المحاضرة الرمضانية الـثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ الموافق 09-04-2022م


أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.

وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

اللهم اهْدِنا، وتقبَّلْ منا، إنَّك أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا، إنك أنتَ التوَّابُ الرحيم.

مِن ضِمْنِ الآياتِ المباركةِ التي أَتَتْ في سِيَاقِ الحديثِ عن فريضِةِ صيامِ شهرِ رمضانَ -الآيات المباركة في سورة البقرة- أتى قولُ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: الآية186].

الدعاءُ في الحالةِ الإيمَـانيةِ هو من لوازمِ الإيمَـان، وجزءٌ مما يعبِّرُ به الإنسانُ المؤمنُ عن إيمَـانِه، فالدعاءُ يعبِّرُ عن إيمَـانِك بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أنَّهُ الحَيُّ القيوم، أنه المدبِّرُ لشأنك، وشؤونِ السماوات والأرض، وشؤونِ الخلائق أجمعين، أنه الرحيمُ الكريم، أنه أرحمُ الراحمين، أنه سميعُ الدعاء، أنه المنعِمُ المتفضل، أنه الملاذُ والملجأ، الذي تلجأُ إليه، وتلوذ به، وتفرُّ إليه من كُـلّ هموم هذه الحياة، ومن كُـلِّ التحديات والمخاطر فيها.

ومن جانبٍ آخر، هو يعبِّرُ ويَدُلُّ على تذكُّرك لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أنك ذاكرٌ له، لست غافلاً عنه، لست ناسياً له، الحالةُ البديلةُ عن الدعاء لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هي: حالةُ النسيان لله، والالتجَاءُ إلى غير الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّ الإنسانَ هو عبدٌ ضعيفٌ مفتقرٌ دائماً، يحتاجُ إلى العَون، يحتاجُ إلى الرعاية، يحتاجُ إلى المساعدة، هو إمَّا أن يكونَ متوجّـهاً إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وإلَّا كان البديلَ أن يتوجّـهَ إلى غير الله، إلى أمثاله من العبيد الضعفاء المحتاجين، الفقراء إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

وهو أَيْـضاً يعبِّرُ عن رجائك كإنسان مؤمن، أنك ترجو الله، ترجو رحمته، ترجو فضله، تثق به، تتوكل عليه، أنك منيبٌ إليه، توَّابٌ إليه، رجَّاعٌ دائماً في كُـلّ المهمات والملمات، وفي كُـلّ الأحوال والظروف، إلى رحمته وكرمه وفضله، فالدعاء موقعه من الإيمَـان هذا الموقع المهم جِـدًّا، والذي لا بدَّ منه في الحالة الإيمَـانية.

في إطار الحديث عن صيام شهر رمضان المبارك في الآيات المباركة من سورة البقرة، أتت هذه الآية المباركة، بهذا التعبير الرقيق، الذي يعبِّرُ عن رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وعن كرمه، وعن فضله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ}، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هو القريبُ من عباده، يعلم بكل أحوالهم وظروفهم، ويسمع دعاءهم ونداءهم، يَذْكُر من ذَكَرَه، ويَشْكُر من شَكَرَه، وهو “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” يجيب الدعاء، يسمع الدعاء، ويجيب الدعاء، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ}، ويَسَّر لعباده مسألة الدعاء، فليست مسألةً معقَّدةً في وسائلها، وليست مسألةً ترتبط بأشخاص محدّدين فقط، يَسَّر المسألة إلى هذا المستوى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ}، فهو يجيب كُـلّ من دعاه إذَا دعاه، وفق حكمته ورحمته “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” وتدبيره، وهو الحي القيوم، ووفق ما يتعلق أَيْـضاً بأحوال الداعي إذَا دعا، وهو ما نتحدث عن بعضٍ منه على نحوٍ مختصرٍ إن شاء الله.

