا تكاد تخلو من محطات النضال من دون أن تضع الجبهة بصمتها عليها، وقَدمتّ خيرة قادتها وكوادرها دفاعاً عن الحقوق الوطنية، كما حافظت على نهجها الكفاحي والسياسي، ولم تحد قيد أنملة عن هذا النهج، وعَبّرت عن انحيازها الكامل للقضية ومعادتها للامبريالية والصهيونية والكيان الصهيوني، ولم تتراجع يوماً عن مواقفها المبدئية. وطوال تاريخها عَبّرت عن نهجٍ وطني ومسؤول في العلاقات الوطنية، ولم تسمح للتوترات أَو التشنجات العصبوية أن تحرفها عن بوصلتها، أَو تدفعها لاتِّخاذ مواقف من شأنها أن تلحق ضرراً بالقضية الوطنية، كما وتجدر الإشارة إلى أن الجبهة مَثّلت بحجمها وكفاحيتها الموقع الثاني على الساحة الوطنية، واعتبرت منافسةً لحركة فتح، ويُسجل لها نجاحها في بناء منظماتها الحزبية والجماهيرية في الأرض المحتلّة، التي لا تزال في حالة اشتباك مع الاحتلال منذ ما يربو على خمسين عاماً.

غير أن الجبهة كباقي فصائل الثورة، اعترت تجربتها التاريخية مجموعة من الإشكاليات، تركت تأثيرها على مسيرتها، وساهمت في إضعاف بنيتها، وأول هذه الإشكاليات، ترتبط بتكوينها التاريخي. فقد ولدت الجبهة الشعبيّة – كما هو معروف – من رحم حركة القوميين العرب، وحمل الفرع الفلسطيني في حركة القوميين العرب، عند تأسيسه للجبهة الشعبيّة، الخطاب القومي العروبي، الذي كان لا يزال مُترسخاً لدى جيل المؤسّسين، والكوادر الأَسَاسية، رغم انهيار الخطاب القومي بعد نكسة 1967.

فقد انطوت تجربة الجبهة الشعبيّة منذ تأسيسها على ثلاثة مركبات: المركب الأول: القومي والثاني: ماركسي، كان قد بدأ بالتَشكّل في رحم حركة القوميين العرب، والثالث وطني مَثلته بعض التشكيلات الوطنية كمنظمة أبطال العودة، وشباب الثأر وجبهة تحرير فلسطين، حَيثُ أخذت هذه المركبات بالتصاريح داخل الجبهة، وأدت إلى بروز خلافات مبكرة.

وتجدر الإشارة إلى أن الجبهة الشعبيّة، كان يتعين عليها وهي في مرحلة التشكيل أن تهضم هُــوِيَّتين فكريتين وليس هُــوِيَّة واحدة: الوطنية الفلسطينية والماركسية، في طريقها إلى التَحوّل إلى حركة وطنية فلسطينية بهُــوِيَّةٍ فكريةٍ ماركسية. وكانت موضوعياً تحتاج إلى وقتٍ للتَحوّل. بيد أن تفاقم الخلافات بين مكوناتها أفضت إلى انسحاب جبهة تحرير فلسطين، وأطلقت على نفسها الجبهة الشعبيّة – القيادة العامة، ومن ناحيةٍ ثانية سارعت مجموعة ماركسية للانشقاق عن الجبهة، وأطلقت على نفسها اسم: الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. *لقد أسهم الانشقاقيون في إضعاف الجبهة الشعبيّة، وهي لا تزال في بداية طريقها، غير أن ذلك لم يعرقل مسيرتها، حَيثُ أعادت ترميم ذاتها، واستكمال عملية التَحوّل التدريجي، وتبني الفكر الماركسي كهُــوِيَّة فكرية للجبهة، إذ ليس من السهل استبدال فكر بفكرٍ آخر إلا بعد مرور وقت مناسب، حَيثُ احتاجت الجبهة لسنواتٍ حتى أخذت تتبلور هُــوِيَّتها الفكرية الماركسية.

