استشهادُ الإِمَام زَيْد عَلَيْهِ السَّلامُ ..بقلم/ صَالِح مُقْبِل فَارِع

وأخذت الشمسُ في الأفق تميل نحو الغروب، وأخذت تميل معها شمس التضحية والفداء، وألقى الليل بظلامه على التلال، ونشر أجنحته على السهول والجبال، وخرست الألسن ونطقت الأسنة وحمحم الموت، وباتت الكوفة كئيبة حزينة حين لطخها أهلها من جديد بعار الخيانة والغدر.

وأثناء ذلك الصمت الرهيب صعد إلى مكان مرتفع شخصان مجرمان من الرماة البارعين وثالثهم قائد الجيش الأموي الأمير العباس المزني أحد كلاب جهنم وحطبها، فرأوا الإِمَام زَيْداً يصول ويجول في الميدان، لا ينازله فارس إلا جندله، ولا يقابله بطل إلا قتله، ولا يعترضه رجل إلا أرسله إلى جهنم وعجّل بمَنِيَّتِه إلى النار، فقال العباس لصاحِبَيه راشد وكيسان: أما تريان ذلك الشخص لا أحد يقف أمامه؟ ولم يعرف أنه زيد. قالا: بلى، قَالَ: عليكما به، وكانا لا يعرفان زيداً حينها.

فتناول أحدهما “راشد” أَو “داوود بن كيسان” قوسه وسهمه، وسدّده على الإِمَام زَيْد، وحين أحكم رميته، أطلق سهمه الغادر، وليته لم يطلقه، فانطلق السهم من رميته يشق الهواء وينفض الغبار فاستقرّ في الشق الأيسر من جبهة الإِمَام زَيْد وجبينه الأغرّ.

فلما أحس الإمام بلذعة السهم القاسي في جبينه صرخ بصوت مرتفع قائلا: الشهادة، الشهادة، الحمد لله الذي رزقنيها!

فهرع أصحابه إلى المكان الذي صدر منه الصوت في وسط حالة من الذهول، فلما أتوه رأوا الإِمَام زَيْد عَلَيْهِ السَّلامُ مصابا، والدم ينزف من جبهته والسهم مستقر فيها.

وكان الوقت غروب الشمس، وهو الوقت المعتاد لإيقاف المعركة لتتجدد صباحا.

عندها شكّل جيش الإمام حَلَقة حول الإمام حتى حجبوه عن أنظار العدوّ، وبدأوا بالتراجع بشكل غير ملفت، والانسحاب من أرض المعركة.

واستغل الجيش الأموي فرصة التراجع لجيش الإمام، لكي يتمكّن أفراده من التقاط أنفاسهم، وجمع فلول جيشهم المبعثر، فأغمدوا سيوفهم وبدأوا بالتراجع.

ولم يستشعر أحد من الجيش الأموي الكارثة التي حلّت بأصحاب الإمام، وظنوا أنما الأمر مُجَـرّد تراجُع للمبيت، فجعلوا يحصون قتلاهم وينظمون صفوفهم لخوض معركة الغد القريب.

 

️ وفَاضَتِ الروحُ المقدَّسة:

انسحب أصحاب الإمام من أرض المعركة وأخذوا معهم الإِمَام زَيْد الجريح..

ولما وصلوا دور أرحب وشاكر دخلوا متخفين في إحداها، دخلوا بيت حران بن كريمة “مولى لبعض العرب” القاطن في “سكة البريد”.

ثم أرسلوا إلى الطبيب “سفيان” أَو “شُقير” لكي يعالجه.

وكان الإِمَام زَيْد في حِجْر محمد بن سلمة الخياط، وعلى يمينه يحيى بن زيد، وبين يديه محمد النفس الزكية.

فلما وصل الطبيب أخذ يفحص الإِمَام زَيْداً عَلَيْهِ السَّلامُ ويمسح الدم من على جبينه مرة بعد أُخرى، فرأى السهم قد وصل الدماغ، ولا أمل في الحياة، وظهرت ملامح الخوف على وجهه.

فقال له الإمام: ما الأمر أيها الطبيب؟! هلا نزعت السهم! فالألم يزداد بشدة؟!

فقال له الطبيب: إن نَزَعتُه من رأسك مُتْ.

فقال زيد: الموتُ أهونُ علَيّ مما أنا فيه.

فتدخل يحيى بن زيد قائلاً: أيها الطبيب؟! حاول أن تفعل له شيئاً.

فقال الطبيب: يا بُنَي ليس بين والدك والرحيل عن هذه الدار إلا نزع هذا السهم، فالسهم قد بلغ الدماغ.

عَلِم يحيى بأن والده ميتٌ لا محالة ولم تَبْقَ في حياته إلا لحظاتِ نَزْعِ السهم فقط، فشهق شهقة اهتز لها جسمه ودمعت عيناه، ثم أَكَبَّ على والده يُقبّلُه، ويودّعه، وينظر إليه نظرة الوداع الأخيرة، فخاطب أباه قائلا: ابْشِر يا أبتاه، سَتُقْبل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ، وعلي، وفاطمة، وخديجة، والحسن، والحسين، وهم عنك راضون.

فقال له الإِمَام زَيْد عَلَيْهِ السَّلامُ والألم قد بلغ منتهاه:

صدقتَ يا بُنَي، ولكن ماذا ستفعل بعدي؟ فأيّ شيء تريد أن تصنع؟

فقال يحيى بن زيد: أُجاهِدُهم يا أبي، والله ولو لم أجد إلا نفسي.

زيد: نعم يا بُني، جاهِدْهم، فَوَاللَّـهِ إِنَّكَ لَعَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنَّ قَتْلاكَ فِيْ الْـجَنَّةِ، وَقَتْلاهُم في النارِ.

تلك هي وصية الإمام، وذلك هو ميراثه: إحياء شرع اللّه، والتصدي للظالمين، وحب الخير للناس، والتضحية في سبيل ذلك.

ثم ردّد الإمام الشهادتين، وأشَارَ للطبيب أن ينزع السهم.

فأخذ الطبيب الكلبَتَين فانتزعه، فما إن أخرجه حتى فاضت الروح المقدسة إلى بارئها لتتقاضى الثمن الموعود به، ﴿إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِيْنَ أنفسهُمْ وَأموالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُوْنَ فِيْ سَبِيْلِ اللّه فَيَقْتُلُوْنَ وَيُقْتَلُوْنَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ والقرآن وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُوْا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيْ بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيْمُ﴾.

رحمك الله يا زيد، وسلام الله عليك.

وكان ذلك ليلة الجمعة، 25 من شهر محرم الحرام عام 122هـ، بعد أن تَعَمّر 47 سنة على أصح الأقوال.

وقال سلمة بن الحر بن الحكم، في قتل زيد:

وأهلكْنا جحاجحُ من قُريشٍ

فأمسى ذِكرهم كحديث أمس

وكـنّا أُسَّ مُـلكهمُ قـديماً

ومـا مُـلكٌ يقوم بغير أُسِّ

ضـمنّا مـنهم نكلاً وحُزناً

ولـكن لا مـحالة من تأسِّ

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com