في مسألة الدعاء، الدعاء حالةٌ مطلوبةٌ من الإنسان في كُـلّ الأحوال؛ لأَنَّها -كما قلنا- جزءٌ من إيمَـانه، ومن التزاماته الإيمَـانية، ومن اهتماماته الإيمَـانية، تعبِّر عن عمق علاقته بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فهي حالةٌ مطلوبةٌ في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء، وفي مختلف الحالات، وفي مختلف الظروف، وفي مختلف الأوقات، فالإنسانُ المؤمنُ لا يغفلُ عن الله بشكلٍ مُستمرٍّ، لا يبقى في حالةٍ من الغفلة والنسيان والإعراض، وينكفئ على نفسه في همومه، في مشاكل حياته، في آماله ورغباته، في متطلبات حياته، كُـلّ شيءٍ في واقع حياته يشده إلى الله، حالة اليسر تشُدُّه إلى الله، وحالة العسر كذلك، حالة الرخاء تشده إلى الله، وحالة الشدة كذلك، الاهتمامات التي لديه المتعلقة بإيمَـانه ودينه ومستقبله في آخرته تشده إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وظروف وشؤون حياته هذه، بكل ما فيها من هموم ومشاكل ومعاناة، وبكل ما فيها من يسرٍ وخيرٍ، تشده إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فهو ذلك الذي يلتجئ إلى الله دوماً، ويتوجّـه إليه بالدعاء في كُـلّ الحالات، كُـلّ شيءٍ يشده إلى الله، يدفعه إلى الدعاء لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

البرنامجُ العبادي في الذكر والصلاة يشده إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، الأوقات المباركة، الأوقات المميزة، التي تعتبر فُرَصُ الاستجابة فيها أكثرَ، من أهم الأوقات عند الإنسان المؤمن التي يحاول أن يقتنص الفرصة فيها، وألَّا تفوته الفرصة فيها، فهو أَيْـضاً يبحث عن تلك الأوقات، وهو أَيْـضاً يحرص عليها، يحرص على المناسبات، على الأعمال؛ لأَنَّ هناك من الأوقات، ومن الأعمال، ومن الحالات، ما تكون فرصة الاستجابة فيها للدعاء أكثر، فهو يحرص على تلك الأوقات المميزة، الحالات المميزة، ومنها: شهر رمضان، ومنها: ليلة القدر أَيْـضاً في داخل شهر رمضان، ومنها: العشر الأواخر في شهر رمضان، ومنها: الأوقات المباركة على الدوام، مثل: أوقات السحر، أوقات آخر الليل، مثل: عقب الصلوات… أوقات متعددة تعطى فيها للإنسان فرصة أن يدعو الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وأن يحظى بالاستجابة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

ففي الآية المباركة يأتي الحث والترغيب في الدعاء، ما أكرم الله! ما أعظم رحمته وفضله! هو الذي يدعونا أن ندعوه، هو الذي يحثنا على أن ندعوه، هو الذي يرغِّبنا في أن ندعوه، ويعدنا بالاستجابة، ويرشدنا إلى أسباب الاستجابة، ويحذِّرنا من العوائق التي تمثِّل مشكلةً لنا وعائقاً في أن نحظى بالاستجابة.

في هذه الآية المباركة هو يقدِّم هذا العرضَ المباركَ منه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، يعرضه علينا، ينادينا، ويدعونا، ويرغِّبنا، هل نريدُ أكثرَ من ذلك؟! إلى درجة أن يعد هذا الوعدُ بالاستجابة: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ}، واللهُ يريدُ من كُـلّ عباده أن يدعوه، وليس فقط أن يتصوروا أنَّ هذه المسألة خَاصَّةٌ بمن بلغوا منتهى الصلاح منهم، أَو بلغوا أعلى مستويات الإيمَـان منهم، الكُلُّ عليهم أن يتوجّـهوا إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بالدعاء، وأن يحرصوا -في نفس الوقت- على أسباب الاستجابة.

في آخر الآية المباركة قال “جلَّ شأنه”: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، إذَا أردنا أن يستجيبَ اللهُ دعاءَنا، ووفق حكمته، وتحت سقف حكمته، وبمقتضى ما يدبِّره “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّه الحي، القيوم، الرحيم، عالم الغيب والشهادة، الأعلم بمصلحتنا منا، الأعلم بما فيه الخير لنا حتى منا، إذَا أردنا أن نعرفَ أسبابَ الاستجابة، فلنلحظ قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}، فلنستجبْ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ولنؤمنْ بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” إيمَـاناً ثمرته الثقة بالله، التوكل على الله، الرجاء الصادق في الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هذا الإيمَـان وهذه الاستجابة هي ما ينقصنا كَثيراً في واقعنا، وهي ما يؤثِّر علينا، إلى درجة أن يتساءل الإنسان: [لماذا أدعو فلا يستجاب لي في أكثر الأمور؟]، هناك نقصٌ كبير في مسألة الاستجابة، الاستجابة الجزئية التي هي الحالة الغالبة السائدة في مجتمعنا الإسلامي، في واقعنا بشكلٍ عام، مع إهمال لأشياء أَسَاسية لا تحصل الاستجابة فيها من جانب الناس، من جانب مجتمعنا الإسلامي، من جانبنا لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هي تمثل مشكلةً كبيرةً علينا.