غير أن التجربة التاريخية للجبهة، أثبتت غلبة الهُــوِيَّة الوطنية على هُــوِيَّتها الماركسية، وذلك لخضوع الجبهة كسائر الحركات الفلسطينية، لشروط معركة التحرّر الوطني، وانشداد الجبهة لتطوير نهجها السياسي والكفاحي، حَيثُ اقتضت المعركة التحرّرية أن تُكرس جهود التعبئة الداخلية في معظمها لصالح التعبئة الوطنية والسياسية والكفاحية أكثر من الجهود المبذولة على التعبئة الأيديولوجية الفكرية، ووجدت التعبئة والتثقيف الفكري تعبيرها في الأوساط القيادية والكادرية، غير أنها بقيت هامشية تفتقد للعمق في القواعد الحزبية والمنظمات الجماهيرية. وتأثرت الجبهة كسائر حركات اليسار الفلسطينية والعالمية بانهيار الاتّحاد السوفيتي، ودول المنظومة الاشتراكية، مما تسبب لها بأزمةٍ، قادت إلى إعادة النظر والمراجعة لهُــوِيَّتها الفكرية والسعي لتطويرها، ولكن من دون التخلي عنها أَو استبدالها بهُــوِيَّةٍ أُخرى، بل وإعادة التشبث بها وتجذيرها في حياتها الحزبية الداخلية.

أما الإشكالية الثانية التي ظلت تلازم الجبهة لعقود، كانت تَتمثّل في إخفاقها في التَحوّل إلى قوة أولى على الساحة الفلسطينية، أَو الاحتفاظ بموقع القوة الثانية. فرغم تجربتها الكفاحية الثرية، ونجاحها في بناء منظماتها الحزبية في مختلف أماكن التواجد الفلسطيني في الوطنِ والشتات، وكفاءة كادراتها السياسية والتنظيمية والفكرية، غير أنها لم تستطع منافسة حركة فتح، ومواجهة هيمنتها السياسية والجماهيرية، ولم تنجح في تقديم نفسها كبديلٍ سياسيٍ وكفاحيٍ ووطني لفتح، وذلك لأسباب متعددة، أبرزها أن الجبهة لم تسعَ للتَحولّ إلى حزبٍ مهيمن، على غرار فتح، واقتصرت على تجنيد العضوية بصورةٍ كيفية لا كمية، بحكم أنها حزب يُمثّل طبقة ويعتنق هُــوِيَّة فكرية ماركسية، غير أنها افتقدت للإمْكَانيات المادية والجماهيرية والسياسية والعلاقات الإقليمية والدولية، التي تمتعت بها فتح، زد على ذلك همينة حركة فتح على المؤسّسات الوطنية وعلى منظمة التحرير، وبالتالي على القرار الوطني والسياسي والمالي الفلسطيني. ورغم معارضتها الواضحة لنهج فتح السياسي لم تتمكّن الجبهة مع حلفائها من الجبهات والحركات من مواجهة نهج فتح، وتجلى هذا العجز بعد توقيع اتّفاقيات أوسلو ونشوء السلطة، حَيثُ أحجمت الجبهة عن الدخول في صراعٍ مع فتح، واكتفت بمعارضة الاتّفاق سياسيًّا وكفاحياً.

أما الإشكالية الثالثة، فَتمثّلت في إخفاق الجبهة في قيادة قوى اليسار الفلسطيني، بوصفها الفصيل اليساري الأكبر، وعجزت عن توحيدها، وتشكيل القوة الثالثة على الساحة السياسية، ولم تثمر جهودها، وجهود بقية قوى اليسار، طوال أكثر من ثلاثة عقود، في إيجاد صيغة أَو شكل وحدوي، يُعبّر عن هُــوِيَّة قوى اليسار ونضالها الديمقراطي والاجتماعي والوطني، حَيثُ تَتحمّل الجبهة الشعبيّة أكثر من غيرها، المسؤولية عن تشظي هذه القوى، وإخفاقها في التصدي لمهامها الوطنية والديمقراطية والاجتماعية، مما سمح بتنامي حدة الاستقطاب في الساحة السياسية بين حركتي فتح وحماس.

ساهمت هذه الإشكاليات، إلى جانب عوامل أُخرى كالملاحقة والضربات التي تلقتها على أيدي الاحتلال، وأزمتها المالية المزمنة في تاجع الجبهة وإضعافها، وأدت إلى تراجع أدائها على كافة الأصعدة.

