قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي في الدرس السادس من عهد الإمام علي لمالك الأشتر: الوظيفة عند الكثير أن يحصل على المال لأجل واقعه المعيشي وهذا أمر خطير وأثّر تأثيراً سلبياً على واقع الناس

 

يجب أن يكون القضاة على أرقى مستوى وأفضل رعيتك في نفسك

يفترض أن يتم اختيار الذين يدخلون معهد القضاء وفق معايير في مختلف المجالات للتأهيل في هذه المسؤولية

بعضُ الإبداعات والابتكارات لها أهمية كبيرة ويجب أن يُتعامل مع الإنجاز بشكل موضوعي وعادل وهذا يشجع الكل

القضاة والعاملون في القضاء بحاجة إلى دعم ورعاية لأنهم يواجهون في عملهم القضائي الكثير من استفزازات الناس

لا تنسب جهدَ شخص إلى غيره فيحسب لذلك الغير ويحسب له الإنجاز وهذا خطأ

من أكبر الآفات في هذا الزمن بالعمل القضائي في مختلف البلدان العربية الرشوة والأطماع المادية التي تؤثر على الفصل في القضايا بالعدل والحق

 

أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالْأَخَـوَاتُ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

كُنَّا وصلنا بالأمس إلى الحديثِ عن معاييرِ اختيارِ قَادَةِ الجنود، والكوادرِ التي يُعتَمدُ عليها في المسؤولياتِ العسكريَّةِ والأمنية، وقرأنا بعضاً من تلك المعايير:

  • في مقدِّمتها: أن يكونَ من يتولَّى مثلَ هذه المسؤوليات ممَّن يُؤمَّلُ فيهم، بأنهم الأكثرُ إخلاصاً، وصدقاً، ونصحاً، والأكثر أمانة، وسلامةً للصدر، وسلامةً مما يشين في السلوكيات العامة، والجوانب الأخلاقية.
  • والأفضلُ حلماً، والحلم من متطلبات المسؤوليات الأَسَاسية، والإنسان الحليم هو الذي لا يستفزه الغضب، ولا يعبث به الطيش، وَأَيْـضاً لا يستخفه هوى النفس، فهو منضبط في حالة الغضب، ويتعامل بمقتضى الحكمة، والعدل، والحق، وليس وفقاً للغضب وحالة الانفعال، وتحدَّث الإمام علي “عَلَيْهِ السَّـلَامُ” عن ذلك بقوله: ((مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إلى الْعُذْرِ)).
  • وكذلك أن يكون إنساناً متزناً في مشاعره وتصرفاته.
  • وأن يكون رؤوفاً بالضعفاء، وقوي الشخصية تجاه الأقوياء، الذين قد يستغلون نفوذهم وشخصياتهم القوية لفرض ما هو ظلم، أَو خطأ، أَو باطل، أَو تجاوز.
  • وأيضاً قال: ((وَمِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ))، في كُـلّ ما تفيده هذه العبارات، سواءً في تماسك الإنسان أمام الأهوال والشدائد، أَو في اتِّزانه عند الأمور التي تزعجه وتثير انفعاله، فهو ليس متهوراً، وكذلك أمام الأحداث والظروف مع الواقع الصعب، أَو كذلك ممن لا يضعف عند المهام الصعبة والتحديات الشديدة.
  • ثم تحدَّث عن أهميّة الاعتماد بشكلٍ أكبر على ذوي المروءات، المروءة في الإنسان هي عندما تترسخ فيه مكارم الأخلاق، وبذل المعروف، مع الترفع عن الرذائل وسفاسف الأمور، والإنسان إذَا تربَّى على ذلك، يصبح الخير عنده عادة، وتصبح مكارم الأخلاق في نفسه سجية، ومواصفات أصيلة لا يتكلفها، أصبح متطبِّعاً عليها، وآلفاً لها؛ وبالتالي يسهل عليه الالتزام بذلك.
  • وكذلك أهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، والأحساب، يعني: الذين يتوارثون مكارم الأخلاق، ويتربون عليها، وينشؤون عليها، فهي أصيلةٌ فيهم، وأصبحت بالنسبة لهم طبيعة وسجية وراسخة في أنفسهم، يسهل عليهم الالتزام بها، والثبات عليها.

ثمرة كُـلّ ذلك، مع قوله: ((أَهْلِ النَّجْدَةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ))، كُـلّ هذه المواصفات ثمرتها في ذوي المسؤولية ممن يتصفون بها: أنهم سيكونون على مستوى القدرة اللازمة للأداء للمسؤولية، والنهوض بها، والتحمل للشدائد والصعوبات والتحديات، والوفاء، والثبات، والاتساع للأفراد في إطار مسؤولياتهم، للجنود، واحتوائهم، واستيعابهم، والعناية بهم، مع الاطمئنان إلى وفائهم، وثباتهم، وجهدهم، وعطائهم، فيمثلون عوناً حقيقيًّا في مواجهة التحديات، وهذا ما تقتضيه طبيعة هذه المسؤولية: المسؤولية الأمنية، والمسؤولية العسكرية.

ثم قال “عَلَيْهِ السَّـلَامُ”:

 ((ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا))

تَفَقُّد الرعاية الأبوية، التي فيها اهتمام بأمورهم وظروفهم وأحوالهم، والعناية بهم في ذلك.

