المحاضرة الرمضانية الـ24 للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ الموافق 25-04-2022م

أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

اللهم اهْدِنا، وتقبَّلْ منا، إنَّك أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا، إنك أنتَ التوَّابُ الرحيم.

تحدثنا عن الأخوّة الإيمَـانية، ومبدأِ الوَحدةِ والاعتصامِ بحبل الله جميعاً، كمبدأٍ عظيمٍ من أهم المبادئ الإسلامية، وباعتبار الأخوةِ الإيمَـانية من الفرائض الإيمَـانية الدينية الإلزامية، وتحدثنا عمَّا يرتبطُ بذلك، وعن أسسه، التي هي متمثلة: بالاعتصام بحبل الله جميعاً، باجتماع الكلمة على أَسَاس هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتحَرّك وفق ذلك في مسيرة الحياة، بقيادةٍ واحدةٍ على هذا الأَسَاس، وَأَيْـضاً من خلال القيم التي تساعد على التزام الأخوّة الإيمَـانية، وتنمِّي حالة الإخاء بين المؤمنين، مما يعود فيها إلى حسن التعامل، إلى كظم الغيظ، إلى المواصفات المهمة جِـدًّا، في مثل قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]… إلى غير ذلك.

ومجملُ ما يفيدُ في ذلك، هو: أنَّ الثمرةَ المهمةَ التي هي قائمةٌ على تعاملهم فيما بينهم بالصدق، والوفاء، والأخوة، وتلك القيم القرآنية، تثمر فيما بينهم الثقة، الثقة ببعضهم البعض، الاعتماد على بعضهم البعض، الاطمئنان إلى بعضهم البعض، وهذا له أثره الكبير جِـدًّا في الواقع العملي، في أن ينطلقوا معاً في مختلف المهام والمسؤوليات والأعمال، وفي مواجهة التحديات والأخطار مهما كانت، وبفاعليةٍ عالية، كلما كانت الثقة قوية، والاطمئنان كبير؛ كلما كانت الفاعلية في ميدان العمل، في النهوض بالمسؤوليات، في مواجهة التحديات والأخطار عالية جِـدًّا، وهذه مسألة معروفة في الواقع البشري.

فالموضوعُ في أَسَاسه كما هو موضوعٌ يرتبطُ بالجانب الإيمَـاني للإنسان، بتحقيق التقوى، بقبول العملِ عند اللهِ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، له أَيْـضاً جاذبيته الكبيرة من حَيثُ نتائجه في واقع الحياة، ما يترتب عليه في واقع الحياة، ما يتحقّق به في واقع الحياة.

ولهذا يحرص الآخرون من غير المسلمين على أن يتكتّلوا في تكتلات كبرى، وأن يتحالفوا، وأن يتعاونوا، وأن تتظافر جهودهم في مواقف معينة، تجاه تحديات معينة، في مواجهة خصمٍ، أَو عدوٍ معين، حتى ضد الإسلام والمسلمين، هم يحرصون على أن تتظافر جهودهم، وأن ينسِّقوا تحالفات كبرى، كما هو حاصلٌ في هذا العصر بقيادة أمريكا، ويتحَرّكون كذلك على مستوى واسع في أمورهم الأُخرى، المتمثلة بالجوانب الحضارية، والاقتصادية… وغيرها.

الأكثرُ غبناً في كُـلّ هذا، وتفريطاً في هذا الجانب، هم المسلمون، وعندما يتحَرّك البعض من المسلمين على أَسَاس التوجّـه الصحيح، وعلى أَسَاس المبادئ الإيمَـانية العظيمة، ويسعون إلى أن تجتمع كلمتهم على أَسَاس هدى الله، وفي الموقف الحق، وفي الاتّجاه الصحيح، فعليهم أن يكونوا مرسِّخين في واقعهم لهذا الجانب، وأن يكونوا على الدوام حذرين من حالة الفرقة والاختلاف.

تحدثنا في كلأمنا بالأمس وما قبله عن الوعيد الإلهي على التفرق والاختلاف، عندما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، فمن الخطورة الكبيرة على الإنسان أن يدخل ضمن هذا الوعيد، الوعيد الشديد: {وَأُولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، هذا -بحد ذاته- كافٍ بالنسبة للإنسان المؤمن أن يسعى بكل جد إلى الحذر من الفرقة، من الاختلاف في داخل صف المؤمنين، وأن يسعى دائماً إلى أن يبقى في حالة الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن يرعى الأخوّة الإيمَـانية بكل ما تبنى عليه، بكل لوازمها، بكل العوامل المساعدة عليها، وأن يحذر -في نفس الوقت- من أسباب الفرقة.

هناك عواملُ وأسبابٌ تؤدي إلى الفرقة، ويجب الحذر منها، وسنتحدث عن البعض منها باختصارٍ إن شاء الله:

في مقدِّمة العوائق التي تؤثِّر سلباً على الأخوّة الإيمَـانية، وعلى الاعتصام بحبل الله جميعاً، وتسبب للفرقة، والاختلاف، والتباين، وتؤثِّر على مستوى الانسجام والتفاهم: العوامل النفسية:

وفي مقدِّمتها: الكبر:

الكبر هو من أسوأ الصفات، ومن أكبر الذنوب والمعاصي، وخطورته على الإنسان في كُـلّ دينه، وفي كُـلّ واقعه، خطورته كبيرةٌ على الإنسان، يستحيل معه الاستقامة على أَسَاس هدى الله، ويبعد الإنسان عن القابلية لهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في كثيرٍ من الأمور المهمة، وله تأثيره الخطير في مسألة الأخوّة الإيمَـانية، والاعتصام بحبل الله جميعاً؛ لأَنَّ الإنسان المتكبر، الذي يصبح متكبراً، يربط الأمور في الواقع العملي بهذا الجانب، هو يرى نفسه أكبر من الحق، وترتبط الأمور في جوانبها الثلاثة:

أولها الموقع:

ترتبط الأمور العملية بالموقع، وأكثر الناس عرضةً لهذا الجانب هم أصحاب المواقع الاعتبارية على المستوى الاجتماعي، أَو على المستوى العلمي، أَو على المستوى الثقافي، أَو على مستوى السلطة، من لهم مناصب، أَو وجاهة، أَو يرون أنفسهم أصحاب كفاءة معينة، أَو مهارة معينة، أَو مقام معين، أَو ألقاب معينة، هم من أكثر الناس عُرضةً لخطورة الكبر، ومشكلة الكبر.

فتجاه أي عمل من الأعمال، أَو تحَرّك في أية مهمةٍ من المهام، أَو مسؤوليةٍ من المسؤوليات، المعيار عند الإنسان المتكبر، هو: كبره، هل هذا العمل، هل هذه المسؤولية، هل هذا الدور، هو بمستوى الموقع الذي أفترضه لنفسي، هو يلبِّي الطموح الشخصي؟ ويرى نفسه مثلاً متطابقاً مع مستواه، مع موقعه، مع أهميته، مع شخصيته، وإلَّا فقد لا يقبل به أصلاً، مهما كان عظيماً، مهما كان مهماً، مهما كانت فيه مرضاة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مهما كان له من أثرٍ في الواقع، فهنا تكون استجابته ليست مرتبطةً بالغاية الإيمَـانية العظيمة، التي هي رضوان الله، والقيمة العملية الفعلية بهذا المعيار: معيار مرضاة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

المعيار عنده معيارٌ آخر، المعيار هو: كبره، هل هذا العمل يتوافق مع كبره، مع الموقع الذي له في نفسه، وإلَّا فلن يلتفت إليه مهما كان عظيماً، ومهما كان مهماً.

على مستوى التقبل:

سواءً في ميدان التوجيهات العملية، أَو في مقام النصح والتذكير، أَو في مقام الأخذ والرد والنقاش للمواضيع العملية، المتكبر من أكثر الناس أنفةً، وأبعدهم عن التقبل، يصر ويعاند على رأيه، حتى لو كان خاطئاً، حتى لو لم يكن سليماً ولا صائباً، لكن ارتبطت المسألة عنده بالاعتبار الشخصي، فتصبح المسألة فورًا مسألة شخصية، يتشبث بوجهة نظره الخاطئة، أَو بتوجّـهه الخاطئ، أَو بموقفه الخاطئ، لا يريد أن يتراجع عنه أبداً، ولا يقبل نصحاً، ولا يقبل نقاشاً، ولا يقبل أن يُذَكَّر أبداً، وبالذات إذَا كان التذكير يأتي له ممن يراه أدنى مرتبةً منه، أَو أقل شأناً في نفسه منه، فيصبح الكبر أَيْـضاً عائقاً كَبيراً أمام تقبل التوجيهات، التي يصبح المعيار عند الإنسان تجاهها هي كبره، هل هي تتناسب، أم لا تتناسب، من معيار الكبر فقط، على مستوى النصح، على مستوى التذكير… وهكذا، وهذه جوانب خطيرة جِـدًّا، ومؤثرة إلى حَــدّ كبير.

ثم مما يؤثِّر في مسألة الكبر، هو: سلبية الإنسان في تعامله:

المتكبر عادةً ما يكون سلوكه وأُسلُـوبه في التعامل أُسلُـوباً مطبوعاً بالتكبر، لا يتواضع في تعامله، يبرز كبره وتعاليه وغطرسته في أُسلُـوبه في التعامل مع الآخرين:

سواءً وهو في موقع مسؤولية، فهذا أكثر، سيجعله أكثر سلبيةً في طريقته في التعامل مع الآخرين من موقع مسؤوليته المعينة.

أو حتى باعتداده بنفسه، ومقامه، واعتباره الشخصي، فهو يتعامل مع الآخرين بتكبر، بتعالٍ، بغطرسة، يبرز في أُسلُـوبه حالة التكبر والتعالي.

وهذا منفرٌ جِـدًّا في واقع الأُمَّــة، يستحيل مع هذه الحالة أن يكون هناك انسجام تام، تعاون، وقرب، قرب في المشاعر، وقرب أخوي، وتحقيق لحالة الأخوّة الإيمَـانية كما ينبغي.

فالكبر في هذه الاتّجاهات الثلاثة، والإنسان يربط الأمور بموقع معين، لا يتحَرّك إلَّا إذَا كان سيحصل على ذلك الموقع، ومن ذلك الموقع موقفه مما يأتي من الآخرين، سواءً على مستوى توجيهات عملية، أَو نصح، أَو مناقشة للأمور بشكلٍ عملي، حتى لو كان بطريقة أخوية، لا يتقبل أصلاً، وفيما يتعلق بالتعامل، فالكبر خطيرٌ من كُـلّ هذه الجوانب، وكلها تؤثر سلباً على الأخوّة الإيمَـانية، تأثيرها سيءٌ جِـدًّا، وكلها تؤدي إلى الفرقة، فهو يؤدي إلى الفرقة من كُـلّ جوانبه الثلاثة.