المطلوبُ في الاستجابة أن تكون استجابة شاملة، أن نستجيبَ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في مختلف التزاماتنا الإيمَـانية: في الجانب السلوكي، في الجانب الأخلاقي، في الجانب الروحي والعبادي، في جانب المسؤوليات التي حدّدها الله لنا، ورسمها لنا… في مختلف الجوانب، أن نتجه، أن يكون هذا هو التوجّـه الأَسَاس نحو الاستجابة الشاملة، مع التوبة والإنابة إلى الله عند الزلل، عند التقصير، عند التفريط في شيءٍ ما، والرجوع العملي إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

عندما يكون التوجُّـهُ نحو الاستجابة الكلية، الشاملة، المتكاملة، حالة قائمة في واقعنا، ونسعى لأن نبادر إلى تلافي أي تقصير، وأن نرجعَ إلى الله عند كُـلّ زلل، فالله هو أرحم الراحمين، هو أكرم الأكرمين، هو ذو الفضل الواسع العظيم، هو الذي لا يخلف وعده أبداً، لا يخلف الله وعده، والذي يفي بما وعد به، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا، من ضمن الاستجابة أن نستجيبَ لله في الدعاء نفسه، أن نتوجّـهَ إلى الله بالدعاء؛ لأَنَّ هذا مما أمرنا به، ورغَّبنا فيه، ووجَّهنا إليه.

أيضاً من ضمن الاستجابة الكاملة والشاملة: الاستجابةُ أَيْـضاً في الأسباب العملية، يرتبطُ بالدعاء الأسباب العملية، ليس الدعاءُ بديلاً عن العمل، الدعاءُ في الحالة الإيمَـانية مرتبطٌ بالعمل، مبنيٌّ على أَسَاس الانطلاقة العملية، والاستجابة العملية، مثلاً: لا يمكن بأن نكتفي بالدعاء بأن ينصرنا الله على أعدائنا فحسب، ونتنصل عن مسؤولياتنا العملية التي ترتبط بالنصر، فالله تعالى يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}[محمد: من الآية7]، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأموالكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: من الآية41]، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: من الآية46]… وهكذا تأتي تعليمات وتوجيهات كثيرة ترتبط بهذه المسألة، فنأتي في حالة الاستجابة الكاملة إلى الأخذ بهذه الأسباب العملية، وندعو الله، ندعوه بأن ينصرنا، {وَانْصُرْنَا}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسرافنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، ندعوه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” من ميدان العمل، في إطار الأخذ بالأسباب العملية.

في مسألة الرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك: من الآية15]، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[الجمعة: من الآية10]، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا}[النساء: من الآية32]، الأخذ بالأسباب العملية، ومع الأسباب العملية يأتي الدعاء أَيْـضاً.

ففي إطار الفرص المميزة لاستجابة الدعاء، يأتي شهرُ رمضانَ المبارك، وتأتي هذه الآية المباركة، التي تُلفِتُ نظرَنا إلى هذه الفرصة، وإلى أهميّةِ المسألة بشكلٍ عام، ويأتي في آخرها قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وما أحوجنا إلى الرشد! ما أحوجنا إلى أن نهتدي إلى الخير في شؤون ديننا ودنيانا، في شؤون دنيانا وآخرتنا! ما أكثر ما يتخبط فيه الناس، وهم يسعون وراء الخير، كُـلّ إنسان يريد الخير لنفسه، الإنسان هو مفطورٌ على ذلك، يريد الخير لنفسه، ولكن ما أكثر الوسائل، والأعمال، والتصرفات، التي تصدر من الإنسان، ويريد أن تكون وسيلةً يصل بها إلى خيرٍ لنفسه، أَو يحقّق بها خيراً لنفسه، فلا يصل، بل ينتج عن الكثير منها النتائج السيئة، المعاكسة، يعمل عملاً معيناً، ينطلق على أَسَاس رؤية معينة، فكرة معينة، وهي في عواقبها سيئةٌ عليه، لا توصله إلى الخير، الاهتداءُ إلى الخير يحتاجُ إلى فكرة صحيحة، يعتمد على رؤية سليمة، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” إذَا استجبنا له، إذَا انطلقنا وفق هديه، تعليماته، توجيهاته، هو الأعلم بالخير لنا، وهو مصدر كُـلّ الخير “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، بيده الخير، وهو على كُـلّ شيءٍ قدير، فلكي نرشد، فلكي نهتدي للخير في مساعينا، في أعمالنا، في اهتماماتنا، فيما نطلبه ونسعى إليه، نحتاج إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، إلى هديه، ونستجيب له، ونؤمن به، وهذا ما يوصلنا إلى الخير كله في الدنيا والآخرة.