 ((وَلَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ))

لا يكبر عليك وتعتبره فوق استحقاقهم، أَو تعتبره غير مهم، كُـلّ ما يمكن أن يقويهم، أن يكونَ سبباً لقوتهم، وهذا يشمل العناية بهم على المستوى المعنوي، والتربية الإيمَـانية، وعلى مستوى التدريب والتأهيل، وكل ما يساعد على رفع قدرتهم العسكرية، وتقويتهم في أداء مهامهم العسكرية والأمنية.

 ((وَلَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ))

لأنه من المهم العناية بهم، سواءً على مستوى الأمور المهمة والكبيرة، أَو على مستوى الأمور التي قد يعتبرها الإنسان من الأشياء البسيطة غير الضرورية، أَو في حال الظروف الصعبة، قد يستقلُّ الإنسان تقديم بعض المعروف، أَو الاهتمام ببعض الأمور؛ لأَنَّه يعتبرها قليلة، وهو -في نفس الوقت- لا يمتلك في ذلك الظرف، أَو في تلك الحال، ما يمكن أن يساعدهم به، أَو أن يرعاهم به، أَو أن يعتني بهم من خلاله، فيستقله؛ فيتوقف، وهذا ليس بصحيح، مفترض أن يقدم الإنسان كُـلّ ما فيه لطف، ورعاية، ويعبِّر عن العناية بهم، والاهتمام بهم، هذا له أهميّة كبيرة في أن يشعروا بالمساندة، والاحتضان، والدعم، والاهتمام بأمرهم.

 ((فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إلى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ))

للعناية بهم في أمورهم الكبيرة والصغيرة، والاهتمام بهم المعنوي والمادي، والرعاية الشاملة لهم، وإشعارهم وتحسيسهم بهذا الاهتمام بأمرهم، له أثره الكبير في أن يبذلوا النصيحة، أن يعملوا بجد، أن يتفاعلوا، أن يكونوا ناصحين، وصادقين، وجادين، وكذلك في حسن الظن بك، وهذا له أهميته الكبيرة؛ لكي يكونوا مطمئنين نحوك، لا يشكون بمدى اهتمامك تجاههم، أَو يستشعرون عدم مبالاتك بهم، أَو يتوهمون أنك غير مكترث بأحوالهم، عندما يلمسون من جانبك الاهتمام، والمبادرة، والعناية، سيحسن ظنهم بك، ويطمأنون إليك، وهذا له أهميته في اهتمامهم العملي، في جديتهم العملية، في استجابتهم للتعليمات والتوجيهات، وتفاعلهم على المستوى العملي.

 ((وَلَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ، اتكالا عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ))

لا تعتمد فقط على الاهتمام بهم في الأمور الكبيرة، وتقول: لا داعي للعناية بهم في الأمور الصغيرة، احرص على أن تكون رعايتك لهم شاملةً في الأمور الكبيرة والأمور الصغيرة، ولكل ذلك أثره على المستوى النفسي، وعلى المستوى المعنوي، وهناك أهميّة كبيرة فيما يتعلق بمسؤولياتهم الأمنية والعسكرية، وتنفيذهم للمهمات الصعبة، في أن يشعروا بالعناية بهم، بالدعم المعنوي، كُـلّ هذا ليشعروا بالاهتمام بهم، فيمثل ذلك دعماً معنوياً يرتاحون به؛ فينطلقون في مهامهم العسكرية والأمنية بروحٍ معنويةٍ عالية.

الإنسان مثلاً قد يتصور في بعض الأمور أن ليس لها أهميّة، وقد تمثل أهميّة كبيرة، مثل: زيارة الجريح، أَو إيصال هدية إليه، أَو العناية بأسرته، أَو… على مستوى أمور قد يتصورها الإنسان أموراً عادية، ولكنها ذات أثر معنوي رائع، يساهم في رفع المعنويات، في الاطمئنان، في الشعور بتقدير الجهود… إلى غير ذلك.

 ((وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ))

ليكن آثرهم: يعني أعلاهم منزلةً عندك، وأكثرهم اعتماداً عليه من رؤوس الجند، من مسؤوليهم وقادتهم، من يساعدهم بمعونته، ويهتم بهم، ويرعاهم.

 ((وَأفضل عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ، بِمَا يَسَعُهُمْ وَيَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ))

يعني: من يسعى لتوفير احتياجاتهم واحتياج أهليهم من ورائهم كذلك.

هذا النوع من القادة، الذي عنده اهتمام كبير بأفراده، بجنوده، يسعى للعناية بهم، للعناية بأهليهم وأسرهم، ليكن عندك أعلاهم منزلةً، أكثرهم اعتماداً؛ لأَنَّه يؤدي مسؤوليته بشكل صحيح، ويلحظ هذه الجوانب المهمة.

للأسف كان المعتاد مثلاً في كثير من الجيوش العربية؛ لأَنَّها مبنية على أُسُسٍ غيرِ صحيحة، ومبنية على الاهتمام بدعم الأنظمة فقط، وليست للشعوب، ولا تبنى على أسس إيمَـانية، ولا أسس صحيحة، فكان من المعروف في واقعهم أن الكثير من القادة عادة ما يسعون إلى أن يأخذوا من الأفراد مما هو مخصصٌ لهم، مثلاً: من رواتبهم، من اعتمادهم المالي، من تغذيتهم، من نفقاتهم، وأن يختلسوا عليهم ما يستطيعون، وما يتمكّنون منه، بحسب ما يمتلكون من الحيلة في ذلك، والبراعة في النصب والاحتيال، وأصبحت هذه ظاهرة في كثير من الجيوش، ولها تأثيرها السيء على معنويات الجنود.