ولذلك أتى في القرآن الكريم قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[السجدة: الآية15]، {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، هم خاضعون لله، همهم ما يرضي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

والإنسانُ المؤمنُ هو يعي جيِّدًا أنَّ قيمته ليست بالتكبر، وأنَّ منزلته المهمة التي يسعى للحصول عليها هي عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويسعى لمرضاة الله، لأن يرضى الله عنه، وهو يعلم أنَّ العزة لله جميعاً، وأنَّ الله يعز عبادَه المؤمنين، لا يحتاجُ لكي يكونَ عزيزاً، ولكي يحظى بالعزة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إلى التكبر.

بل في الواقع، واقع الناس، المتكبر مذموم، وغير محترم، لا يحظى بالاحترام، حتى لو داراه الناس، ليس على أَسَاس احترام وتقدير من أعماق قلوبهم، بل إنَّ الإنسان الذي له دوره، أَو له مقامه، أَو له شيءٌ معين، كفاءة معينة علمية، أَو ثقافية… أَو أي اعتبار، إذَا كان متواضعاً، مع ما منحه الله ووهبه الله إياه، من دورٍ معين، أَو جاهٍ معين، أَو جهدٍ معين، أَو إسهام معين بارز، فالله أولاً: سيمنحه العزة، ثانياً: الناس يحترمونه، يقدِّرونه، عندما يلمسون تواضعه وقربه، يحترمونه أكثر.

من أهم العوامل المؤثرة سلباً، والمؤدية إلى التفرق حتماً، هي: النظرة الشخصية، والمقاصد الشخصية، والتمحور حول الذات:

إذا فقد الإنسان إخلاصه لله تعالى، لم يعد يعمل؛ مِن أجلِ الله؛ مِن أجلِ مرضاة الله، وهذا كُـلّ همه، هذا الأَسَاس في انطلاقته، وهذا هو الدافع الرئيسي له ليعمل، بل أصبح يريد من وراء ما يعمل، حتى لو كان جهاداً في سبيل الله، حتى لو كان أداء لمسؤوليةٍ معينة، حتى لو كان عملاً خيرياً وعملاً اجتماعياً لمصلحة الناس، فيه الخير للناس، أصبح ينطلق من منطلق شخصي، يريد الاعتبار الشخصي:

إمَّا يريد لنفسه الموقع المعنوي، يريد منصباً معيناً، مقاماً معيناً، ويسعى للسمعة الكبيرة بين أوساط المجتمع.

ويسعى أَيْـضاً مع ذلك، أَو بدونه، إلى مكاسب مادية.

إذا أصبحت المكاسبُ الشخصية على المستوى المعنوي، أَو على المستوى المادي، أَو على المستوى المعنوي والمادي، هي الدافع الرئيسي للعمل، هي المؤثر الكبير في انطلاقة الإنسان، فالإنسان هنا يتغير، وهذا يؤثر على سلوكه، على تعامله، على تفاعله، على مدى استجابته، على مدى إنجازه؛ لأَنَّه يربط الأمور العملية بهذا الجانب، [هل وراء هذا العمل سمعة شخصية، مكسب شخصي، وإلا فليس عملاً مهماً، أنا لا أريده، لا أريد الاستمرار فيه]، عندما ينطلق في عملٍ معين، هل تحقّقت هذه المكاسب الشخصية، وإلا تثور ثائرته، يشاقق، يعاند، يعارض، يحتج، يثير الضجة، يؤثر سلباً على الواقع العملي؛ لأَنَّ هذا هو الأَسَاس الذي يؤثر فيه، وفي أدائه، وفي مستوى تفاعله، وحتى في مستوى التزامه.

وبالتالي تتكوَّنُ عنده في نفسه هذه الحالةُ السلبية، التي ينظر من خلالها حتى إلى الآخرين، هل هم يقدِّرون جهده؟ هل هم يعتبرون له دوره، مقامه الشخصي، اعتباره الشخصي؟ هل يهتمون بذلك إلى حَــدّ كبير؟ وإلا فقد أحياناً يتهمهم أنهم لا يقدِّرون له ذلك كما ينبغي؛ وبالتالي يمقتهم، يكرههم، يؤثر هذا على علاقته بهم، لم يعد ما يجمعه بهم هو ذلك العمل الصالح، العمل العظيم، أصبحت المقاصد الشخصية، وَإذَا تصور أنهم لا يعطونه في ذلك ما ينبغي، فلديه موقف منهم، ويستاء منهم كَثيراً، وهذه من الحالة الخطيرة جِـدًّا، الإخلاص عاملٌ مهم في الحفاظ على الوحدة والأخوّة الإيمَـانية.

من أهم ما يؤثِّر سلباً على الأخوة الإيمَـانية، ويؤدِّي إلى التفرق، هو: حالةُ العُجب والغرور لدى الإنسان:

وهي حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا، وقد تعرض للإنسان في مرحلة من مراحل العمل في سبيل الله، والعمل الصالح، قد ينطلق الإنسان في بداية الأمر بإخلاص لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوجّـه نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفيما بعد نتيجةً لإنجازات عملية معينة وفَّقه الله لها، أَو نتيجةً لأنه وصل إلى موقع عملي معين، أَو منصب معين، أَو مسؤولية معينة؛ أصبح معجباً بنفسه، ومغروراً بنفسه، وبالذات عندما يترافق مع ذلك أن يحظى بالمديح والثناء من الآخرين كَثيراً، فإذا أحيط أَيْـضاً بالبعض من الأصدقاء والأصحاب المتملِّقين، أَو استخدم كأُسلُـوب معه لتوطيد العلاقة معه، وللوصول إلى مكاسب من جانبه، كما هو الأُسلُـوب الحاصل بالذات عندما يكون الناس في مواقع مسؤولية، يتقرب البعض إليهم بأُسلُـوب التملق، والإكثار من المديح، والثناء الكثير، والإشادة المتكرّرة… وهكذا، على نحوٍ يصنع لدى البعض عجباً بنفسه، وغروراً تجاه نفسه، فينظر إلى نفسه أنه أصبح إنساناً عظيماً ومهماً، وأنَّ منزلته عالية، ثم يتهم الآخرين بأنهم لا يقدِّرونه كما ينبغي، لا يهتمون به كما ينبغي، لا يحترمونه كما ينبغي، لا يعطونه ما يستحق بحسب مقامه، ودوره، وأهميته… وما إلى ذلك، ويغرق في هذا التفكير، وهذا التوجّـه؛ حتى ينسى الله، ينسى العمل الصالح، ينسى كُـلّ شيء، ينسى أن يكون مبتغاه من الله، وأن تكون وجهته إلى الله.