استجابةُ الدعاء أَيْـضاً يرتبطُ بها التدبيرُ الإلهي، وليست مسألةً متروكةً إلى مزاج الإنسان، إلى سقفه وسقف رغباته، وأهوائه، وآماله التي قد لا تكون منضبطةً بالحكمة، ولا وفق تدبير الله العام الحكيم، الإنسان أحياناً ينطلق من منطلق رغباته، والتي هي مزاجيةٌ إلى حَــدّ كبير، وأهوائه، ولا يلتفت لا إلى واقعه العملي من جهة، ولا إلى واقع الحياة من جهةٍ أُخرى.

{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: من الآية3]، أمور الكون، أمور الحياة مُدَبَّرةٌ بتدبير الله الحي القيوم الحكيم، وهناك الأسباب والنتائج، والسنن التي رسمها الله في شؤون هذه الحياة، لا يمكن للإنسان، لا يمكن له هو وفق رغباته أن يخترق هذه السنن التي نظَّم الله واقع الحياة على أَسَاسها، ولكن تبقى هناك مساحة مهمةٌ جِـدًّا، مساحةٌ هي الكفيلة بالانتقال بك إلى الخير، إلى الفلاح، هي الكفيلة بالنقلة بك إلى ساحة الرحمة الإلهية، الإنسان يدعو الله، ويكون واثقاً بالله، ومقتنعاً بأن الله هو الحكيم، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، هو الأعلم بمصلحته، فالإنسان أحياناً يطلب شيئاً من الله بإلحاح، وبعض الأشياء قد لا تكون مناسبةً للإنسان في علم الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، قد يترتب عليها ما يؤثر على الإنسان في حياته، أَو في دينه، فيكون من رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” ألَّا يستجيب لك في ذلك، وأن يبدلك خيراً منه، ويعطيك مكافئةً ورحمةً وتفضلاً منه في مقابل دعائك، التجائك، طلبك، ما هو خيرٌ لك.

في القرآن الكريم عندما نعودُ إلى أنبياء الله –والقرآنُ الكريم يتحدث عن دعائهم- نجدُ مختلفَ الأدعية، أنواعَ الأدعية، التي تتعلق بجوانب كثيرة، بشؤونٍ متعددة من ظروفهم وشؤونهم، ونجد في مقدِّمة ما يطلبونه من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هو: المغفرة، وهذا يعلمنا أن يكون في مقدمة ما نطلبه من الله، ومن أهم ما نطلبه من الله، هو المغفرة، نحن بحاجة إلى المغفرة، لا شيء يضُرُّنا كذنوبنا، كمعاصينا، كتقصيرنا، كتفريطنا، لا شيء يسبِّبُ لنا أن نخسَرَ الكثيرَ الكثير من رعاية الله، من رحمته، من فضله، مثل المعاصي والذنوب، والتفريط والتقصير، ولذلك يأتي الطلب بالمغفرة من واقع الوعي بهذه الحقيقة، ومن واقع الوعي بخطورة الذنوب والمعاصي على مستقبل الإنسان الأبدي الدائم، الكبير والمهم والعظيم في الآخرة.

فنجد في دعاء أنبياء الله: نوح، وإبراهيم، وكذلك يعقوب، وموسى، داوود، وسليمان، وموسى، وعيسى، وزكريا… أنبياء كثر نجد في أدعيتهم في القرآن الكريم التركيز على مسألة المغفرة، على جوانب مهمة يحتاج إليها الإنسان.

أيضاً في أدعيةِ نبي الله نوح، مع الدعاء بالمغفرة، الدعاء بالنصر، بعد جهدٍ عمليٍّ كبير، تسعمِئة وخمسين سنة من الصبر، من العمل، من الجهد، من المثابرة، ويأتي الدعاء بطلب النصر.

إبراهيمُ “عليه السلام”، أدعيةٌ متنوعة، منها طلب المغفرة، منها أدعية بالذرية المباركة والطيِّبة.

