التهافُتُ الدولي على مضيق باب المندب.. بوابةُ دموع اليمن

جغرافيةُ اليمن الجاذبة وجزره المتناثرة وعمقُه التراثي أسبابٌ منطقية لطمع الأعداء فيه

المسيرة – أحمد داوود

تواجِهُ الدولُ المطلةُ على مضيق باب المندب، ومنها بلادُنا الكثيرَ من المخاطر والتحديات، وتشتركُ جميعُها في الفقر والانقسام والتشظي، وعدم الاستقرار، مع أنها تطل على أهم الممرات المائية في العالم، وفي باطنها الكثير من الثروات النفطية والغازية، ولو قُدِّرَ لها أن تتحَد وتأمَنَ المؤامرات الدولية لعاشت في وضع مختلف عن هذا تماماً.

ونظراً لأهميّة البحر الأحمر عُمُـومًا، فقد تحول إلى منطقة صراع استراتيجي تسبح فيه الغواصات النووية جنباً إلى جنب الأسماك التي تعيش عليها الدول الفقيرة المطلة عليه وَخَاصَّة على شاطئه الغربي، كما أن المدخل الجنوبي للبحر الأحمر (باب المندب) ظل وعلى مدى قرون مضت، ولا يزال إلى يومنا هذا، مطمعاً للقوى العالمية والإقليمية، بغية السيطرة عليه والتحكم بحركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وحتى يومنا هذا فَـإنَّ الدول العظمى والكبرى والإقليمية، عملت على إنشاء قواعد عسكرية لها في الدول المطلة على المضيق (جيبوتي، إرتيريا)، كما أن العدوان الأمريكي السعوديّ على اليمن الذي بدأ في 26 مارس آذار سنة 2015، كان من ضمن أهدافه الخفية، السيطرة على الجزر والموانئ اليمنية؛ كي تتمكّن من التحكم على المضيق؛ بحجّـة حماية الأمن القومي العربي.

وعلى مدى قرون مضت، ظل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر (باب المندب)، ولا يزال إلى يومنا هذا مطمعاً للقوى العالمية والإقليمية، بغية السيطرة والتحكم بحركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، حَيثُ يحتل المضيقُ المرتبة الثالثة عالميًّا بالأهميّة بعد مضيقي ملقا وهرمز، إضافة إلى امتلاك اليمن للعديد من الجزر ذات الموقع الهام تضاعف من الأهميّة الاستراتيجية لموقعه البحري، وبشكل خاص جزيرة سقطرى.

ويقع مضيق (باب المندب) بين دولتَي اليمن وجيبوتي، ويفصل بين قارتَي آسيا وأفريقيا، ويتوسط القارات الخمس، وما يميزه أنه يصل البحرَ الأحمر بخليج عدن، وبحر العرب، والمحيط الهندي من جهة، والبحر الأبيض المتوسط من الجهة الأُخرى، كما يأتي اليمنُ في قلب مشروع “الحزام والطريق” أَو ما يعرف بـ “طريق الحرير”، نظراً لأهميّة موقعه، وامتلاكه عدداً من الموانئ، والجزر المتناثرة وعددها 130 على هذا الطريق، مثل ميناءَي عدن والمخاء اللذين يتوسطهما مضيق باب المندب، وجزيرة بريم التي تتوسط المضيق.

ويتحكم مضيق باب المندب في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، ويقع بين الزاوية الجنوبية والغربية لشبه الجزيرة العربية، وبين شرق افريقيا، وهو يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي، كما تكمن أهميّة مضيق باب المندب الجيوسياسية بتأثيره سياسيًّا واقتصاديًّا في محيطه الإقليمي، وعلى الكيانات السياسية صاحبة المصلحة في البحر الأحمر، إذ يشكل باب المندب الممرَّ الرئيسَ لنقل النفط والمواد الحربية، والتجارية، في داخل البحر الأحمر وإلى أُورُوبا عبر الجهة الشمالية عن طريق قناة السويس ومن ثم البحر المتوسط.