الجنود عندما يشعرون تجاه قادتهم ومسؤوليهم أنهم حريصون على العناية بهم، على الاهتمام بأمرهم، على توفير احتياجاتهم بقدر ما يستطيعون، مهتمون برعاية أسرهم وأهليهم، سيكون لهذا أثر إيجابي، ويمثل عاملاً مهماً في الاطمئنان، وفي نفس الوقت في العلاقة الإيجابية ما بين القادة والجنود، العلاقة الوثيقة، وفي نفس الوقت سيكون لذلك أثره في اهتمامهم بالعمل، وتفرغهم لمهامهم القتالية في الميدان، وهم في حالة إيجابية على المستوى النفسي والمعنوي، كُـلّ همهم يتجه نحو تنفيذ مهماتهم، والقيام بمسؤولياتهم، ليسوا منشغلين بظروف أهليهم؛ لأَنَّه عندما يكونون منشغلين بظروف أهليهم، يمثل هماً مزعجاً، ومشتتاً لتركيزهم واهتمامهم بمهامهم القتالية والأمنية.

 ((حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ))

عندما يكون هناك اهتمام بأهليهم وأسرهم، لا تبقى حالتهم النفسية والذهنية منشغلة وقلقة، ومتألمة لوضع أهليهم وأسرهم، يتجه كُـلّ اهتمامهم إلى جهاد العدوّ، والتصدي للعدو، وتنفيذ المهام الأَسَاسية لهم.

 ((فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ))

عطفك عليهم، واهتمامك بأحوالهم وظروفهم، وظروف أهليهم، يعطف قلوبهم إليك بالمحبة، والاطمئنان، والثقة، وحسن الظن، ويكون لهذا أثر كبير في استجابتهم العملية، وتنفيذهم لمهامهم، واطمئنانهم إليك، إلى توجيهاتك، إلى أوامرك؛ لأَنَّهم يلحظون منك أنك محبٌ لهم، وناصحٌ لهم، وتريد الخير لهم، فسيطمئنون تجاهك، أنك في محل الثقة، لن تجازف بهم في غير ما ينبغي، لن تتعامل معهم بلا مبالاة بهم في الميدان وفي تنفيذ المهام؛ لأَنَّهم قد لمسوا منك حرصك على العناية بهم، والاهتمام بهم، وهذه الثقة لها أهميّة كبيرة في تفاعلهم معك في ميدان العمل، واستجابتهم لك في تنفيذ المهام، بما فيها المهام الصعبة، والتي يواجهون فيها تحديات ومخاطر كبيرة.

 ((وَإِنَّ أفضل قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلَاةِ استقامة الْعَدْلِ فِي الْبِلَادِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ))

هذا معيار مُهِـمٌّ للنجاح في أداء المسؤولية، له هذه النتيجة وهذا الأثر في نفوس الناس:

  • ظهور مودة الرعية، تظهر مودتهم؛ لارتياحهم على الأداء العملي، ولما يلمسونه من الاهتمام، والجدية، والنصح، والإخلاص، في أداء المسؤولية في خدمتهم، والعناية بأمورهم وشؤونهم.
  • وأيضاً استقامة العدل؛ لأَنَّه شيءٌ أَسَاسيٌّ، هو أصلاً الهدف العملي الرئيسي من أداء المسؤولية: استقامة العدل.

فعندما تتحقّق في الواقع استقامة العدل، وتظهر مودة الرعية، فهذا ذروة النجاح، ومعيارٌ مُهِـمٌّ لمستوى النجاح، وهذا ما تقر به عين الولاة، الذين يتولون المسؤوليات بدافعٍ إيمَـاني، وليس بدافع المكاسب الشخصية، والأهواء، والأطماع، والرغبات، بل يتجهون في ذلك من وعي، وبشعورٍ بالمسؤولية لخدمة الناس، فهم يستشعرون أنهم نجحوا في تنفيذ مهامهم، بما تحقّق من العدل، وبما ظهر من مودة الرعية، فتقرُّ أعينهم بذلك، وترتاح أنفسهم، وترتفع معنوياتهم، ويؤدون مسؤولياتهم بطاقة عملية كبيرة؛ لأَنَّهم يلمسون النجاح الكبير.

بينما مثلاً: إذَا كانت الحالة حالة مختلفة، كانت البيئة التي يعمل فيها الإنسان، ويؤدي فيها مسؤوليته، بيئة مشحونة بالسخط، والاستياء، والنظرة السلبية، فهذا له أثر حتى على معنويات الإنسان وهو في موقع المسؤولية؛ لأَنَّه يرى أُولئك الذين يتحَرّك في خدمتهم، والاهتمام بأمرهم، ساخطين عليه، مستائين منه، معقَّدين عليه، فسيكون لذلك الأثر السلبي حتى على معنوياته، على اهتماماته.

فهذه العلاقة ما بين المسؤولين وما بين المجتمع علاقة مهمة، كيف تكون علاقة من خلال حسن أداء المسؤولية، تظهر هذه الثمرة، تتحقّق هذه النتيجة: في ((استقامة الْعَدْلِ))، وفي ((ظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ)).