 

ثانياً/ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين:

تتقاطع إشكاليات الجبهة الديمقراطية كَثيراً مع إشكاليات الجبهة الشعبيّة، التي لا داعي لإعادة ذكرها خَاصَّة على الأصعدة الفكرية والسياسية. غير أن ثمة إشكاليات خَاصَّة بالجبهة الديمقراطية ميزت تجربتها، وأعاقت من نموها وكفاءتها وفعلها الكفاحي، وأول هذه الإشكاليات تتصل بمزاعم الجبهة، أنها نجحت في التَحوّل إلى حزبٍ ماركسي لينيني، يتهيأ لقيادة مرحلة تحرّرية، فيما بدت كحزٍب ماركسي صغير، وهُــوِيَّته الفكرية متأصلة لدى القيادات العليا والوسيطة في الحزب، ولم تتغلغل إلى قواعدها الحزبية، المحدودة أصلاً، بشكلٍ يمكنها في التَحوّل إلى قوةٍ سياسيةٍ مؤثرة.

وثاني تلك الإشكاليات، خاضت الجبهة الديمقراطية منافسةً حادةً مع التنظيم الأم المنشقة عنه، أي الجبهة الشعبيّة، إذ لم تستطع طوال تاريخها، من التفوق على الجبهة الشعبيّة في أي ميدان: لا في السياسة ولا في التنظيم، ولا في التجربة الكفاحية.، حَيثُ بقيت تجربتها هامشية ورصيدها الكفاحي متواضعاً، ولسد هذه الثغرة، دأبت الجبهة الديمقراطية على تضخيم أفعالها ودورها وحجم قواعدها الحزبية، حَيثُ بدت تجربة الديمقراطية، كثيرة السُمنة، قليلة العضلات، واتضح أن انشقاقها عن الشعبيّة، لم يضف قيمة كبيرة للمعركة التحرّرية، أَو يمنحها القوى الكافية للتأثير والهيمنة والتوسع.

وثالث تلك الإشكاليات، تعتبر سياسية، إذ بقيت الديمقراطية تتأرجح سياسيًّا بين فتح والجبهة الشعبيّة في مواقفها السياسية (البرنامج المرحلي عام 1974، خطة خارطة الطريق عام 2003… إلخ)، وهو ما جعلها دائماً على يمين الجبهة الشعبيّة من ناحيةٍ سياسية، وآخر تلك الإشكاليات فداخلية، إذ إن الديمقراطية لم تقُدم في ممارستها الديمقراطية الداخلية، نموذجاً في ضوء بقاء أمينها العام في موقعه منذ العام 1969، إلى جانب أكثرية أعضاء مكتبها السياسي منذ سنواتٍ طويلة، فبدى اسمها “الجبهة الديمقراطية” لا يُطابق ممارستها ولا شعارتها.

 

ثالثاً: حزب الشعب الفلسطيني:

اعترت التجربة الشيوعية الفلسطينية، مجموعة من الإشكاليات أَدَّت إلى إحداث تقطعات في مسار هذه التجربة، من دون أن يتاح لها مراكمة إنجازات وخطاب متماسك، وتجذر في المجتمع الفلسطيني رغم عراقة وثراء نضالات الشيوعيين، وريادة منظماتهم الحزبية.

وتعود الجذور الأولى للشيوعيين، في تشكيل الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1919، على أيدي بعض المهاجرين اليهود الروس الذين هاجروا كمستوطنين، وحملوا معهم انتماؤهم وأفكارهم، ومع أن الحزب فتح عضويته للعرب واليهود، غير أنه لم يحقّق توسعاً كَبيراً في المجتمع الفلسطيني، لأسباب متعددة، أولها أنه وبخلاف الأحزاب الشيوعية العالمية التي تَشكّلت محلياً، فَـإنَّ تشكيل الحزب الشيوعي الفلسطيني، جاء على أيدي مهاجرين يهود، رأى فيهم المجتمع الفلسطيني كمستعمرين، وثانيها تَشكّل الحزب في خضم الصراع بين الفلسطينيين والمستعمرين الصهاينة، ولم يكن لمعادَاة الشيوعيين للصهيونية، ولا دعوتهم لإقامة دولة اشتراكية للعرب واليهود، أية أصداء مؤثرة، وهو ما هيأ لانشقاق الحزب إلى حزبين عام 43: عصبة الشيوعيين والحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، وبقي الحزبان تحت المظلة السوفيتية، وثالثها تأييد الشيوعيين لقرار التقسيم عام 1947، وذلك بخلاف الموقف الشعبي والسياسي الفلسطيني العام الرافض لهذا القرار.