ووفقاً لإحصائيات عالمية يعد بابَ المندب أكثرَ ممر تسير فيه السفن التجارية وناقلات النفط، حَيثُ يستحوذ على 7 % من الملاحة العالمية ونحو 13 % من إنتاج النفط العالمي و10 % من تجارة الغاز الطبيعي المسال و21 ألف سفينة وناقلة تمر في الاتّجاهين وتعبر منه حوالي 12 مليون حاوية سنوياً هذا، بالإضافة لكونه بوابة عبور السفن عبر قناة السويس وتلك التي تمر إلى أُورُوبا والدول التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، ووفقاً لتقرير عملية مسح جيولوجي أمريكي عام 2002م فَـإنَّ النفط غير المنقب في منطقة باب المندب لوحدها يفوق 3 مليارات برميل، وهذا ما يؤكّـد مما لا يدع مجالاً للشك أن الحرب على اليمن هي حربٌ للاستيلاء على ثروات اليمن من النفط والغاز.

ويستمدُّ مضيقُ (باب المندب) أهميتَه كنقطة اختناق كثيف للشريان البحري، من موقعه في نهاية الطرف الجنوبي للبحر الأحمر الذي يعد أقصر طريق بحري يربط بين الشرق والغرب بحكم خصائصه الجغرافية؛ لذا فَـإنَّ أهميتَه ترجعُ إلى تحكمه في التجارة العالمية بشكل عام بين الشرق والغرب، كما يكتسب المضيق الذي يتحكم في الوصول إلى البحر الأحمر والطرف الجنوبي لقناة السويس، أهميّةً خَاصَّةً في الوقت الراهن؛ بسَببِ اعتماد مصر على الغاز الطبيعي المسال المستورد للحفاظ على إمدَاداتها من الكهرباء، حَيثُ تتجه ناقلة واحدة من الغاز الطبيعي المسال إلى مصر كُـلّ أسبوع من خلال عبورها المضيق.

وبالنظر إلى وقائعِ التاريخ، فقد حاول البرتغاليون، والبريطانيون، والفرنسيون، والإيطاليون، وغيرهم، أن يكون لهم موطئُ قدم يطل أَو يشرف على هذا المضيق، في حين لا تزال القوى العالميةُ في عصرنا هذا، كالأمريكيين، والصينيين، والإسرائيليين، والإيرانيين، والأتراك، وغيرهم، تتقاطرُ إلى هذا الموقع الاستراتيجي الهام، وتحاول بناء قواعد عسكرية تشرف وتتحكم عليه.

ونظراً لأهميّة موقع اليمن، فقد كان محل صراع وتنافس دولي على امتداد السنوات الماضية الكثيرة، ولهذا تواجدت بالقرب من مضيق باب المندب القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية، وظلت أهميّة باب المندب محدودة، حتى تم افتتاح قناة السويس عام 1869م، وربط البحر الأحمر، وما يليه بالبحر الأبيض المتوسط، فتحول إلى واحدٍ من أهم ممرات النقل والمعابر على الطريق البري بين بلدان أُورُوبية في البحر المتوسط، والمحيط الهندي شرقي أفريقيا.

ومما زاد من أهميّة الممر أن عرض قناة عبور السفن تقع بين جزيرة بريم اليمنية والبر الإفريقي هو 16 كيلو متراً، وعمقها 100-200 متر، مما يسمح لشتى السفن، وناقلات النفط عبور الممر بيسر على محورين متعاكسين متباعدين.