يعقوبُ “عليه السلام” في محنته الكبيرة، كيف كان دائمَ الرجوع إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ}[يوسف: من الآية86]، عانى من الحزن الشديد، والمحنة الشديدة، فصبر، وبثَّ شكواه إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والتجأ إلى الله بالدعاء على طول تلك المحنة التي استمرت لسنواتٍ طويلة؛ حتى فرَّج الله عنه حزنه، وكشف غمه.

أيوب “عليه السلام” في معاناته الصحية، التي صبر فيها لدهرٍ طويل، ووقتٍ طويل، والتجأ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بالدعاء، حتى فرَّج الله عنه.

زكريا “عليه السلام” -كلهم هؤلاء من أنبياء الله- عندما التجأ إلى الله في أن يرزقه الذرية الطيبة، حتى في وقتٍ متأخر، فالتجأ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، واستجاب الله دعاءه.

ونجد في دعائهم الالتجَاءَ إلى الله من عمق قلوبهم، من أعماق قلوبهم، التجَاء إلى الله التجَاء عميقاً، التوجّـه إلى الله توجّـهاً قوياً، توجّـهاً بالخشوع، والرغبة، والرهبة، إقبال عجيب إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وكذلك من موقع الثقة بالله، والرجاء لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، لا يأس من رَوْحِ الله، ولا قنوط من رحمته.

نبي الله إبراهيم، ذكر الله عنه أنه قال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر: الآية56]، لا قنوط من رحمة الله، لا يأس من رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، مهما طالت بالإنسان محنته، أَو آلامه، أَو همومه، أَو… مهما كانت الظروف التي يعيشها الإنسان، مهما كان مستوى الصعوبات، والتعقيدات، والتحديات، التي يواجهها الإنسان، لا يأس ولا قنوط من رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

نبي الله يعقوبُ “عليه السلام” ذكر الله عنه أنه قال لأبنائه: {وَلَا تَيْأسوأ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: من الآية87]، فمهما طالت المحنةُ، مهما كانت الغمة، مهما كانت التعقيداتُ والصعوبات، ومهما كان حجم المعاناة، لا يأسَ من رَوْحِ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

الإنسانُ يبقى راجياً لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، رجاؤك جزءٌ من إيمَـانك الصادق، والإنسان له تجارب في مسألة الاستجابة، كُـلّ إنسان له تجارب في مسألة الاستجابة لدعائه، كيف يستجيب الله الدعاء في حالة الكرب والاضطرار، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرض}[النمل: من الآية62]، كم قد تكون الحالات الكثيرة التي توجّـه الإنسان إلى الله فيها وهو في حالة الاضطرار، الكرب الشديد، الضائقة الشديدة جِـدًّا، الألم الشديد جِـدًّا، فتضرع إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وتوجّـه من كُـلّ أعماق قلبه إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، مستغيثاً، راجياً، متضرعاً، فاستجاب الله له وفرَّج عنه، ولكن الإنسان ينسى.

كَثيراً ما ينسى من كان من هذا النوع، الذي يلتجئ إلى الله في حالة الاضطرار الشديد، والضائقة الكبيرة جِـدًّا، ثم عندما يفرِّج الله عنه، عندما يخرج من تلك الحالة الشديدة يغفل، ينسى، يلهو، يعرض.

البعضُ من الناس هكذا حالهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَو قَاعِدًا أَو قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: الآية12]، من حالات اللؤم، من حالات الدناءة، من حالات الكُفران للنعمة، من حالات الإساءة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والتنكر لفضله، لرحمته، لجميل ما أسداه، أن تتعاملَ مع الله على هذا النحو: عند الضر الشديد، تدعو الله، تلتجئ إليه، تستغيثه، وعندما يفرِّج عنك، تعرض وتتجه في هذه الحياة وكأنك لم تدع الله ليكشف عنك ذلك الضر، وكأنه لم يكشف عنك ذلك الضر، أصبحت شخصيةً مختلفة، في ذهنك، في نفسك، في مشاعرك، لم تعد ذلك الذي أقبل إلى الله عند حالة الشدة الشديدة، والضر الشديد، تغيَّرت نفسيتك، تغيَّر إقبالك إلى الله، وتنكَّرت لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، واتجهت في واقع حياتك، في أعمالك، في تصرفاتك بما تسيء به إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، حالة إسراف، {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ}، يتنكَّر لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

البعضُ من الناس حتى في حالة الشدة تقسو قلوبُهم، يزداد يأسهم، يتنكَّرون لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، يفقدون الأمل والرجاء، وهي حالة خطيرة جِـدًّا، حالةٌ سيئة، لا تنسجم مع الإيمَـان أبداً، يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود: الآية9]، ييأس: لا يرجو الله، وكفور: يقنط من رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فيزداد قسوةً، ويزداد يأساً، ويكون لذلك آثاره السيئة على نفسه، على تصرفاته، على أعماله، فقد يتجه في واقع حياته لمعالجة مشاكله، وهمومه، وظروفه، بالأعمال السيئة، بالأعمال التي هي معصيةٌ لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهذه حالةٌ خطيرة.

