من مذكرات ضابط.. ما قبل ثورة 21 سبتمبر..بقلم/ عبد القوي السباعي

 

لا زلت أتذكر ذلك اليوم المشؤوم، نهضت باكراً كما هو المعتاد، مرتدياً بزتي العسكرية المدججة بالنجوم المذهبة ونياشين الصاعقة والمظلات ووسام الشجاعة والواجب.. قاصداً الذهاب إلى مقر عملي في أحد المعسكرات في العاصمة صنعاء، حين فاجأتني والدتي ومن بعدها زوجتي، التي ما لبثت أن تشبثت بي طالبةً مني خلع ما عليا من بزةٍ عسكرية، وتستحلفني بعدم الذهاب إلى المعسكر، وإن كان لا بُـدَّ من مغادرة المنزل، مع إصراري، فليكن، ولكن بالزي المدني.

ووسط مشهدٍ تراجيدي صاخب، وأثناء محاولتي تبسيط الأمر وشرح ما هما عليه من المبالغة التي اعترتهما نتيجة أخبار البارحة، تلقيت اتصالاً هاتفياً من مكتب القائد، يشير إلى أنه وبناءً على توجيهات القيادة العليا: (يمنع منعاً باتاً حضور العسكريين أَو مغادرتهم المعسكرات أَو التجوال بالزي العسكري، كما يمنع التنقل عبر الوسائل والعربات التي تحمل أرقام الجيش والشرطة أَو المموهة، وأن أي مخالف لهذا التعميم يتحمل جناية نفسه وتبعات ذلك)، يا للهول.. كيف خرج الموضوع عن السيطرة، إذاً الأمر جدّ خطير.. لست وحدي ممن نزل عليهم هذا القرار كالصاعقة، إذ كيف أمكن لقيادةٍ وطنية أن تتساوق مع هكذا تعميم يضرب نفسيات تابعيها في مقتل.

لا تستغربوا إذَا تقدم أحدهم مؤكّـداً لكم أن الأنظمة السياسية بسلطاتها المتعاقبة والحاكمة لليمن ومنذُ قيام ثورة الـ 26 من سبتمبر 1962م، حتى إلى ما قبل ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م، عمدت على إضعاف القوة العسكرية الدفاعية والأمنية وإفراغها من مهامها الوطنية وواجباتها الدستورية، بكل قُبح ووحشية لا نظير لها في التاريخ، فتارةً كانت تطفو إلى السطح عبر مذكرات خَاصَّة لبعض من عايش تلك الأحداث والوقائع، وتارةً أُخرى ظلت حبيسة الصدور وطي الكتمان والنسيان المتعمد.

وعلى الرغم من أن العقدين الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين كانا بمثابة العصر الذهبي للقوة العسكرية اليمنية (جيشاً وقوات أمنية)، بدعم ومباركة سعوديّة وأمريكية، إلا أنها كانت الفترة الأكثر انحرافاً في مسار الاستهداف البنيوي الداخلي لهذه المؤسّسة الوطنية العملاقة، في إطار المسعى التخريبي والنفسي لمنتسبيها، هنا قد يجادلني أحدهم حول هذه الجزئية وسيقول: “كان عندنا مؤسّسة عسكرية هائلة، وجيشٌ قويٌّ ومرهوب الجانب، تنظيماً وتدريباً وتسليحاً، ويشهد بذلك العدوّ قبل الصديق”.

سأقول: نعم، ولكنها مؤسّسة عملاقة في ظاهرها، عملاقة في ميزانيتها وموازنتها، عملاقة في عتادها وعديدها، غير أنها كانت مفرغة العقيدة القتالية، مجزأة الهُــوِيَّة الوطنية، مسلوبة الإرادَة، مفككة الانتماء للأرض والقضية، فكانت كُـلّ وحدةٍ عسكرية تبعاً لقائدها، وقد شهد التاريخ القريب كيفية هذا الانقسام، إذ صار من الطبيعي أن تسمى الألوية والوحدات بأسماء قادتها، فمثلاً (فرقة علي محسن، حرس أحمد علي، معسكر الضنين، معسكر عبد إلاه القاضي، وحدات محمد إسماعيل، ومعسكر القشيبي، ولواء خليل، ولواء صادق، وَ… إلخ)، والتي كانت تشهد في فترات متقطعة صراعاتٍ بينية تبعاً لتضارب المصالح والأهداف لقاداتها.