وَازدادت أهميّةُ مضيق باب المندب كذلك بوصفه واحداً من أهم الممرات البحرية في العالم، مع ازدياد أهميّة نفط الخليج، حَيثُ يقدر عدد السفن وناقلات النفط العملاقة التي تمر في الاتّجاهين بأكثر من (21000) قطعة بحرية سنوياً (57) قطعة يوميًّا، ولهذا فقد ظل هذا الموقع الجيوستراتيجي ملهماً للقوى العالمية لغزو واحتلال اليمن، وسردية التاريخ عامرة بمغامرات هؤلاء الغزاة، بدءاً بطلائع جنود الاسكندر الأكبر، ومُرورًا بالعديد من المحتلّين الأُورُوبيين، والآسيويين، والأفارقة، وليس انتهاء بالعدوان الأخير على اليمن، فجغرافية اليمن الجاذبة، وجزره المتناثرة المهمة، وعمقه التراثي، وخيراته الوفيرة، هي أسباب منطقية لجلب الأعداء إليه.

 

مخاطرُ إغلاق المضيق

تدركُ دولُ العالم أهميّةَ مضيق باب المندب؛ ولذا نجدُها تتدافع إلى الدول المطلة عليه، وتبني القواعد العسكري حمايةً لمصالحها، ولمنع أية محاولة لإغلاقه من قبل أي طرف.

ويتسبب غلقُ المضيق بتحويل حركة الملاحة إلى رأس الرجاء الصالح، وَإذَا تمت عرقلة العبور، لن يكون -أمام هذه الشحنات وجميع السفن الأُخرى المتوجّـهة إلى مصر والبحر الأبيض المتوسط- أي خيار سوى القيام برحلة طويلة حول الطرف الجنوبي من أفريقيا.

ويبقى السؤال الأبرز هنا: ما المخاطر الناجمة عن إغلاق مضيق باب المندب؟ وما تأثيرات ذلك على دول العالم؟

بالتأكيد كما أسلفنا، فَـإنَّ إغلاقَ المضيقِ سيكون له الكثير من المتاعب والتداعيات السلبية والإيجابية على عدد من الدول، ففي تقرير للجمعية العامة لاتّحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية بعنوان: “إغلاق باب المندب، زلزال استراتيجي دولي” بتاريخ 23 مارس 2022، يشير التقرير إلى أن روسيا لا تملكُ مصالحَ كبيرةً في حوض البحر الأحمر، وأغلب التجارة الروسية تأتي من البحر الأسود باتّجاه شرق ووسط أفريقيا، كما أن الحركةَ التجارية من شرق آسيا باتّجاه روسيا والعكس، تكون برية؛ بسَببِ اتصالها الجغرافي.

ويرى التقرير أن من أهم المكاسب الروسية في إغلاق مضيق باب المندب ما يلي:

  • المزيد من تعطيل إمدَادات الطاقة باتّجاه أُورُوبا.
  • زيادة اعتماد دول الاتّحاد الأُورُوبي على النفط والغاز الروسيين.
  • ارتفاع كبير في أسعار الطاقة يخدم المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا
  • ارتفاع إمْكَانية إيجاد موطئ قدم روسية في حوض البحر الأحمر.
  • تقليص فرص تملص الإمارات والسعوديّة من اتّفاقات أوبك.
  • ازدياد أهميّة قاعدة حميميم الجوية، وطرطوس البحرية، ضمن مشاريع روسيا لزيادة نفوذِها في شمال أفريقيا ووسطها.

لكن في المقابل، لن تكونَ الولايات المتحدة الأمريكية في أحسن حال من إغلاق مضيق باب المندب، ولا سيما إذَا استمر إغلاقُه وقتاً طويلاً.

وبحسبِ التقرير فَـإنَّ إغلاقَ المضيق يعد بشكل من الأشكال ضربةً لاستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة كما في مواجهة الصين، حَيثُ سيتسبب الضرر بسمعة أمريكا كحامية للمضائق والممرات المائية الدولية، وسيعرقل حركة الأساطيل العسكرية الأمريكية بين الخليج العربي والبحر المتوسط، وفي حال مواجهة أمريكية إيرانية، ستتمكّن إيران من الاستفراد بالأسطول الخامس للولايات المتحدة في بحر الخليج، كما أن من المحتمل أن يؤديَ إغلاق باب المندب إلى تعزيز دور تنظيم حركة الشباب في الصومال، مقابل الحكومة التابعة للولايات المتحدة في مقديشو.