الشيءُ الصحيحُ بالنسبة للإنسان المؤمن: أنه عندَ كُـلّ شدة، وفي كُـلّ مشاكله، في كُـلّ مشاكله يلتجئ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أولاً: من واقع الثقة بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والتوكل على الله، والرجاء في الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وتوجّـهاً صادقاً، توجّـهاً بالتضرع إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وهذا من أهم ما ينبغي أن يكون الإنسان عليه في حالة الدعاء لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، قال “جلَّ شأنه”: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إصلاحهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55-56].

الدعاءُ هو عبادة، بل هو -كما ورد في الحديث عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”- مخ العبادة، موقعه في العبادة مهمٌ جِـدًّا، ونحن نعبِّر عن عبوديتنا لله، وافتقارنا إلى الله، وإيمَـاننا بأنه المدبر لشؤون السماوات والأرض، من خلال الدعاء أَيْـضاً، كما أنه أَيْـضاً صلة تعبِّر عن علاقتك الإيمَـانية بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، في التجائك إليه، في مناجاته، في ذكره وشكره، ولهذا يأتي الأمر بذلك والحث عليه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: من الآية60]، توجّـهوا إليه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” يستجب لكم.

فعندما نتوجّـهُ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” ينبغي أن نكونَ في حالة التضرع، أن نتوجّـه بتضرع إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أن نكون في حالة الدعاء في حالة تضرعٍ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، يعني: ألَّا نتجه في دعائنا بقلبٍ قاسٍ، وعينٍ جافة، وذهنٍ شارد، الحالة التي يتوجّـه الإنسان فيها بالدعاء إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” ومشاعره جامدة، لا خشوع، لا خضوع، لا استشعار للقرب من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، لا استشعار لواقعك أنك تتوجّـه في تلك الحالة بالدعاء إلى الله، بالمناجاة لله، بالتخاطب مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فتكون في جوٍ بعيدٍ عن الأدب، أدب المقام، مقام العبد بين يدي ربه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” وأنت تتوجّـه إلى الله، فمشاعرك الجامدة، قلبك القاسي، ذهنك الشارد، الذي لم يركِّز حتى معك، لم يركِّز حتى على ما تقول وأنت تدعو، هذه الحالة بعيدة عن الاستجابة لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

مما يميز حالةَ الشدة، وحالةَ الاضطرار: أنَّ الإنسانَ يتوجّـهُ فيها بالدعاءِ من عمق قلبه، ووجدانه، وشعوره، فيكون توجّـهاً صادقاً، توجّـهاً يتجه فيه اتّجاهاً بالوجدان والمشاعر، وليس فقط باللسان.

فالدعاءُ عندما يأتي كحالة فقط على أطراف اللسان، لا يعيش معها الإنسان بقلبه، بوجدانه، بفكره وذهنه، هي حالة لا مبالاة، تعبِّر عن عدم الاهتمام، عن عدم الجدية، وتعبِّر عن حالة الغفلة لدى الإنسان وهو يقدم الموضوع بشكلٍ عاديٍّ جِـدًّا، هذه حالة في واقع الأمر لا يتعامل بها الإنسان مع الإنسان، إذَا أراد منه شيئاً، هو يتعامل بطريقة محترمة، وبإقبال، إقبالٍ في الذهن، إقبالٍ في التعبير، إقبالٍ نفسي، فالحالة التي نتوجّـه بها إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” ينبغي أن تكون بتوجّـه شعوريٍّ ووجدانيٍّ وذهنيٍّ ونفسيٍّ، وفي حالةٍ إيمَـانية، وبتضرع، بتذلل لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، بخشوع وخضوع لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، بشعورٍ بالافتقار إلى الله، وشعورٍ عميقٍ بالرجاء والأمل في فضله، في رحمته، في كرمه، بتذكرٍ لنعمه الواسعة التي لا تحصى ولا تعد، ومن واقع استجابة عملية.

