مع العَلَم القائد في وثيقة العهد «2»..بقلم/ هنادي محمد

 

  • بعد أن تركَّزُ حديثُ العلم القائد -يحفظه الله ويرعاه-في الدرس الأول عن مبدأ القسط والعدل وأهميته في الإسلام والمنطلق الأَسَاس لأداء المسؤولية في الدولة، والمسؤولية العامة في نظام الإسلام وهو “العبودية لله سبحانه وتعالى “والحديث عن المهام الجامعة للمسؤولية والأسس الإيمَـانية، استمر في الشرح في سياق ما أمر به مالك الأشتر، قال “عليه السلام”:

“وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ”: من أهم ما يؤخذ بعين الاعتبار في أداء المسؤولية هو السيطرة على النفس ورغباتها وشهواتها سيطرة قوية؛ لأَنَّ الأخطاء والتصرفات والممارسات السيئة والظالمة منبعها “هوى النفس”، وعندما يكون الإنسان في موقع مسؤولية في أيٍّ من مستوياتها ويتصرف وفق هواه وأطماعه وميوله بدافع الرغبة والشهوة بشكل أَسَاسي يؤثر هذا على الكثير من الناس ويدفعهم إلى الفساد والخيانة والظلم والعمل بطريقة غير صحيحة، وما يبعد الإنسان عن تقوى الله في أداءه لمسؤوليته ويجعله يتجه لاستغلال منصبه وتحقيق مصالحه الشخصية فوق مصلحة العمل هي بمعناه الواسع.

“وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ”: يمنعُ نفسَه بقوة عن الانسياق وراء الرغبات، وهذا يحتاج إلى تذكير النفس بسخط الله وغضبه وعقابه، وتنمية حالة الاستشعار للرقابة الإلهية والخضوع لها في كُـلّ الأحوال، وتذكر العواقب الوخيمة للسير وراء الشهوات والرغبات وما يترتب على ذلك من سلبيات، ويحذر الإنسان في موقع المسؤولية أن يرى أن الظروف قد تهيأت له بأكثر مما كان عليه حاله سابقًا فينطلق ليحقّق لنفسه ما لم يكن يستطيع تحقيقه فيجعل من المسؤولية كفرصة وليست عبادة.

“فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ”: جانب مهم جِـدًّا إذَا لحظه الإنسان وهو يؤدي مسؤوليته سيتجه بنجاح؛ لأَنَّه لاحظ أولاً علاقته بالله، وسيطرته على رغباته وأهوائه وشهواته ثانياً وهذا يساعده على الاستقامة في أداء مسؤوليته وبما يكسبه رضوان الله والأثر الطيب في عباد الله؛ لأَنَّ الاتّجاهَ وراء النفس برغباتها فهي أمارة بالسوء وتأمر صاحبها بما هو معصية وانحراف عن نهج الحق والعدل وبما له تبعات من عذاب الله وسخطه وغضبه فيصبح ممقوتاً مكروهاً من عباد الله.

“ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إلى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةً الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَو كَرِهَتْ”: هنا درساً مهماً جِـدًّا يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار، في ظل المتغيرات في واقع المجتمع وتبدل الحكومات والدول والمسؤولين كثير من الناس يصل إلى موقع المسؤولية والمنصب والسلطة وهو كان من قبل ذلك موطناً عادياً يعيش مع الناس وينظر معهم إلى الحكومة نظرة موضوعية ويقيّم أداءَهم العملي على أَسَاس من العدل أَو الجور، يتكلم عن سلوكياتهم وممارساتهم وتصرفاتهم وسيرتهم وأساليبهم الخاطئة، ويعيش معهم مشاعرهم تجاه المسؤولين سواءً كانت سلباً أم إيجاباً، وعندما يصل إلى السلطة ينسى كُـلّ ذلك ويتعامل بعيدًا عنه ويمارس كُـلّ ما كان ينتقده ويتجاهل الواقع العام، وهذه حالة خطيرة جِـدًّا، لذلك الإنسان عندما يتحَرّك إلى موقع المسؤولية ليدرك جيِّدًا أن مسؤوليته تتعلّق بالناس، يجب أن يحسب حساب علاقته معهم وأن يقدم النموذج الجيد والصالح والراقي، ويأخذ العبرة ممن سبقه في السلطة وكان له أثراً سيئاً على الناس، وذلك لما له من أثر في نجاحه في عمله حينما يجعل من المجتمع عوناً وشريكاً معه، وَإذَا حدث خلاف ذلك فهذا مؤشر على اخطائه وفشله في أداء المسؤولية، ومهم أن يكون عملك صالح وتعتبره أكبر مكسب حتى لا ينحرف بك ويؤثر عليك سلباً، ومن اعتبارات العمل الصالح: أن يكون مطابقاً لشرع الله وبنية صادقة، ومتقَنًا.

“فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ”: امنع نفسك من خطر الانحراف عن العمل الصالح، وحافظ عليها ولا تشوهها بما لا يحل لك؛ لأَنَّ لذلك تبعات وآثار سيئة عليك في الدنيا والآخرة توقعك في العقوبة الإلهية.

“فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَو كَرِهَتْ”: يجب أن تكون منصفاً إذَا أردت أن تصون نفسك وتحافظ عليها مما يشوهك، ولا تتعامل بمزاجك الشخصي، واتجه إلى إصلاح الأخطاء وتلافي الزلات ومعالجة المظالم لتقي نفسك العواقب والتأثيرات السيئة؛ لأَنَّ موقع المسؤولية حساس جِـدًّا قد يورط الإنسان نفسه ورطات كبيرة توصله إلى جهنم؛ بسَببِ أوزاره وذنوبه وآثامه التي ارتكبها تحت مظلة المسؤولية، وليس عيباً أن يصحح الإنسان من نفسه؛ لأَنَّ إنصاف النفس لا يحط من منزلتها وقدرها.

وفيما يأتي بيانٌ لأسس العلاقة مع المجتمع وهي أسس قرآنية مهمة في منهج الإسلام وشريعته ولا وجود لها خارج منهج الله، يقول -عليه السلام-:

“وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ”: القرآن الكريم والتربية الإيمَـانية تربينا على أن نحمل في قلوبنا مشاعر الرحمة للناس والرعية باستمرار في كُـلّ ما ينتج عنها من اهتمام وحرص وعناية بشؤونهم وتفاعل معهم، وهي قيمة إيمَـانية عظيمة يجب أن تتجلى في أدائك وواقعك العملي وتصرفاتك وممارساتك وقراراتك، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وتأتي مع الرحمة المحبة والنظر إلى المجتمع بإيجابية، واللطف في طريقة التعامل معهم وأن ترعى كرامتهم الإنسانية بعيدًا عن الغلظة والفضاضة والتكبر والغرور والعنجهية؛ لأَنَّها ليست من الإيمَـان في شيء ولا من لوازم المسؤولية.

“وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ”: لا تكن متوحشا في تعاملك معهم وعلاقتك بهم، هدفك قهرهم وظلمهم وابتزازهم واستغلالهم لمصالحك الشخصية وتتجاهل معاناتهم وظروفهم.

“فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ”: أخٌ تجمعك به أقدس رابطة وهي رابطة الدين وما يترتب عليها من مسؤوليات، وإلى جانبها رابطة الإنسانية فتحمل نحوه مشاعر الأخوة.

“أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ”: إنسان تجمعك به رابطة الإنسانية، وإن لم تجمعكما رابطة الدين فَـإنَّك تحمل تجاهه مسؤولية كمواطن بما تمليه عليك مسؤوليتك، وترعى له كرامته.

“يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ”: أي تتفهم أنك وإن تعاملت معهم برحمة ولطف، فالمجتمع غير معصوم عن الأخطاء فتتحول إلى المسارعة بإقامة أشد العقوبات على أبسط الأخطاء، العقوبة ليست هي الأَسَاس في التعامل مع المجتمع لإصلاحه، بل هي إجراء استثنائي وأخير لقول الإمام علي -عليه السلام-: “آخر الدواء الكي”، الأُسلُـوب التربوي هو ما يجب أن يعتمد في المقام الأول من خلال تربيته التربية الإيمَـانية.

“فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ”: أنظر أنت إلى نفسك أنك كإنسان يحصل من جانبك تقصير وأخطاء وإنما تعوّل على رحمة الله وعفوه، فلا ننظر إلى الناس نظرة قاسية ومتشدّدة جِـدًّا تجاه أخطائهم وتقصيرهم، تعامل بمساحة من العفو والصفح.

“فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ”: وأنت في موقع المسؤولية لست صاحب القرار الأخير، الله فوقك، فاحسب حساب ما بينك وبين الله.

“وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ”: أنت كمسؤول الله يختبرك، فاحرص على النجاح، وأن يكون أداؤك صحيحا، وصن نفسك من التجاوزات الطائشة والممارسات السيئة وأُسلُـوب التسلط والطغيان.

“فَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ”: عندما تتعامل مع الناس بممارسات منحرفة عن هدي الله وتعليماته وشريعته فأنت تجعل نفسك في حالة استهداف وعقوبة وضربه من جانب الله، وتعرضها لسخطه وغضبه وجبروته، فلا تتصور أنك لن تؤاخذ، ولا تغتر وتتجرأ؛ لأَنَّك لن تستطيع دفع نقمة الله عنك.

“وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ”: الإنسان لا يمكن أن يستغني عن عفو الله ورحمته؛ لأَنَّه لو عاملنا بعدله لهلكنا، “وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ”: لا تندمن على عفو من لم يقدّره؛ لأَنَّه في البداية له أثر إيجابي في محيط ومجتمع ذلك الشخص، والذي سيصبح حجّـة لك عليه، والعفو مناسب على كُـلّ الأحوال.

“وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَة”: لا تتفاخر وتتباهى بعقوبتك لإنسان أَو مواطن؛ لأَنَّ هذا يقدم صورة عنك كإنسان انتقامي متغطرس متوحش، “وَلاَ تُسْرِعَنَّ إلى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَة”: هذه حكمة وحالة مهمة جِـدًّا أن يكون الإنسان متنبها لها؛ لأَنَّها قد توصلك لاتِّخاذ قرارات وإجراءات قاسية وفق حالتك النفسية وغضبك فتبتعد عن الحق والعدل، “ولا تقولن: إني مؤمَّرٌ آمُرُ فأطاع”: الإنسان إذَا تصور أنه قد أصبح إلى درجة أنت تنفذ أوامره مهما كانت خطأ، غلطاً، سوءاً، ظلماً، غير صواباً، ويتصور أنه صاحب صلاحيات مطلقة يفرض ما يشاء دون أي اعتبار لحق وعدل ورحمة وحكمة ومصلحة عمل وغير ذلك فهذه حالة خطيرة جِـدًّا، “فَـإنَّ ذلك إدغالٌ في القلب”: فتلك الحالة إفساد لك، لمشاعرك ووجدانك وتتبدل مشاعر الإيمَـان لديك إلى مشاعر سلبية جِـدًّا فتتمحور حول ذاتك ويقسو قلبك، بمعنى تلحقك أضرار معنوية وخلل نفسي كبير، “ومنهكةٌ للدين “يضعف إيمَـانك والتزامك وروابطك الإيمَـانية وتصبح مغروراً متجبراً متكبراً، “وتقربٌ من الغير”: تقرب من المتغيرات التي تغير النعم وتبدل الأحوال وتسقط الدول؛ لأَنَّ تعصب الإنسان لنفسه في كُـلّ تصرفاته وقرارته وإن كانت خاطئة فهذا يقربه من الغير ويبعده عن الله فيعاقب بعقوبة خطيرة جِـدًّا.

” وَإذَا أحدثَ لك ما أنت فيه من سلطانك أبهةً”: حدث لك شعوراً بالعظمة والكبرياء والغرور والعجب بالنفس؛ لأَنَّك أصبحت في موقع السلطة وتعتبر نفسك إنساناً عظيماً ومهماً وصاحب إنجازات ولم تعد تعتبر لله فضلاً ولا منة فهذه حالة خطيرة جِـدًّا من أقبح ما يمكن أن يتلبس به الإنسان فيفسده، عالج هذه الحالة بالنظر في ملكوت الله الواسع ستظهر أمامه أقل حتى من مستوى الذرة، وأعلم أن كُـلّ شؤون حياتك بيده وقدرته عليك، “فَـإنَّ ذلك يطامن إليك من مطامحك”: يخفض عنك من حالة الغرور التي نشزت فيها وتجاوزت الحد في النظرة إلى نفسك، “ويكف عنك غَربِكَ”: يخفف من حدتك حتى في مشاعرك تجاه نفسك، “ويفيء إليك بما عَزَبَ من عقلك”: يرد إليك ما كان قد غاب عن فهمك ووعيك؛ لأَنَّك أصبحت تنظر إلى نفسك نظرة غير واقعية وتفهم فهما خاطئا، “إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته”: لا تخرج عن حدود عبوديتك وطاعتك وخضوعك لله، وتعامل مع الناس من هذا المنطلق، “فَـإنَّ الله يذل كُـلّ جبار”: مهما بلغت في جبروتك وطغيانك سيذلك الله كما أذل غيرك ممن سبقك على مدى التاريخ، “ويهين كُـلّ مختال” يحذر الإنسان من هذه الحالة وهو في موقع المسؤولية؛ لأَنَّ تأثيراتِها سيئة جِـدًّا تنتج تصرفات طائشة وإصرار على الخطأ ومصيرك فيها هو أن يهينك الله.

والعاقبـةُ للمتَّقيـن.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com