ولا يقل الضررُ الذي سيلحق بالصين عن الولايات المتحدة، إذ أن معظمَ تجارتها مع أُورُوبا يمر عبر مضيق باب المندب، ولهذا فسوف تعطل سلاسل التوريد مع دول حوض البحر الأحمر، وشمال أفريقيا، وشرق المتوسط، وأُورُوبا، وسيكون من الصعوبة استبدالُ الصين الممر المائي للبحر الأحمر، بممر بري عبر الإمارات؛ لأَنَّها ستصطدم بالمصالح الهندية، لذا الاحتمال الأكبر أن تعمل على تعزيز استثماراتها في سلطنة عمان، كبديل بري للبحر الأحمر.

ويرى التقريرُ أن إغلاقَ باب المندب، يعتبر كابوساً تخشى منه دول الاتّحاد الأُورُوبي، لا سِـيَّـما في هذا التوقيت بالذات، وهي في مواجهة مع روسيا؛ لأَنَّ إغلاق المضيق سيوقف صادرات الطاقة من دول الخليج إلى أُورُوبا، وسيؤدي إلى زيادة اعتماد دول الاتّحاد الأُورُوبي على صادرات الغاز والنفط الروسيَّين، كما سيتم تعزيز الموقف الاستراتيجي الروسي في أُورُوبا.

أما بالنسبة للدول الإقليمية فَـإنَّ أبرز المتضررين من إغلاق مضيق باب المندب هو كيان العدوّ الصهيوني، فقد شكل باب المندب عقدة صهيونية خلال الحرب مع مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

ويتأثر الكيان الصهيوني – بحسب التقرير- في مستويات عدة في حال إغلاق المضيق:

  • قطع الملاحة البحرية الصهيونية مع الصين والهند.
  • قطع الملاحة البحرية الصهيونية مع الدول الخليجية المطبِّعة.
  • انقطاع الموارد النفطية الخليجية عن الكيان.
  • انقطاع الواردات من المواد الغذائية الأَسَاسية من الهند، بشكل أَسَاسي.
  • انقطاع الواردات الصناعية والتكنولوجية من الصين والهند.
  • تعطيل قدرة سلاح البحرية الصهيوني على تنفيذ عمليات ضد إيران في بحر العرب والمحيط الهندي.
  • تعطيل المشاريع الصهيونية في تحويل جزيرة سقطرى إلى مركز للتجسس الإقليمي، والعمليات الخَاصَّة في القرن الإفريقي وضد إيران.
  • تعزيز موقف إيران في بحر العرب والمحيط الهندي والقرن الإفريقي.

وبشأن السعوديّة، يشير التقرير إلى أن للرياض مشاريعَ استثماريةً ضخمةً على سواحلها المطلة على البحر الأحمر، وإغراق سفينة صافر على وجه التحديد، قد يتسبب بضرر هائل لهذه المشاريع، وهذا سيعرض مكانة السعوديّة في المنطقة سياسيًّا وعسكريًّا للاهتزاز، وسيؤدي إلى تلوث الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية بالكامل.

ويعد العامل الأهم في إغلاق مضيق باب المندب أنه سيؤدي إلى انقطاع الكمية الأكبر من الإمدَادات النفطية السعوديّة إلى مختل دول العالم، لا سِـيَّـما أن ميناء ينبُع لا يستحوذُ سوى على نسبة ضئيلة من حجم الصادرات النفطية.

وبناءً على ما تقدم فَـإنَّ إغلاقَ باب المندب سوف يتسبَّبُ بزلزال استراتيجي على المستوى الدولي، وسوف يشكّل حالة تحول استراتيجية إقليمية ودولية، خَاصَّةً في ظل المتغيرات التي تعصف بالعالم.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com