 ((وإِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ، إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ))

وسلامة صدورهم تأتي من خلال حسن الأداء، التعامل وفق هذه القيم، وفق هذه المبادئ، بالتأكيد سيكون لذلك أثره الإيجابي في نفوس الناس، إلَّا من كان لديه دوافع تعقِّده، دوافع أُخرى؛ أمَّا من بقي على فطرته الإنسانية، فالتعامل وفق هذه القيم، وفق هذه التعليمات، وفق هذه المبادئ العظيمة، سيكون له أثره وثمرته الإيجابية في نفوسهم.

 ((وَلَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ، إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ))

لا يتفاعلون بنصح، ويستجيبون بجد، إلَّا عندما تكون نظرتهم إلى ولاة الأمور نظرةً إيجابية، وعلاقتهم بهم علاقةً إيجابية، يلمسون منهم الاهتمام بأمرهم، والعناية بهم، وصدورهم تجاههم سليمة، ليسوا معقَّدين لهم، ولا مبغضين لهم، ولا مستثقلين لهم ولدولتهم، بل يعتبرونهم مسؤولين صالحين، يهتمون بخدمة الناس، يؤدون مسؤولياتهم بالشكل الصحيح، بالمستوى المطلوب، فلذلك هم في حالة رضاً عنهم، وليسوا في حالة سخطٍ عليهم.

أمَّا إذَا كانت صدورهم مشحونةً بالاستياء منهم، فهم يستثقلونهم، ويستثقلون دولتهم، ويعتبرونهم مشكلةً عليهم، ولا يرون فيهم أنهم يقدِّمون ما يقدِّمون، ويعملون ما يعملون بنصح وصدق وجد؛ وبالتالي ليسوا مهتمين بهم، بل إنهم يستبطئونهم، ويحرصون على انقطاع مدتهم، ويتمنون زوالهم ونهايتهم، العلاقة السلبية خطيرة جِـدًّا ما بين المجتمع وما بين المسؤولين، وهي عندما لا يكون هناك تعامل على أَسَاس القيم والأخلاق، هذه القيم والأخلاق العظيمة.

 ((فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ))

 ((فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ)): هي تشمل العلاقة الإيجابية معهم، التي يؤمِّلون فيك من خلالها الخير، آمالهم فيك آمالاً واسعة، وآمالاً طيِّبة، وأملهم فيك أملهم واسع، وكذلك تشمل من جانبك أَيْـضاً تجاههم التشجيع لهم على الإبداع، والعناية بهم فيما يتعلق بالارتقاء العملي، أن تشجعهم على الإبداع، وأن ترتقي بهم في أدائهم العملي، وتتجه باهتماماتهم العملية نحو ما هو أفضل، نحو ما هو أرقى، نحو ما يحقّق النتائج الإيجابية في أدائهم العملي، وفي نجاحهم في تنفيذ مهماتهم وأداء مسؤولياتهم.

 ((وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ))

وَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وبطريقة صحيحة، يعني: بطريقة لا تنمِّي فيهم حالة الغرور والعجب، مثلاً: مع الثناء عليهم ذكِّرهم بأنَّ ذلك أَيْـضاً من توفيق الله لهم، وشجِّعهم بطريقة تعدد فيها ما أبلى ذوو البلاء منهم، تَذْكُر نجاحات معينة، إنجازات معينة، مواقف بطولية معينة، وتشيد بها، وتذكِّرهم بأنها من توفيق الله لهم.

 ((فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أفعالهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ))

عندما تقدِّر جهودهم، تقدِّر أعمالهم، تقدِّر تضحياتهم، تشيد بها، تذكِّر بأنها أَيْـضاً من التوفيق الإلهي لهم، لهذا أثره الإيجابي في رفع معنويات الشجعان منهم، وفي تحريك نشاطهم بشكلٍ أوسع وأفضل وأكبر.

 ((وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))

ولها أهميّة في تحريض النَّاكِل: المتثاقل، المتأخر، قد يتشجع وينشط، ويتحَرّك بشكلٍ أفضل.

 ((ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى))

اعرف لكل شخص منهم ما بذله هو من جهد، ما حقّقه من إنجاز.

 ((وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إلى غَيْرِهِ))

هذه قضية خطيرة جِـدًّا، عندما تشيد بجهود شخص، وتحسبها لشخصٍ آخر، تصادر جهده وإنجازه، وتحسبه لشخصٍ آخر؛ سيحطمه، وسيؤلمه، وسيقتل روح الإبداع في غيره، سيقتل روح الإبداع في غيره؛ لأَنَّهم يلحظون أنَّ ما بذلوه من جهد، وما حقّقوه من نتيجة، يحسب لغيرهم، فيشاد بذلك الغير، ويحسب له الإنجاز.

 ((وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلَائِهِ))

لا تحطمه، وتحاول أن تقلل من قيمة جهده وإنجازه، تقول: [هذا عمل بسيط، هذا إنجاز عادي، هذا يمكن لأي شخص غيرك أن يفعله].

 ((وَلَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إلى أَنْ تُعْظِّمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً))

 ((شَرَفُ امْرِئٍ)): له مثلاً قيمته الاجتماعية، أَو منزلته الاجتماعية، أَو مستوى منصبه، أَو مسؤوليته، يدعوك ذلك إلى أن ((تُعْظِّمَ مِنْ بَلَائِهِ))، يعني: من جهده وعطائه وعمله، ((مَا كَانَ صَغِيراً))؛ إنما مجاملةً له، أنت تجامله وتعظِّم أعمال صغيرة، أَو إنجازات بسيطة، فتضخمها بأكبر من حجمها؛ مجاملةً له بحسب مستوى منصبه، أَو منزلته الاجتماعية.