ولا يزال التاريخ يشهد على ذلك حتى اليوم وفي ظل تواجد هذه النفايات داخل معسكر تحالف العدوان الأمريكي السعوديّ، إذ لا تزال تلك الصراعات وتضارب المصالح قائمة، فنشاهد صراع الأجنحة الإخوانجية مع العفاشية، والطغمة مع الزمرة، وهكذا.

ولعل لعنة الأموال السعوديّة التي تطاردهم لن تنتهي فواقع الحال، يؤكّـد أن السعوديّة ومنذ عقود من المبادرة الخليجية المزمنة، عملت وساهمت على دعم وتشكيل وتسليح القوة العسكرية اليمنية بشقيها الدفاعي والأمني، بل إنها كانت هي من تدفع موازناتها لكثير من السنوات، سواءً مباشرةً أَو في إطار اللجنة السعوديّة الخَاصَّة.

وبحسب اعترافات السعوديّون وعملائهم في البلد، بل وكانوا يتفاخرون بذلك، بدعوى (ما أحد يكره الفائدة لصاحبه)، بل كانوا يتباهون بتلقي رواتب شهرية وهبات ومعونات سعوديّة، وسجلت الاعترافات أن السعوديّة كانت تدفع رواتب شهرية لأكثر من أربعين ألف شخصية يمنية موزعين في مراكز مختلفة من رئيس الدولة إلى أصغر فراش في رئاسة الجمهورية، إضافة إلى برلمانيين وسياسيين ورجال دين ومشايخ ووجهات قبلية.

وفي ظل هكذا وضع كان النظام السعوديّ هو من يقترح القادة، ويشرف على تموضع الوحدات وانتشارها في المناطق، وكان يتدخل في نظام التجنيد، ويشرف على عقد صفقات الأسلحة، باعترافات العملاء أنفسهم، إلا أنهُ متى شعر النظام السعوديّ بإمْكَانية سطوع نجم هذه القوة، يقوم بالإيعاز إلى عملائه ممن يقودوها إلى تدميرها من الداخل في إطار التدمير الممنهج والتخريب المنظم، وإغراقها في مستنقع الفساد والإفساد والتحصيل المادي، وُصُـولاً إلى إقحامها في حروبٍ داخلية عبثية وتحت عناوين مختلفة، مُرورًا باستهدافها داخلياً وإفراغها من مسؤولياتها الدستورية، وزرع العداوة البينية فيما بينها وحاضنتها الشعبيّة، وانتهاء بهيكلتها وتفكيكها وبإشرافٍ سعوديّ أمريكي.

كلّ ذلك كان يأتي تزامناً مع الاستهداف النفسي والمعنوي لمنتسبيها، بدءًا بالإقصاء والتهميش للكوادر الوطنية، وُصُـولاً إلى الاغتيالات الإرهابية المنظمة، وما جرائم قتل وذبح الجنود في المحافظات الجنوبية والشرقية، وجريمة ميدان السبعين وكلية الشرطة، وحوادث إسقاط الطائرات واستهداف الطيارين عنكم ببعيد، وُصُـولاً إلى الاستهداف الإرهابي لوزارة الدفاع التي تمثل الرمز السيادي، بل وصل الأمر أن يفترض على كُـلّ جندي يريد الانتقال بين محافظات الجمهورية أن يخفي هُــوِيَّته العسكرية بداخل حذائه في ذلةٍ ما بعدها ذلة.

عُمُـومًا فهذه الأحداث وغيرها قد لا تكون غائبة على الكثير من أبناء وطني، لكن إذَا ما أردت أن تدرك حقيقة لماذا جاءت ثورة الـ 21 سبتمبر 2014م..؟، ولماذا حاولت أمريكا والسعوديّة إجهاضها في مهدها..؟، فقط انظر اليوم.. إلى تموضع القوة العسكرية (الدفاعية والأمنية)، على خارطة المجد والشرف، وجغرافية السيادة والاستقلال، وإحداثيات العزة والكرامة، ستدرك الحقيقة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com