ثم مهما عمل، مهما قدَّم، يعظم هو عند نفسه، لا يشعر بتوفيق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولا يتجه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ وبالتالي تكثر نقمته، يصبح ناقماً، ناقماً على الناس، ناقماً على الواقع من حوله، من هذا الاعتبار: [أنه إنسان عظيمٌ مُهِـمٌّ جِـدًّا، وأنه إنسان خارقٌ للغاية، وأنه وأنه وأنه… ]، فهو دائم التسبيح بحمد نفسه، يفكِّر في نفسه، يسبِّح بحمد نفسه، وهو يتذكر أنه عظيم، وأنه مهم، وأنه الذي يفعل، وأنه الذي يعمل، وأنه المهم جِـدًّا، وأنه العبقري، وأنه لو الذي حصل على ما يستحق من الاهتمام والعناية به، لفعل، ولكان، ولـ… ثم يبدأ في حالة التذمر من الآخرين، والاستياء من الآخرين، والتعقد على الآخرين.

حالة العجب والغرور بالنفس هي حالةٌ خطيرةٌ على الإنسان، وهي تتنافى مع الإيمَـان، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: من الآية36]، المغرور بنفسه، المعجب بنفسه هو المختال، الفخور، كثير الافتخار، فهو يتحدث عن نفسه أنه وأنه وأنه وأنه… كَثيراً كَثيراً، ينسى الله، بل قد لا ينظر حتى إلى جهود الآخرين، ولا يعتبرها ذات قيمة ولا أهميّة، لا يرى إلَّا نفسه، ولا يرى إلَّا جهده، ولا يرى إلَّا إنجازه، ولا يرى إلَّا عمله، ويعظم عنده ما يفعله كَثيراً، حتى الشيء البسيط الذي قد يعمله، أَو الإنجاز البسيط الذي قد يحقّقه؛ لأَنَّه منه، يراه شيئاً عظيماً، شيئاً مهماً، وينتظر دائماً في مقابل ذلك من الآخرين أن يثنوا عليه، أن يسبحوا بحمده، أن يعظِّموه، وينتظر في مقابل ذلك المزيد من الألقاب، والاستحقاقات، والمقاصد الشخصية، والحسابات الشخصية، والمكاسب الشخصية، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا على الإنسان.

وأيضاً هذه من الحالات التي تصنع فجوةً ما بين الإنسان وبين الآخرين، يصعب مع الإنسان إذَا أصبح على هذا النحو التفاهم معه، التعاون معه، العمل سوياً معه، المناقشة للأمور العملية معه، يتعقَّد جِـدًّا من النصح له، يستاء جِـدًّا من التذكير له، يصبح في الواقع العملي من الصعب التنسيق في عملٍ معه، يكاد يكون مستحيلاً؛ لأَنَّه دائماً غارقٌ في هذه العقد الشخصية، والحالات الشخصية، فهي من الحالات الخطيرة جِـدًّا جداً، وتعرض للبعض من الناس بعد مرحلة عملية معينة، يتغير تماماً، يتغير تماماً، ثم يتلو بعد ذلك التعقد الشديد، والكره الشديد، وحتى الوحشة، ( (العجب وحشة) ) كما روي عن الإمام عليٍّ “عليه السلام”، المغرور بنفسه، المعجب بنفسه يشعر -في نهاية المطاف- بالوحشة، ولا يشعر بالانسجام مع الآخرين، وينفر من الآخرين، ينفر منهم إلى حَــدّ كبير.

من أهم عوامل الفرقة: الطمعُ والأنانية، الطمعُ المادي:

عندما تصبح أطماع الإنسان هائجةً، تحكم توجّـهاته، وتؤثِّر عليه في أعماله، وتمثل هي الدوافع لتحَرّكه؛ فهو بالتالي يتجه على حساب الأعمال الأَسَاسية والمسؤوليات المهمة، يصبح المهم عنده أن يجمع، إذَا لم يحصل على ما يبتغيه من الأطماع المادية، تقوم القيامة، يكره الآخرين، يسخط عليهم، يمقتهم، ولا ينسجم معهم، ولا يتفاهم معهم، رضاه عنهم مرتبطٌ بمقدار ما يتحقّق له معهم من المكاسب المادية، {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة: من الآية58]، فرضاه وسخطه يرتبط بالجانب المادي، هذه حالة خطيرة جِـدًّا.