 ((وَلَا ضَعَةُ امْرِئٍ إلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً))

ولا مثلاً مستوى منصبه، أَو مستوى دوره، أنه -مثلاً- جندي عادي، أَو في مستوى المسؤولية مرتبته مرتبة عادية، ليست مرتبة كبيرة، أَو ليس له ثقله الاجتماعي، لا يدعوك ذلك إلى أن تستصغر من جهده، من إنجازه، من عطائه ما كان عظيماً، يعني: تعامل بموضوعية، مَنْ له إنجاز معين، أَو حقّق جهداً معيناً، وإنجازاً مهماً، تحدَّث عن ذلك بمستواه، لا تنظر إلى الأشخاص، ولا تنظر إلى مراتبهم في المسؤولية، ولا إلى ثقلهم الاجتماعي، تعامل بإنصاف، بصدق، بموضوعية، وهذا يشجِّع على الإبداع، على الإنتاج، على العمل، على الإنجاز، وفي نفس الوقت من الحق، من العدل، من الإنصاف، أن تتعامل وفق الحقيقة، فهذا الذي أنجز وأبدع؛ شجِّعه على إنجازه وإبداعه، وتحدَّث عن إنجازه وإبداعه بمستواه، حتى لو لم يكن في مرتبة من مراتب المسؤولية عالية، وكان جندياً عادياً، أعطه حقه من الإشادة بإنجازه، من التقدير بإنجازه، من تقدير مستوى هذا الإنجاز، وأهميّة هذا الإنجاز، وهذا يعود أَيْـضاً إلى الجانب العملي، لا يخص فقط الإشادة بالذكر، أَو المديح، أَو ما يتعارف عليه مثلاً في الأوساط الحكومية والجيوش والدول من ترقيات وغيرها، بل يشمل مستوى التفاعل العملي؛ لأَنَّ بعض الإنجازات لها أهميّة كبيرة، ولكن من خلال التفاعل معها، والاستفادة منها، بعض الإبداعات والابتكارات لها أهميّة كبيرة، فلا يكون هناك إهمال لها، أَو عدم تفاعل معها؛ لأَنَّ صاحب الإبداع، أَو الابتكار، أَو الإنجاز، إنسان عادي، مثلاً يعتبرونه جندياً عادياً، أَو إنساناً عادياً، ليس له ثقله الاجتماعي، أَو مرتبته العالية في المسؤولية والمنصب، هذا التعامل الموضوعي، العادل، المنصف سيشجع روح الإبداع في كُـلّ من يمتلكون المهارات والقدرات، ويشجِّع الكل.

 ((وَاردّد إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ))

يعني: ما يثقلك، ويشق عليك، وتعيا تجاهه، ويلتبس عليك كيفية التعامل معه.

 ((مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ))

لأن الإنسان قد يواجه تحديات كبيرة، مشاكل صعبة، ظروفاً معقَّدة، يحتاج إلى رؤية وبصيرة صحيحة تجاهها، فلا يتعامل معها بمجازفة، أَو ينهار تجاهها، بل يرجع إلى الله، يرجع إلى هدى الله، يرجع إلى رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”.

 ((فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إرشادهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فَالرَّدُّ إلى اللَّهِ: الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إلى الرَّسُولِ: الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ))

 ((فَالرَّدُّ إلى اللَّهِ))، مع الالتجَاء إليه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والاستعانة به: الاهتداء بهديه، واقتباس البصيرة من نوره، وكذلك (الرَّدُّ إلى الرَّسُولِ) مع القُدوة والتأسِّي بالاستبصار بسيرته وهديه المبارك.

 ((الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ))، يعني: المتفق عليها، الثابتة، ((غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ))؛ لأَنَّ بعض ما روي عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” لا يصح عنه؛ إنما هو مفتراً عليه، كذلك الرجوع إلى أولي الأمر بحسب تراتبية المسؤولية، هذا فيما يتعلق بالجوانب والمسؤوليات العسكرية والأمنية، وهذا جانبٌ مُهِـمٌّ جِـدًّا.

ثم يأتي الحديث عن معايير اختيار القضاة؛ لأهميّة الدور القضائي في ترسيخ العدل، والاستقرار، والأمن في حياة الناس، واستقرار الحياة في كُـلّ مجالاتها.

 ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أفضل رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ))

الجانب القضائي لأهميته الكبيرة، لا ينبغي أن يكون الانضمام إليه، والالتحاق به، والدخول في أعماله بشكلٍ عشوائي، بل ينبغي أن يكون وفق معايير محدّدة، تتناسب مع طبيعة هذه المسؤولية، وهذا العمل، هو عمل حسَّاس، وعمل مهم، ومسؤولية خطيرة، فلذلك لا بُـدَّ من المعايير؛ لأَنَّ من المؤسف جِـدًّا أنَّ البعض يلتحقون بالأعمال القضائية من باب الطمع المادي؛ لأَنَّ الوظيفة بشكلٍ عام أصبحت عند الكثير من الناس وسيلة للكسب المادي، ولإرضاء النفس بالمنصب والسلطة، ولم تعد هدفاً لخدمة الناس، وإرضاء الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، عند الكثير من الناس أصبحت الوظيفة وسيلة للحصول على المكاسب المادية، ولتدبير أمور المعيشة، يريد وظيفةً ليحصل على مال؛ مِن أجلِ واقعه المعيشي، وهذا التوجّـه خطير جِـدًّا، وأثَّر تأثيراً سلبياً على الناس، كثيرٌ من الناس ممن توظَّفوا؛ بهَدفِ الحصول على المال، وتحقيق المكاسب الشخصية، يؤدُّون أدوارهم بشكلٍ سلبي، وبدون أمانة، ويبقى الهمّ المادي هو الذي يحكم تصرفاتهم، ويؤثِّر على أدائهم.