أدت محطة النكبة عام 48، إلى تشظي الحالة الشيوعية، وتوزعها على ثلاثة أقاليم فلسطينية: الحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، والحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة، والحزب الشيوعي الأردني في الضفتين الشرقية والغربية، وأسهمت هذه المحطة في انقطاع في مسار التجربة الشيوعية الفلسطينية، أفقدتها القدرة على مراكمة الخبرة والتجربة الموحدة، علاوةً على تناقضها واختلافها السياسي فيما اندمج الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” في نسيج اللعبة السياسية “الإسرائيلية” ومحدّداتها، وإن مَثّل اتّجاهاً معارضاً لممارسات السلطة الاحتلالية، فيما اعترت التجربتان الشيوعيتان الفلسطينية والأردنية بعض الإشكاليات الموضوعية والذاتية، رغم نجاح الحزب الشيوعي الأردني في بناء منظمات حزبية فاعلة غطت معظم مناطق الضفة طوال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، قبل أن تبدأ بالتلاشي والانقسام في أواخرِ السبعينيات.

وتَتمثّل الإشكالية الشيوعية الفلسطينية في تلك المرحلة، في خضوعها التام لمحدّدات السياسة السوفيتية، من دون أن تجترح تجربتها الخَاصَّة في مرحلة التحرّر الوطني، وقد كانت تسمح لها تلك العقود من الضعف والترهل في الحالة الوطنية والسياسية، لا سِـيَّـما في عقدي الخمسينيات والستينيات، في تبوأ موقع القيادة للعملية التحرّرية الوطنية.

شَكلّت عملية إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1982 فرصةً في إعادة ترميم تهتك المنظمات الشيوعية، وإعادة تفعيلها من جديد، وبما تملكه من خبرةٍ ورصيدٍ في الأنشطة التنظيمية والسياسية والنقابية والجماهيرية، غير أن انطلاقتها الجديدة لم تسهم في استعادة الحزب لحضوره السابق، وظل يواجه إشكالية تنامي وتوسع الفصائل الوطنية الثورية، والتي انتهجت الكفاح المسلح والمقاومة بشتى أشكالها لمقاومة الاحتلال، علاوةً على توسع المنظمات الثورية اليسارية (الجبهتين الشعبيّة والديمقراطية) ومنافسة حضوره السياسي والأيديولوجي والنضالي والنقابي والجماهيري، فاندمج الحزب في الحالة الوطنية، ولكن من موقع الحزب الهامشي، وركز على أنشطته الجماهيرية والاجتماعية والأهلية، ومَثلّت له الانتفاضة الأولى، فرصةً للانخراط والتوسع في الأنشطة والفعاليات الميدانية، لكنه لم يحصد المزيد من النجاحات، والتوسع في صفوف الجماهير، بعد انخراط مجمل المكونات الحزبية الفلسطينية في الانتفاضة الشعبيّة.

شَكلّ سقوط الاتّحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، ضربةً موجعةً للحزب وأفقدته صوابه، وأفصحت عن تناقضاتٍ داخليةٍ حادةٍ داخل هيئاته، التي سارعت لتغيير اسم الحزب، والنأي عن الخطاب الشيوعي بمفرادته التقليدية، والاقتراب من الخطاب اليساري الأُورُوبي، مع الإبقاء على بعض من الرابطة الهشة مع الفكر الماركسي التقليدي، أي أنه أراد تكييف نفسه وشعاراته مع المتغيرات، وعَبّر عن خطاب فضفاض يجمع ما بين الهُــوِيَّة اليسارية الرخوة، والديمقراطية الاجتماعية والموقف السياسي المعتدل، واندمج في السلطة وخطابها بعد اتّفاقيات أوسلو، ووجد بالمرحلةِ الجديدة، فرصةً للبقاء والتقدم، مع أنه لم يحصل على أي مقعدٍ في المجلس التشريعي في الانتخابات الأولى سنة 1996، رغم مقاطعة الفصائل اليسارية للانتخابات، فيما تمكّن من الحصول على مقعدٍ واحدٍ في الانتخابات الثانية عام 2006 بالتحالف مع الديمقراطية وفدا، حَيثُ أظهرت هذه النتائج البائسة ضعف وهشاشة بناه التنظيمية وخطابه السياسي والأيديولوجي.

وتُمثّل الخلافات التنظيمية، إحدى أوجه أزمة الحزب المزمنة، حَيثُ قادت قبل عقدين إلى انشقاقٍ في داخله، وحملت المجموعة المنشقة اسم “المبادرة الوطنية” ويُعاني الحزب حَـاليًّا من عدم قدرته على الخروج من تحت عباءة السلطة، ومواقفه شبه متماهية مع مواقفها السياسية وخطابها العام.