من الأسباب المؤدِّية للفرقة، والعوامل الخطيرة المؤدِّية إليها: الغضبُ والانفعالُ المنفلت:

كُلُّ إنسان يغضب، وكل إنسان ينفعل، لكن اللهَ قال عن عباده المؤمنين: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}[آل عمران: من الآية134]، وقال عنهم: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}[الشورى: من الآية37]، وقال عنهم: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}[آل عمران: من الآية134]، من القيمة الإيمَـانية، ومن المميزات التي تعود إلى التقوى: أنَّ الإنسان في حالة الغضب يضبط نفسه، يسعى -بالاستعانة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- إلى كظم غيظه؛ وبالتالي يسعى إلى السيطرة على ردة فعله، أن تكون ردة فعله متوازنة، وفق ما يرضي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ألَّا يتجاوز فيها الحق، بل أكثر من ذلك: أحياناً إلى أن يكظم غيظه بالكامل، وألَّا يظهر غضبه أصلاً، ألَّا يترجم حالة الغضب في ردة فعلٍ سلبية، بل يصبر، ويكظم غيظه، ويصرف ذهنيته، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا، وتحتاج إلى تقوى، إلى إيمَـان.

اللهُ قال عن هذه الحالة، التي وصف البعض من خيار عباده بها، الذين يدرؤون السيئة بالحسنة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: الآية35]، يعني: مرتبة إيمَـانية عالية جِـدًّا، من يصل ليس فقط إلى أن يكظم غيظه، بل أن يدرأ السيئة بالحسنة، مقامه عظيمٌ عند الله، وشأنه كبيرٌ عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومرتبته عالية، {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، وأجره كبيرٌ جِـدًّا، وهي تعبِّر عن زكاء نفسٍ إلى حَــدٍّ كبير، وعن توجّـه عظيمٍ إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعن اهتمام عظيم بأمر الدين، وأمر الأُمَّــة، يجعل الإنسان يصبر؛ مِن أجلِ ذلك على كُـلّ شيء، مهما كان صعباً على نفسه، مهما كان شاقاً على نفسه.

الحساسية المفرطة لدى الإنسان التي تجعله غير متوازن في انفعالاته، قد يكون أحياناً وراءها العجب، ووراءها الغرور، أَو الكبر… أَو نحو ذلك، عندما يكون الإنسان حسَّاساً جِـدًّا، بمُجَـرّد كلمة بسيطة، وقد تكون غير حسَّاسة جِـدًّا الكلمة في أصلها، مستفزة بعض الشيء، وجِّهت إليه؛ فيغضب أشد الغضب، يعني: لو هدمت الكعبة، لَمَا غضب كذلك، لو دمّـر الأقصى، لَمَا انفعل كذلك، لو سُحِقَت الأُمَّــة الإسلامية، لَمَا انفعل بذلك المقدار، لو حصل ما حصل في الشأن العام، لَمَا انفعل بذلك المقدار.

الحساسية المفرطة جِـدًّا لدى الإنسان إلى درجة أن ينفعل تجاه أبسط موضوع، أَو قضية، أَو استفزاز، إلى أنهى حَــدٍّ، إلى حالة رهيبة جِـدًّا، والبعض يتورَّط: إمَّا بالقتل، أَو يتورَّط في الجرح، أَو يتورَّط في أن يتكلم بكلام سيئ جِـدًّا، فيه السب، فيه الإساءَات، فيه الافتراءات، فيه الاتّهامات الباطلة، فيه التجريح المبالغ فيه، فيحمِّل نفسه الوزر والآثام، وهذا يؤدِّي إلى الفرقة، يؤدِّي إلى الفرقة.

حالةُ الغضب أحياناً تجعل البعض من الناس إما يسيء إساءَات بالغة، أَو يحصل من جانبه ردود أفعال ظالمة، مدمّـرة، تخرِّب تخريباً كَبيراً، تمزِّق الصف، والوحدة، والأخوة، والتفاهم، ولها آثار سيئة جِـدًّا، حالة خطيرة جِـدًّا، أَو يتخذ قراراً سلبياً في ردة فعله، بأن يترك طريق الحق أصلاً، أن يتنصَّل عن العمل العظيم، عن العمل الذي فيه رضا لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّه غضب وانفعل.

فحالة الغضب والانفعال حالة خطيرة جِـدًّا، والإنسان عليه أن يعوِّد نفسه على أن يتوازن في ردود أفعاله، أن يضبط نفسه، وأن يستعين بالله في ذلك، وَإذَا كان بطبعه إنساناً انفعاليًا، فليطلب من الله أن يشرح صدره، وليسعَ أن يرسِّخ أهميّة هذه المسألة في نفسه، وأن يستعين بالله في ذلك؛ حتى يضبط ردة فعله.

من العوامل السلبية المؤدِّية إلى التفرق: سوء الظن:

واللهُ نهى عن ذلك، الله “جلَّ شأنه” قال في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: من الآية12]، والعجيب أنَّ البعض يكون سريعاً إلى سوء الظن، يعني: أول ما يحمل أي موضوع، أَو أية قضية تلتبس عليه، أَو أي شيء يسمعُه فلا يعجبه، يبنيه على أَسَاس من سوء الظن، من أول لحظة، يسيء ظنه سريعاً، جاهز لأبسط موضوع ليفسِّره بأسوأ تفسير، وليحمله على أسوأ الاحتمالات، وهذه حالة سلبية لدى الإنسان.

سوء الظن يمثل خطورة كبيرة على الإنسان، في تعامله مع الآخرين، في علاقاته بالآخرين، لا تستقيم مسألة العلاقات الأخوية الإيمَـانية مع وجود سوء الظن، يفكك العلاقات، ويؤثِّر عليها سلباً.