فلذلك قال: ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ))، اختيار وفق معايير معينة، ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ))، والاختيار هذا مثلاً في هذا الزمن، يفترض أن يكون من بداية الأمر، يعني مثلاً: في بلدنا هناك معهد للقضاء، هذا المعهد يفترض أن يتم اختيار من يلتحق به منذ البداية وفق معايير معينة، وليس دخولاً عشوائياً، أَو دخولاً لا يُلحَظ فيه إلَّا جانب واحد، جانب فقط، هو جانب الذكاء، ودرجة معينة يحصل عليها الإنسان، كُـلّ تلك الدرجات حُسِبت بها حالة واحدة هي حالة الذكاء، ومدى استيعاب الإنسان، وحفظه للمسائل، هذا جانب واحد فقط، غير كافٍ في التأهيل لهذه المسؤولية، التأهيل لهذه المسؤولية يجب أن يكون على أرقى مستوى، والسقف في هذا الجانب سقف عالٍ جِـدًّا، قال: ((أفضل رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ))، إلى هذا المستوى؛ لأهميّة القضاء بين الناس، ومن المعروف مثلاً عندنا في اليمن، في كُـلّ العالم العربي، وفي أكثر العالم الإسلامي، أنَّ من أكثر ما يعاني منه الناس: الخلل في الجانب القضائي، هذه مشكلة يصيح منها الناس في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي في أكثرها، يصيحون بشكل كبير جِـدًّا، خلل كبير في هذا الجانب؛ لأَنَّه لا يتم وفق معايير مهمة، ليأتي من يكونون في مستوى هذه المسؤولية وهذا الدور.

 ((أفضل رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ))، ترى فيهم الأفضل من حَيثُ مستواهم الإيمَـاني، والتقوى، ومن حَيثُ هذه المعايير التي ستأتي:

 ((مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ))

على المستوى النفسي: عنده تحمل، لا يؤثر عليه ازدحام المشاكل، والقضايا، وأعباء القضاء، وتزاحم القضايا، فيعيا، ويتحطم، ويضيق.

وعلى المستوى المعرفي: يمتلك المعرفة الكافية للفصل في القضايا، لا يعيا، وتأتيه القضايا لا يعرف كيف يحكم في هذه القضية، وكيف يفصل في تلك القضية.

فهو على المستوى المعرفي وعلى المستوى النفسي ((لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ))، هو في مستوى تحمل هذه المسؤولية.

 ((وَلَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ))

لا يتأثر بشجار المتشاجرين، وخصام المتخاصمين، ويُستَفز من ذلك؛ حتى يتحول هو في طريقة تعامله معهم إلى مخاصم ومشاجر، يتحول إلى مشاجر مع المتشاجرين؛ لأَنَّه يتأثر وينزعج ولا يتحمل، فيتحول إلى مخاصم.

 ((وَلَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ))

هو سريع الرجوع إلى الحق، إذَا زل -يعني: أخطأ- في عمله القضائي، في تعاطيه (تعامله) مع القضايا، فهو سريع الرجوع، ويبادر إلى تصحيح خطئه في أدائه العملي؛ حتى لا يستمر ويتمادى في الخطأ.

 ((وَلَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إلى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ))

لا يعيى ولا يتحرج من الرجوع إلى الحق، إذَا عرف الحق، حتى لو كان قد أخطأ في تقديره للموقف، أَو في حكمه في القضية، أَو في تعامله مع القضية، كان عنده خطأ في ظل مزاولة العمل، في مراجعة الخصوم، والقضية، والأخذ، والرد، والسماع، فكان عنده خطأ معين، أَو في مقدِّمات العمل، أدرك خطأً معيناً، يبادر، فيصحح خطأه على أَسَاس الحق، لا يأنف، لا يأنف حتى يتكبر ويصر على الخطأ، ويصر على الموقف الخاطئ، الحق عنده أهم من كُـلّ شيء.

 ((وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ))

لا يتطلَّع ويُستَمَال بالطمع، يتطلَّع إلى الطمع، وينجذب نحو الطمع والإغراءات المادية، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا؛ لأَنَّ من أكبر الآفات في العمل القضائي، هو: الطمع والرشوة، والناس يلمسون هذه الإشكالية بشكل كبير، كيف تدمّـر العدل، وكيف تضيِّع الحقوق، وكيف تضر بالناس ضرراً بالغاً، من أكبر الآفات في هذا الزمن في العمل القضائي في مختلف البلدان العربية، وفي أكثر العالم الإسلامي: الرشوة، والأطماع المادية، التي تؤثِّر على الفصل في القضايا بالحق والعدل، فالقاضي يجب أن يكون نزيهاً، نزيهاً وعفيفاً، ليس طماعاً ومادياً.