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إصلاحهَا}، ادعوه واتجهوا بالاستقامة على منهجه، على دينه، على تعليماته، اتجهوا لتكونوا مصلحين في أرضه، مستقيمين على نهجه، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، مشاعرك لتكن مشاعر حيَّة، فيها حالة الخوف، فيها حالة الطمع والرجاء فيما عند الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، هذا بشارة، وفي نفس الوقت يلفت نظرنا إلى أن نكون من المحسنين؛ ليستجيب الله دعاءنا.

الدعاءُ أَيْـضاً يعبِّرُ عن اهتمامات الإنسان، فالبعض من الناس مثلاً كُـلّ أدعيتهم، أَو معظم أدعيتهم تتوجّـه نحو مطالب هذه الحياة، رغباتهم في هذه الحياة، لا تركز على الجوانب الإيمَـانية والدينية، ولا على مستقبلهم في الآخرة، فأكثر ما يطلبونه مثلاً: يطلبون الرزق، يطلبون ما يبتغونه من مطالب في هذه الحياة، وينسون ما عدا ذلك؛ ولذلك يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 200-201]، فتتجه اهتمامات البعض كلها نحو هذه الدنيا، {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، يطلب الرزق، يطلب الصحة، يطلب العافية، يطلب دفع الشر، دفع الضر، مطالب كلها دنيوية، ويقتصر على ذلك؛ لأَنَّ كُـلّ اهتماماته تتجه فقط إلى ذلك، هذه حالة خطيرة، {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلَاقٍ}، ليس له أي نصيب في الآخرة، هو في الأَسَاس لم يتجه في اهتماماته العملية، ولا النفسية، ولا في حتى دعائه، إلى مسألة الآخرة، كُـلّ ما يطلبه هو فقط من أمور هذه الحياة، ومتطلبات هذه الحياة فقط.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً}، فهو يتجه إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” من واقع رؤيةٍ صحيحة، الاحتياج إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في شؤون هذه الدنيا في حدود ما هو حسن، ما فيه الخير لنا في ديننا ودنيانا، {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، أُولئك قال عنهم: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، ما عاد بش حسنة، آتنا في الدنيا وبس، هؤلاء {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، ما يحسن به حالنا، ما تستقيم به أمورنا، ما لا يؤثر على ديننا، ما نرتفق به في شؤون حياتنا، تحت سقف: {حَسَنَةً}، {وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، مع طلب الوقاية من عذاب الله، طلب الخير في الآخرة، {أُولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}[البقرة: من الآية202]؛ لأَنَّ الدعاء لا بدَّ أن يرتبط به عمل، لا بدَّ أن ينطلق من واقعٍ عملي؛ حتى يستجاب له، {أُولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة: الآية202].

في شهرِ رمضانَ كموسمٍ عظيمٍ للدعاء، فيه فرصٌ مميزةٌ للاستجابة، في ظل الظروف الإيمَـانية والواقع الإيمَـاني، مع الصيام، مع القرآن، مع الأثر الروحي والتربوي لشهر رمضان في صيامه، وقيامه، وصالح الأعمال فيه، في آثارها النفسية والتربوية في مشاعر القرب من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وفيما نعيشه في واقع حياتنا من تحديات، من أخطار، من هموم، من مشاكل، من ظروف، ومنها: حالة الجدب العالمي، الذي شمل بلدنا، هناك جدب على مساحة واسعة من الأرض، على كثيرٍ من بلدان هذا العالم، وَأَيْـضاً على بلدنا، شمله هذا الجدب، وهناك معاناة كبيرة ناتجة عن هذا الجدب، هذا الجدب هو واحدٌ من همومنا في ظروف حياتنا ومعيشتنا، تأثيراته السلبية علينا في الأرياف، في الإنتاج الزراعي، في ظروف المعيشة، حتى في توفر مياه الشرب في كثيرٍ من المناطق الريفية، هذه الحالة يجب أن نعود فيها إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أن نتضرع إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ضمن اهتماماتنا، نطلب من الله المغفرة، نطلب من الله الهداية، نطلب من الله النصر، نطلب من الله العون، نطلب من الله التوفيق، نطلب منه “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” الرزق، الخير، الفرج، نطلب من الله متطلباتنا الأَسَاسية على المستوى العام، وعلى المستوى الشخصي، كُـلّ إنسان له همومه، له مشاكله، له معاناته، له ظروفه الخَاصَّة، ومشاكله الخَاصَّة أحياناً، نلتجئ إلى الله في كُـلّ ذلك، ندعوه خوفاً وطمعاً، نرغب إليه، نثق به، نتوكل عليه، نلتجئ إليه، ومن واقع الاستجابة العملية، كتوجّـه نتوجّـه به في واقعنا على أَسَاس الاستجابة لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، نتوجّـه بالتوبة الدائمة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وصف الله عباده المؤمنين الصادقين المتقين بقوله تعالى في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ}[التوبة: من الآية112]، {التَّائِبُونَ}، يتوبون إلى الله باستمرار من تقصيرهم، من ذنوبهم، وبالرجوع العملي.