أضف إلى ذلك، إذَا كان الإنسانُ في موقع مسؤولية، وهذه المسألة خطيرة جِـدًّا؛ لأَنَّ البعض من الناس يبني على سوء ظنه تصرفاته، مواقفه، يبني عليها مواقف، فيتخذ موقفاً سلبياً من الآخرين، بناءً على سوء ظنه، بل البعض يجعل من مُجَـرّد هواجسه دليلاً قاطعاً، يعني: كما لو كان شيئاً رآه، وتحقّق منه، كما لو كان شيئاً يقينياً، يكفي أن يحصل لديه هواجس، فيبني عليها تصرفات، يبني عليها ردود أفعال، يبني عليها مواقف، وهذه حالة خطيرة، إذَا كان الإنسان في موقع مسؤولية يظلم، يظلم، يبني على سوء ظنه موقفاً معيناً، أَو قراراً معيناً، فيظلم، يظلم الآخرين، أَو يُصدِر أحكاماً عليهم، ويطلق عليهم التوصيفات التي يرغب بها، فيظلم.

سوءُ الظن حالة خطيرة جِـدًّا، يجب التخلص منه، يجب الحذر منه، يجب الانتباه منه، في تأثيره السلبي على مستوى العلاقة والأخوة، وفي تأثيره السلبي في موقع المسؤولية والأداء العملي، {اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.

مما يؤدِّي إلى الفرقة وهو من عوامل الفرقة: الحسد:

والحسدُ من أسوأ الصفات، ومن أذمها، الحسد: عندما تغتاظ من شخصٍ آخر؛ لأَنَّ الله أنعم عليه بنعمةٍ معينة، تراه مثلاً: له مكانة معينة، أَو له مقام معين، أَو يحظى باحترام، أَو… تكرهه؛ مِن أجلِ أنَّ الله منحه شيئاً معنوياً، أَو مادياً، فتغتاظ منه على ذلك، وتكرهه لذلك، لِمَا منَّ الله به عليه، تغتاظ أشد الغيظ عندما تسمع الآخرين يشيدون به، أَو يثنون عليه، أَو يعجبون به، فتتجه إلى ذمه، إلى الانتقاص منه، أَو يكون لك ردة فعلٍ تجاهه.

الحسدُ لا ينسجمُ مع الإيمَـان أبداً، الحسد هو ردة فعلٍ، هي في عمقها ردة فعلٍ نحو الله، قبل أن تكون نحو عبده، وهي حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا على الإنسان، ولهذا يقول الله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ}[الفلق: الآية5].

مما يؤثِّر على مستوى التصرفات والسلوكيات على الأخوّة الإيمَـانية، ومما يؤدِّي إلى الفرقة: الهمزُ، واللمز، والسخرية، والاغتياب:

هذه تعود إلى اللسان، إلى اللسان، إذَا كان الإنسان هَمَّازاً لمَّازاً، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة: الآية1]، البعض يصبح من عاداته من سلوكياته أن يطلق لسانه، أَو قلمه وكتاباته، في هذا الزمن أصبحت الكتابة أحد اللسانين، ذات حضور بارز، أن يطلقه في الطعن في أعراض الناس، في تناول هذا، وتناول ذاك، والكلام على فلان، والكلام على فلان الآخر، ينتقص منه، يطعن في عرضه، يسيء إليه، يتكلم عليه بالكلمات الجارحة، ما كان منها في وجهه ومحضره، وهو أذيةٌ له، وظلمٌ له، وما كان منها في غيابه، كُـلّ هذا محرَّم، الإنسان عندما يكون على هذا النحو، هو ليس بمؤمن، ليس بمؤمن، من يصبح هذا جزءاً من سلوكه، جزءاً من سلوكه الذي يعتاده، {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم: الآية11].

همَّاز: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، يتكلم على الناس، يجرح مشاعرهم، يتناولهم، وقد يكون كُـلّ يوم ولديه ضحية، يتكلم على فلان وعلى علان بكل جرأة ووقاحة، وإساءة بالغة، البعض قد يتخير وينتخب الكلمات الأكثر إساءة، والجارحة أكثر، فإذا كان لديه مَلَكَة، وقدرة تعبيرية وبيانية، أَو بلاغة، قد يُسَخِّرها على نحوٍ أسوأ، ليجلب المزيد من الأوصاف السيئة، والكلمات الجارحة.

وفي هذا الزمن عَظُمَ هذا الوزر في مواقع التواصل الاجتماعي، ومع وجود هذه الإمْكَانيات، يأتي البعض ليشنِّع، وليجرح، ولسيء، وليطعن في عرض إنسان في بيئةٍ مفتوحة، في نادي إعلامي، مواقع للتواصل الاجتماعي، أَو غيرها، على مرأى ومسمع الكثير من الناس، يحاول أن يعمم إساءته إلى أوسع نطاقٍ ممكن.

الله يقول: {وَلَا تَلْمِزُوا أنفسكُمْ}[الحجرات: من الآية11]، أنتم كمجتمعٍ مؤمنٍ واحد، عندما تلمز الآخرين، أنت تلمز نفسك، أنت تسيء إلى نفسك، أنتم كالجسد الواحد، أنتم أُمَّـة واحدة، حافظوا على أخوتكم، {وَلَا تَلْمِزُوا أنفسكُمْ}.

الغيبة كذلك: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: من الآية12]، حالة خطيرة جِـدًّا، ينزِّه الإنسان لسانه، حتى يكون في تعبيره نظيفاً سليماً من الوزر والإثم، عن الاعتياد لهذا الأُسلُـوب.