 ((وَلَا يَكْتَفِي بِأدنى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ))

عنده تثبت، وتفهم، ويسعى إلى أن يستوعب القضية بملابساتها وحيثياتها، لا يكتفي بأول فهم، وأطرف فهم للمسألة، وأبسط فهم للمسألة، فيصدر حكمه سريعاً، يتثبت أكثر، ولا يماطل ويتأخر إلى ما لا نهاية.

 ((وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ))

إذا اشتبهت عليه القضية، أَو اشتبه عليه الحكم فيها، فهو يتثبت ويتبين؛ حتى يبني أمره على صحة.

 ((وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ))

هو يعتمد في إصداره للحكم، وفي تعامله مع القضية، على أَسَاس الحجّـة، والدليل، والبرهان، وعنده تمييز للحجج.

 ((وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ))

عنده تحمل للمتشاجرين في تقديم أدلتهم، ومراجعتهم، لا يضيق ويسأم ويمل من ذلك، فيقطع عليهم استمراريتهم في تقديم حججهم؛ لأَنَّه لا يتحمل أن يسمعَ لكل ما يقدمونه من حُجُجٍ، وأدلة، واعتراضات، أَو تبيينات، أَو… ما يجري في الجانب القضائي في: التقديم، والأخذ، فهو والرد، يعطيهم الفرصة لتقديم ما لديهم، الفرصة بالحق يعني، بالعدل، بالإنصاف، بالمستوى الصحيح، إذَا أصبحت المسألة مماطلة، وتضييع للوقت، يكون عنده تمييز وحسن نظر، فيفهم الحالة التي هي مُجَـرّد تضييع للوقت، والحالة التي هي فعلاً تقديم للحجّـة والبرهان، فيعطيهم الفرصة الصحيحة الكافية بالقدر اللازم.

 ((وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ))،

عنده صبر في التعامل مع القضية، بما يصل به إلى الحقيقة قدر الاستطاعة، والاستفادة من كُـلّ ما يساعده على ذلك، ليس متعجلاً جِـدًّا؛ لأَنَّ البعض فيه طبيعة التعجل الزائد، الذي قد يزلُّ به قبل أن يستوفي ما يتعلق بالقضية، والبعض عنده تأخير طويل، وتردّد زائد، وكلا الحالتين خاطئة، حالة التسرع الزائد، وحالة التردّد والمماطلة والتأخير الزائد، وهذه مما يشكي منها الناس، إما تَعَجُّل في غير محله، أَو تباطؤ وتردّد وتأخير يزيد على حجم القضية.

 ((وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ))

 (أَصْرَمَهُمْ) يعني: أقطعهم للخصومة، يفصل، إنسان يفصل، لا يبقى متردّداً، متذبذباً، مماطلاً، عند اتضاح الحق، واستيفاء ما يجب استيفاءه في النظر للقضية، يبادر ويفصل ويحسم المسألة.

 ((مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ))

لا يؤثر على نفسيته الإطراء والمدح وحسن الثناء عليه؛ لأَنَّ البعض من المتخاصمين والمتشاجرين يبدع في ذلك، يمدح القاضي ويثني عليه؛ ليستميله، وليحرجه، وليؤثر على نفسيته في إصدار الحكم لصالحه، ويكثر من ذلك.

 ((وَلَا يَسْتَمِيلُهُ إغراء))

ولا يستميله الإغراء: التحريض والإثارة تجاه الخصم الآخر؛ لأَنَّ البعض من الخصوم أَيْـضاً يبدع في هذا الجانب، في أن يستثيرك على الطرف الآخر بجوانب أُخرى، أَو عبارات، أَو… بطريقة أَو بأُخرى، يستثيرك لتكون خصماً لخصمه، وتقدم مسألة الاستمالة بالإغراء المادي في قوله: ((وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ))، وهنا الإغراء: على حسب التعبير المحلي [المحارشة]، الإثارة على الخصم.

طبعاً من يمتلكون كُـلّ هذه المواصفات ذات الأهميّة الكبيرة، والتي تضمن القيام بهذه المسؤولية الكبيرة على أرقى مستوى، يقول عنهم الإمام عليٌّ “عَلَيْهِ السَّـلَامُ”:

 ((وَأُولئك قَلِيلٌ))

قليلٌ في عصره، فكيف في عصرنا وزمننا؟! قليلٌ جِـدًّا، قليلٌ جِـدًّا، لكنها معايير ذات أهميّة كبيرة، والمُهِـمُّ هو: التربية عليها، التأهيل على أَسَاسها، أن تكون معايير واضحة، محدّدة، يتم العمل على تأهيل قضاة ليكونوا بهذا المستوى، ولو في الحد الأدنى من هذا المستوى يعني، ولو بمستويات متفاوتة، الناس يتفاوتون، ولا يستوون في مستوى مؤهلاتهم، ومستوى التزامهم بهذه المعايير، ومستواهم فيها، يتفاوتون في كُـلّ شيء، حتى في إيمَـانهم، هم بمستويات، قال الله في القرآن الكريم: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}[آل عمران: من الآية163]، هذا واقع البشر.

ثم مع هذه المواصفات والمعايير:

 ((ثُمَّ أكثر تَعَاهُدَ قَضَائِهِ))

يعني: من المهم أن يكون هناك رقابة على القضاء، رقابة للأداء في القضاء، رقابة وتقييم لما يصدره القضاء، وما ينتجه القضاة، وما يصدر منهم من أحكام، أن يكون هناك أَيْـضاً مع التقييم عمل للتصويب، والمعالجة، والملاحظة.