من أهم ما يجبُ الرجوعُ فيه على المستوى العملي: التخلُّصُ من الحقوق والمظالم، إخراج الزكاة، وللأسف فالكثير من المزارعين هم ممن يبخلون بإخراج الزكاة، وهذا يؤثر، يؤثر على البركات، يؤثر على الأرزاق، حالة الرجوع إلى الله يجب أن تكون من الجميع، من المسؤولين أَيْـضاً؛ لأَنَّها تصدر من جانبهم الكثير من المظالم، الكثير من المعاصي، ومن المواطنين، نحن كلنا معنيون بالرجوع الصادق إلى الله، بالتوبة، بالدعاء، بالتضرع، بالإنابة، بالاستغفار، بالالتجَاء إلى الله، وبالرجوع العملي في إصلاح واقعنا العملي، لتكن حالة الشدائد مفيدةً لنا في أثرها في عودتنا إلى الله، وفي رجوعنا العملي، الذي نصلح به أعمالنا، نفتش فيه عن جوانب التقصير لدينا، نحرص فيه على أن نحقّق الاستجابة المتكاملة لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، في كُـلّ مجالات حياتنا، فنتضرع إلى الله، ونلتجئ إلى الله.

حالةُ البأساء والضراء من أهمِّ ما فيها أن تكونَ دافعاً للتضرع وللعودة إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أخذنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}[الأعراف: الآية94]، هنا نلاحظ قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، يتذللون لله، يخشعون لله، يخضعون لله، يعودون إلى الله بالتوبة والإنابة والرجوع العملي، بدلاً من أن تكون الحالة هي قسوة القلوب، أَو اليأس والقنوط، التي هي حالة خطيرة جِـدًّا على الإنسان.

قال اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ أرسلنَا إلى أمم مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[الأنعام: الآية42]؛ لأَنَّها هي الحالة الصحيحة، التي تنفعهم، التي تنقذهم، التي تخرجهم مما هم فيه من الضيق، {فَلَوْلَا، إذ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: الآية43]، هذه هي الحالة الخطيرة جدًّا: أن تقسو القلوب، وأن يزين الشيطان للناس أعمالهم، فيستمروا على حالة التقصير، يستمروا على أسباب المؤاخذة، والعقوبة، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أن يستمروا على الأسباب التي أَدَّت إلى ذلك.

فالحالةُ الإيمَـانية، الحالة الصحيحة، الحالة الإيجابية المفيدةُ النافعة: هي بالرجوعِ إلى الله على المستوى العملي، وبالتضرع، بالدعاء، بالاستغفار، ليتوجّـه الجميع في هذه الليالي المباركة بالتضرع، بالدعاء، بالاستغاثة، بالالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.

ثم تأتي صلاةُ الاستسقاء، مثلاً: في نهايةِ كُـلِّ أسبوع؛ حتى يفرِّجَ الله، لكن لا تكون يتيمةً، لا تكون صلاة الاستسقاء يتيمة، الناس يتعودون على أن يصلوا فقط صلاة الاستسقاء، صلاة الاستسقاء ينبغي أن يتقدمها الاستغفار، أن يتقدمها الذكر لله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، على نحوٍ مُستمرّ، في الليل والنهار، عقب الصلوات، والإكثار من الاستغفار، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح: 10-11]، والتوجُّـهُ على أَسَاس الرجوع العملي، الرجوع العملي، والاهتمام بالزكاة، والاهتمام بالصدقات للفقراء والمساكين، والاهتمام بالتوبة، والتخلص من المعاصي، والكف عن الذنوب.

نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيِّاكم لما يُرْضِيه عنا، وأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يتقبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَاْمَ وَالقِيَاْمَ وَصَالِحِ الأَعْمَالِ، وأن يفرِّجَ عنا، وأن يَمُنَّ علينا من واسع فضله، وأن يغيثَنا بغوثه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com