السخرية: الله قال: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}[الحجرات: من الآية11]، السخرية التي فيها استهزاء، واحتقار، وإساءة بأي اعتبار:؛ باعتبَار اجتماعي… أَو بأي اعتبار من الاعتبارات التي هي باطلة، لا يبنى ولا يجوز أن يبنى عليها سخرية من أحد، لا على المستوى الشخصي، ولا على المستوى الجماعي، فأن تصبح المسألة إلى هذا المستوى: {قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، يأتي البعض ليسخر من أهل بلد بأكملهم، أَو منطقة معينة بأكملهم، أَو قبيلة معينة، أَو عرق معين، لا يجوز أبداً السخرية والاستهزاء بأي تصنيف وبأي مستوى أبداً، لها آثارها السيئة في التفكيك بين المجتمع.

اللهُ جعل العلاقةَ والأخوّة الإيمَـانية قائمةً على أَسَاس: أن يرعى الإنسان الكرامة الإنسانية للآخرين، وأن يرعى الاحترام المتبادل مع الآخرين، قائمة على قاعدة الاحترام المتبادل، الصدق، الوفاء، العطف، الإحسان، إرادَة الخير للآخرين.

من العوامل المؤدية إلى الفرقة: سوء الخلق، والفظاظة والغلظة:

البعض من الناس لا يجسِّد الذلة على المؤمنين، والرحمة بين المؤمنين، في أُسلُـوبه في التعامل، في طريقته في التخاطب مع الآخرين، فهو سيء الخلق، فظ، غليظ، عُتُل، جافي، يطبع أُسلُـوبه في التخاطب مع الآخرين، والكلام مع الآخرين، والتعامل مع الآخرين، الجلافة، الفظاظة، الغلظة، الكلمات الجارحة، الجرأة، الوقاحة، قلة الأدب، عدم الاحترام، وهذا يؤدي إلى التفرق، هذا يؤدي إلى التفرق، ويصبح عائقاً حقيقيًّا عن التعاون، الانسجام، المحبة، الأخوّة في معناها الحقيقي.

وهذه حالة مذمومة، سواءً على مستوى العلاقة، تأثيرها السلبي على العلاقة حتى فيما بين الأفراد، أحياناً تؤدي إلى مشاكل كثيرة، ومشاكل خطيرة، أَو في موقع المسؤولية، إذَا كان الإنسان في موقع مسؤولية، أَو في منصبٍ معين، وهو سيء الخلق، وهو فظٌ غليظ، وللأسف الشديد انتشرت هذه الظاهرة السلبية في أوساط المجتمع المسلم، من أصبح -خَاصَّة المقامات والأعمال والمسؤوليات- من أصبح لديه عمل مهم، الكثير منهم يصبح فظاً، غليظاً، سيء الخلق، تعبيراته، أُسلُـوبه في التعامل، مستفز، وسيء، وجارح.

انتشرت حتى في المستشفيات، حتى لدى الممرضات، حتى لدى الأطباء، الكثير منهم -من الأطباء- تراه سيءَ الخلق، هناك منهم نماذجُ راقية جِـدًّا، تجسِّدُ الرحمة، والإحسان، والعطف، وأُسلُـوبها جزءٌ من المعالجة للمريض، البعض منهم سيء الخلق.

في المناصب والمسؤوليات، وبالذات الحكومية، والمواقع الرسمية، والمقامات الشخصية، وكما سبق عن المتكبرين، والمعجبين بأنفسهم، والمغرورين بأنفسهم، هم أَيْـضاً من أكثر الناس المتصفين بهذه الطريقة في التعامل، في سوء خلقهم، في فظاظتهم، في غلظتهم، وهي ظاهرة سيئة جِـدًّا، يجب التخلص منها.

مهما كان منصب الإنسان، أَو موقعه، أَو مسؤوليته، أَو مهارته، أَو كفاءته، مهما كان اعتداده بنفسه، فينبغي له أن يتخلق بالخلق العظيم، وأن يكون حسن الخلق، حسن التعامل، وأن يتعامل مع الناس باحترام، كبيرهم وصغيرهم، يتعامل باحترام مع الجميع، مع الجميع، يكون الاحترام هو الأَسَاس الذي يبني عليه أُسلُـوبه في التعامل، في التخاطب مع الآخرين.

في مواقع المسؤولية بكلها، مهما كان موقع المسؤولية، يجب على الإنسان أن يتعامل باحترام، أن يكون متواضعاً، أن يكون مؤدباً في عباراته، في أُسلُـوبه في التخاطب، حتى لو غضب، البعض قد يكون مؤدباً محترماً إذَا كان راضياً؛ أما إذَا سخط، أَو غضب، أَو انفعل، أَو استاء، ينقلب على موجة أُخرى، بسرعة بسرعة، ولو كلمة بسيطة، موجة ثانية، فيظهر قليل الأدب، جريئاً في الإساءة والوقاحة، لا يتحرج من إطلاق أي كلمة، أَو أي تعبير مهما كان سيئاً، يسيء تعامله جِـدًّا، وهذا ما لا ينبغي.

الله قال لنبيه، وهو خاتم النبيين، وسيد الرسل “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: من الآية159]، يعني: لَمَا صبروا عليه وهو رسول الله، لَمَا قدَّروا له أنه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، لَمَا تحمَّلوه.

وفعلاً البعض في موقع مسؤولية معينة، قد يكون لديه مهارات في مجال العمل، وإنساناً ناجحاً من حَيثُ خبرته العملية في عمل معين، لكن لا يطيقه الناس، ليتواجدوا معه، ليتكاتفوا معه، لينشطوا معه، ليكونوا ضمنه، ضمن عمله، لماذا؟؛ لأَنَّه سيء الخلق؛ لأَنَّه فظ، غليظ، في أُسلُـوبه في التعامل، وَإذَا انفعل، لا يتحرج من أي إساءة، وسريع الغضب، وسريع الانفعال، وبطيء الرضا، وكثير الجفاء.