 ((وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إلى النَّاسِ))

احرص في الرعاية المادية أن توفر له احتياجه الضروري؛ حتى لا يؤثر عليه الفقر والحاجة الشديدة، فيستميله الناس عن طريق ذلك؛ لأَنَّ البعض -غير مسألة الطمع الكبير- الظروف الصعبة قد تؤثر عليه، الفقر الشديد قد يؤثر عليه، ليس لأنه شديد الطمع وكبير الطمع، لكن مثلاً؛ لأَنَّ ظروفه صعبة جِـدًّا، قد يؤثر عليه هذا في الجانب المادي، والاستمالة بالمال.

 ((وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ))

القُضاةُ والعاملون في القضاء بحاجةٍ إلى دعم ورعاية معنوية، وليس فقط الاهتمام المادي، بل إلى الدعم المعنوي، والمساندة المعنوية؛ لأَنَّهم يواجهون في عملهم القضائي الكثير من الاستفزازات وردة الفعل، التي عادةً تحصل من جانب الناس.

يقولون عن القاضي شريح، كان قاضياً في عصر أمير المؤمنين عليًّا “عَلَيْهِ السَّـلَامُ”، أنهم سألوه عن حاله: [كيف أصبحت؟]، قال: [أصبحت ونصف الناس عليَّ غضبان]، يعني: كُـلّ من قد حكم عليهم يسخطون عليه.

عادةً في العمل القضائي مع صدور الأحكام على هذا الطرف، أَو هذا الطرف، يكثر الساخطون، وتأتي ردات أفعالهم في الكلام المسيء، والتعبير المسيء… وغير ذلك، فالعاملون في الجانب القضائي بحاجة إلى رعاية معنوية، إلى تقدير لدورهم، لجهدهم، لمنزلتهم، إلى تقدير لمسؤولياتهم، أنها مسؤوليات كبيرة، مهمة، ذات أهميّة كبيرة، بالنظر إلى موقع المسؤوليات وأهميتها، وبالنظر إلى أثرها في الواقع.

 ((وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ))

ليكون مطمئناً من جانبك أنك لن تتسرع في تصديق ما يقال عليه، أَو ما يشي به الواشون عندك تجاهه، يكون مطمئناً تجاهك أنك سندٌ له في الحق، أنك سندٌ له في العدل، أنك ستتثبت مما سيقال عنه، أنك لن تكون سريعاً ومتسرعاً في التجاوب مع حالات الاحتيال والمكر التي يتآمر بها البعض ضده من خلالك؛ ليحاولوا أن يجعلوا منك ذراعاً لهم لضربِه، واستهدافِه وأذيته، وهذه مسألةٌ مهمةٌ جِـدًّا.

مثلاً: العاملون في المجالات التنفيذية والأمنية والعسكرية، لا يجوز لهم أن يكونوا في علاقتهم بالقضاة مخيفين للقضاة، مصدر خوف على القضاة، وأملاً للطامعين، والساخطين، والانتهازيين، والعابثين، الذين لا يريدون العدل، بأنهم سيلتفون من خلالهم، أنه سيحتمي بهذا القائد العسكري، أَو بهذا المسؤول، أَو بهذه السلطة، أَو بتلك الجهة، وباستناده إليها سينتقم من ذلك القاضي، الذي لم يصدر الحكم الذي يعجبه.

 ((لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ، فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً))

لأن جانب القضاء له علاقة كبيرة بالعدل، له علاقة كبيرة باستقرار حياة الناس، يحتاج إلى نظرٍ عميق، إلى اهتمام كبير، إلى عناية كبيرة.

 ((فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأشرار، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا))

ما الذي أضاع كُـلّ هذه المعايير، كُـلّ هذه القيم، كُـلّ هذه المبادئ العظيمة، التي هي مبادئ الإسلام، نظام الإسلام، منهجية القرآن؟ ما الذي أضاعها، ونحن نقرأها من أول ما قرأنا في هذا العهد المبارك، إلى ما وصلنا إليه، وما سنقرأه -إن شاء الله- إلى ختامه، ما الذي أضاع هذه المبادئ، هذه التعليمات، هذه الأسس، هذه المعايير؟

أضاعها الأشرار، الذين عبثوا بالدين؛ حتى فقد الناس الشعور بعظمة الإسلام، بقيمة الإسلام وأثره في حياتهم، بما يمثله من حَـلّ وصلاح في واقع حياتهم، الأشرار أضاعوا كُـلّ هذه المبادئ، كُـلّ هذه الأسس، كُـلّ هذه القيم، وأتوا بالبديل عنها؛ مما ضيَّع العدل، ضيَّع الحق، ضيَّع الأُمَّــة، ضيَّع قيمة الدين وأثره في حياة الناس.

 ((يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى)): بهوى النفوس، ((وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا))، هذا ما أثَّرَ على الناس ويؤثِّر.

فلذلك إذَا أراد الناسُ الخيرَ لحياتهم، والصلاح لحياتهم، والاستقرار في حياتهم، والتغيير لواقعهم نحو الأفضل، فليعودوا إلى هذه المبادئ القرآنية الإسلامية، إلى هذه المعايير، ليصححوا وضعيتهم على أَسَاسها.

أَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيَّاكم لما يُرْضِيْه عنا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com