 

رابعاً: المبادرة الوطنية:

تقوم فكرة المبادرة الوطنية، على أَسَاس مشروع “التيار الثالث”، الذي تنضوي بين جناحيه مجمل القوى اليسارية والديمقراطية والوطنية، التي تسعى لإحداث تغييرات في المجتمع الفلسطيني، وبنيته التقليدية، وتصحيح المسار السياسي والوطني في المرحلة التحرّرية الوطنية.

غير أن ارتكاز حركة المبادرة على شخصية قائدها “مصطفى البرغوثي” وافتقادها للهُــوِيَّة الفكرية الواضحة، وخطابها السياسي المتأرجح بين اليمين واليسار، وعدم السماح بتطوير هيئاتها وآفاقها وآليات عملها، أفقدها القدرة على “المبادرة”، واختزلت الفكرة بمواقف وخطاب قائدها، وبدت حركة يعبر عنها فرد، وفرد يعبر عن حركة من دون أن تحمل صيغة مشروع ناضج يُقدم للجماهير، وهي حالة فريدة في التجربة الحزبية والسياسية الفلسطينية.

وقد حاولت المبادرة الوطنية، النأي في خطابها عن تبني هُــوِيَّة فكرية محدّدة، وانطوت تجربتها وخطابها على نزعة في التَحوّل إلى قوةٍ سياسيةٍ كبيرة توازي فتح وحماس، أَو بالأحرى وراثة كُـلّ المكونات السياسية العلمانية واليسارية، بوجهٍ علمانيٍ وديمقراطي، يطمح للإمساك بزمام السلطة، أَو المشاركة فيها، ولكن من دون دفع استحقاق التضحيات اللازمة التي تهيئها للقيادة أَو الهيمنة، فطوال عقدين من ظهورها لم تٌقدم حركة المبادرة، إلا النزر اليسير في النضال الوطني الثوري، في مرحلته التحرّرية، أي أنها افتقدت للتجربة الكفاحية الحقيقية، ولم تُقدم من الشهداء والأسرى والجرحى، إلا أعداداً قليلةً لا تكاد تذكر، وهو ما يعني احجام الحركة عن (التورط) في أي عمل ينطوي على دفع أثمانٍ شخصية، وبقيت أنشطتها وفعاليتها ومواقفها تتأرجح عند الحدود الفاصلة بين النضال السياسي والشعبي المعتدل. مع محاولة التغطية عن هذا النقص بظهور مسؤولها المكثّـف على وسائل الإعلام وفي جميع الفعاليات والأنشطة والمؤتمرات والمنابر، وتبني خطاباً سياسيًّا معارضاً للسلطة وممارساتها، حَيثُ لم يوفق رئيسها في الانتخابات الرئاسية، وحاول استثمار النسبة التي حصل عليها من الأصوات، تحت عنوان أن (نهجه يُمثل القوة الثانية على الساحة)، ولم يطل الوقت حتى كشفت انتخابات العام 2006 عن مستوى ضعف المبادرة بحصولها ع لى مقعدٍ واحد، بالتحالف مع بعض القوى المستقلة.

وباختصارٍ شديدٍ، ينبغي إعادة النظر في مقولة ” التيار الثالث” واقتصار الفكرة على القوى اليسارية والديمقراطية الوطنية الفاعلة، مع العمل على صياغة هُــوِيَّة فكرية واضحة المعالم لهذه القوى، والسعي لجسر خلافاتها السياسية وتبني موقفاً واضحًا من السلطة، وأن تعمل على أَسَاس أنها قوى معارضة لهذه السلطة، إن أرادت أن تُشكّل نموذجاً وطنياً يحمل مضموناً طبقياً واجتماعياً وسياسيًّا موحداً، مع الأخذ بعين الاعتبار أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الدولة، وإنما لا نزال في مرحلةِ التحرّر الوطني، مما يقتضي إدراك شروط هذه المرحلة، والسعي لدفع استحقاقاتها، والتصدي لمهامها وأعبائها، حَيثُ تملك قوى اليسار خبرة كافية في التصدي لمهمة التحرّر الوطني.

* القائد العام لكتائب أبو علي مصطفى والأسير في السجون الصهيونية منذُ 20عاماً

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com