الإمام عليٌّ “عليه السلام” قال كلمة جميلة: ((مَنْ لَانَ عُودُه، كثّـفت أَغصَانُه))، الإنسان المتواضع، المحترم للآخرين، الصبور، الحليم، يحبه الناس، يألفه الناس، يجتمع عليه الناس، حتى عندما يكون في إطار مسؤولية، يرتاح الناس للعمل معه، والبعض يكون حتى العمل معه متعباً.

إذا كان الحال أن الناس ما كانوا ليتحملوا حتى رسول الله لو كان فظاً غليظ القلب، لكن {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}[آل عمران: من الآية159]، فكيف بالإنسان في أي موقع من مواقع المسؤولية؟! فأمَّا البعض يلوم الآخرين، أَو يتهمهم، هو منفِّر بطبيعته، منفِّر بأُسلُـوبه، منفِّر بفظاظته، بغلظته، بسوء خلقه، ثم يشك في الآخرين أنهم السبب في ألَّا يرغب الناس في أن يبقوا حوله، في أن يكونوا معه، في أن يكونوا ضمن مهامه، أَو عمله، في أن ينسجموا معه، مع أنَّ الحقيقة أن الناس ينسجمون تلقائياً أصلاً، إذَا كان الإنسان وبالذات إذَا جمع بين مهارة عملية في مجال عملٍ معين، وبين حسن خلقٍ، يرتاح الناس له كَثيراً.

من العوامل المؤدية إلى الفرقة، وهي ذات خطورة كبيرة جداً: النميمة:

النميمة ظاهرة سيئة جِـدًّا، وهي عندما يسمع الإنسان كلاماً جارحاً، أَو كلاماً معيناً يسيء إلى شخص معين، فيذهب لينقله ويشيئ به، وكذلك إذَا حاول الإنسان كذلك أن يسعى للفرقة بين هذا وذاك، سواءً بما ينقله من الكلام الجارح، وقد يزيد عليه، وقد يختار أُسلُـوب التقديم له بطريقة مستفزة جِـدًّا، وهذا الأُسلُـوب من أخطر الأساليب، ومن أقذر الأساليب، ومن أكبر المعاصي، النميمة هي من الكبائر، ( (لا يدخل الجنة قتات) ) في الحديث النبوي الشريف، القتات: النمام.

البعض ماهرون في هذا الأُسلُـوب: أُسلُـوب الإثارة لهذا على ذاك، والتفرقة بين هذا وذاك، وكَثيراً ما تحصل هذه الأمور في مقام المسؤوليات، ومن جانب المتملقين الانتفاعيين، الوصوليين، المستغلين، يتملقون إلى هذا، أَو ذاك، بتحريضه ضد الآخرين، بتحسيسه منهم، بمحاولة أن يشعروا الشخص بأنه محسود من الكل، وأنه وأنه وأنه، يكون أُسلُـوبهم في التملق أُسلُـوباً يثير الفرقة، يسبب الشتات.

إضافة إلى أن الأعداء يستغلون هذا الجانب؛ لأَنَّهم يعملون دائماً، ومن أهم الأعمال الرئيسية لديهم هي إثارة الفرقة من الداخل، عمل رئيسي من الأعمال التي يسعى لها الأعداء دائماً، يسعى لها الشيطان، ويسعى لها أولياء الشيطان.

فالنميمة هي ظاهرة سيئة جِـدًّا، الإنسان إذَا كان متعاطفاً مع شخص معين، وسمع شخصاً أساء إليه، بإمْكَانه أن يرد هو، أن يقول: [يا أخي احترم نفسك، هذا الكلام غيبة، هذا إساءة إلى فلان]، عندما يذهب بذلك الكلام، أَو يقول له: [اتق الله، هذا وزر، هذا ذنب… ]، لكن عندما يذهب لينقل ذلك الكلام الجارح إلى الشخص الآخر، وقد تكون أحياناً طريقة النقل مبالغاً فيها، أَو يضاف إليها، أَو نحواً من ذلك.

أو كذلك من أصبح هذا طبعه، يعجبه أن يثير الفرقة، أن يثير الحساسيات، أن يثير العقد، أن يعقد هذا على هذا، وهذا على ذاك، يرتاح للإنسان المشاقق والمسيء، يشجعه على إساءته، يشجعه على شقاقه، ينمِّي العقد، يغذي حالة التذمر، هذه ظاهرة سيئة جِـدًّا، هي عملٌ بعيدٌ عن التقوى والإيمَـان كُـلّ البعد، معصية وذنب، ووزر، وتخدم الشيطان، الشيطان هو الذي يتجه على هذا الأَسَاس: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}[الإسراء: من الآية53].

فالإنسان الذي يعمل هكذا، يعجبه إثارة التذمر، والعقد، والحساسيات، والفرقة، والخلافات، والبغضاء، والكراهية، وتعقيد هذا على هذا، وتعقيد هذا على ذاك، يصبح عمله في خدمة الشيطان، ومع الشيطان، ينزغ الشر، ينزغ الفساد، ينشر الفرقة، وهو عملٌ سيء بكل ما تعنيه الكلمة، ومن كبائر الذنوب، فيصبح الإنسان كما قال الله عنه: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}، متحَرّك ينشر، ينشر، {بِنَمِيمٍ}، نمَّام، نمَّام.

نكتفي بهذا المقدارِ..

وَنَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيِّاكم لما يُرْضِيه عنا، وأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يتقبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَاْمَ وَالقِيَاْمَ وَصَالِحَ الأَعْمَال.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com